بازگشت

تأثير النياحة علي الحسين في الاقطار العالمية


الآن و قد انتهيت من سرد حوادث تاريخ العزاء الحسيني و النياحة عليه، و احياء ذكري مجزرته في كربلاء منذ بدئها حتي العصور الأخيرة، و كذا الأدوار التي مرت عليها في مختلف القرون و العصور و المراحل التي اجتازتها من مد و جزر علي أيدي الحكام و أصحاب السلطة، و تمسك الوالين لآل بيت النبوة بهذا التقليد، الذي أصبح لديهم من مستحبات شؤونهم التي يتقيدون بها في شهري محرم و صفر من كل سنة، و في العشرة الأولي من محرم بالأخص، و كذا في بعض أيام الأسبوع علي طول السنة، مما عودوا أنفسهم عليها، و توارثها الخلف عن السلف.

و حيث ان احياء هذه الذكري الحزينة و اقامة شعائرها التقليدية، قد تعدت المركز الرئيسي للحادث المحزن - أي العراق - الي سائر البلدان الاسلامية، و حتي كثير من الأصقاع غير الاسلامية، فاني أفضل أن أختم رسالتي هذه بسرد بعض ما يجري في هذه الأقطار خلال شهري محرم و صفر من كل سنة، أو العشرة الأولي من محرم، أو يوم عاشوراء فقط، من احياء ذكري هذا الحادث المحزن.

ان كل من جاب عواصم و حواضر و مدن الأقطار الاسلامية في أرجاء المعمورة، سيما المجتمعات الشيعية في هذه الأقطار و بالأخص منها العراق، و البلاد العربية الاخري، و الهند، و ايران، و أفغانستان، و غيرها من الأقاليم الآسيوية، و بعض بلدان افريقية وجد المباني، الفخمة، و العمارات الكبيرة مقامة، و تدعي عند


العرب «الحسينية» و عند الهنود «امام بهره» و عند الفرس «مأتم سرا أو حسينية أو تكية» و سائر الأقطار تسميها باسمها العربي «الحسينية» و في هذه المباني التي يوقفها أصحابها علي اقامة النياحات فيها علي الامام الحسين عليه السلام و يوقفون عليها أوقافا كثيرة و صدقات جارية، تنفق ايراداتها و أرباحها علي ادارة هذه الحسينية. و في هذه المباني تقام مجالس العزاء و النياحة لذكري الامام الشهيد عليه السلام. و في هذه المجالس التي تغص بالمجتمعين و المستمعين من شتات المسلمين يرقي الخطيب المنبر، فيفتتح كلامه بسرد آي من الذكر الحكيم، و تفسير علومها من أحاديث الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم و الائمة الطاهرين عليهم السلام ثم يتلو تاريخ مجزرة كربلاء، منذ البداية حتي النهاية، موجزا أو تفصيلا، حسب مقتضيات المجلس و ظروفه.

و هذا الخطيب الذي يطلق عليه في أكثر البلدان العربية و الاسلامية اسم «خطيب المنبر الحسيني» أو اسم «روضة خوان» هو خطيب جرد نفسه لخدمة النياحة علي الحسين عليه السلام وآله، و أحيانا النوح علي مصائب سائر الأئمة عليهم السلام أيضا و قد جعل مهنته في الحياة هذه الخدمة الشريفة.

أما كلمة «روضة خوان» فمشتقة من لفظتين عربية و فارسية، فالروضة مأخوذة من اسم كتاب «روضة الشهداء» تأليف المولي الحسين بن علي الكاشفي، المعروف بالواعظ البيهقي، المتوفي سنة «910 ه» و «خوان» فارسية بمعني «القراءة» و تأتي جملة «روضة خوان» بمعني «قاري ء الروضة».

و قد جرت العادة أن توزع في هذه المجالس نياحة في أولها أو في آخرها المبردات، أو الشاي أو القهوة، أو بعض المأكولات التي تتناسب و تلك المشروبات حسب فصول السنة من برد أو حر، و نفقات هذه المجالس تبذل من موقوفات الواقفين أو من خيرات أصحاب البر.

وقد ثبت مما أوردته في الفصول السابقة أن اقامة العزاء الحسيني و النياحة علي الامام الحسين عليه السلام و آله و صحبه ترقي بتأريخها الي عهد قديم، أي القرن الاول


الهجري، والي زمن وقوع هذه الفجيعة العظمي، أي منذ استشهاد الامام عليه السلام و ما يقرب من عهد الصحابة و التابعين لهم. و كما قلت في تلك الفصول: ان هذا العزاء كان في أول أمره محدودا جدا و صغير الحجم، و كان يقام تحت التستر و الخفاء و التقية، كما أن اقامة هذه النياحة علي الامام الشهيد لم تكن كما يتصوره البعض من مستحدثات القرون الوسطي و الاخيرة، مدعين أنها تولدت علي عهد الملوك الصفويين، و انما هي قديمة و لكنها علي زمن الصفويين اتسع نطاقها، و اشتد اقبال الناس عليها.

و كما مر في تلك الفصول أيضا: انه كلما توسع المذهب اشيعي في العراق أو سائر البلدان العربية و الاسلامية، و خفت و طأة السلطات المعادية له، كلما اشتد الموالون لآل الرسول صلي الله عليه و آله باقامة ذلك العزاء و تلك النياحة، تحت اسم الرثاء أو النياحة خاصة في مشاهد الأئمة الأطهار عليهم السلام. و كما أثبت التاريخ أن جذور هذه النياحات و المآتم كانت في العراق ثم اتسع نطاقها وامتدت الي الشعوب و الأمم الأخري، كمصر علي عهد الفاطميين، و ايران علي عهد الصفويين، و سوريا و الموصل و لبنان علي عهد الحمدانيين، و المغرب الأفريقي علي عهد العلويين و الادريسيين، و الهند علي عهد كثير من راجات الشعية و ملوكهم.

و لذلك أبدأ بوصف موجز جدا لما كان و لم يزل يجري في البلاد العربية، ثم البلدان الاسلامية و الاقطار العالمية، من مراسم و شعارات مجالس الحزن و مجتمعات النياحة علي الحسين عليه السلام و بعض ما تناقلته المؤلفات و أقلام الكتاب من مغزي هذه الفاجعة العظيمة:

1- جاء في الصفحة «135» من كتاب «نهضة الحسين»لمؤلفه السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما عبارته:

«و امتدت جاذبية الحسين عليه السلام و صحبه من حضرة الحائر الي تخوم الهند و أعماق العجم، وما وراء الترك و الديلم و الي أقصي من مصر و الجزيرة و المغرب


الأقصي يرددون ذكري فاجعته بممر الساعات و الأيام، و يقيمون مأتمه في رثائه و مواكب عزائه، و يجدون في احياء قضيته في عامة الانام، و يمثلون واقعته في ممر الأعوام...» الخ.

2- قال جرجي زيدان في ختام روايته «غادة كربلاء» ما نصه:

«لا شك أن ابن زياد ارتكب بقتل الحسين جريمة كبري لم يحدث أفظع منها في تاريخ العالم، و لا غرو اذا تظلم الشيعة لقتل الحسين و بكوه في كل عام، و مزقوا جيوبهم و قرعوا صدورهم أسفا عليه، لأنه قتل مظلوما».

3- جاء في الصفحة «162» من كتاب «نهضة الحسين» في طبعته الخامسة، بقلم نجل المؤلف السيد جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما نصه:

«اهتمام الأقطار الاسلامية بعزاء الحسين: وهكذا أصبح المسلمون في اليوم العاشر من محرم كل عام يحتفلون بذكري عاشوراء، احياء لذكري شهيد الطف الامام الحسين عليه السلام في جميع الأقطار الاسلامية.. و يعتبر هذا اليوم عطلة رسمية لدي معظم هذه الدول، و يشترك كثير من رؤساء الدول الاسلامية في مراسميه.

و حين تمر هذه الذكري بالمسلمين في العشرة الأولي من محرم أو في اليوم العاشر منه، فانه تغمر غالبية العالم الاسلامي موجة من الأسي، و يخيم عليه سحاب من الحزن كأن الامام الحسين قد قتل حديثا، و كأن أشلاء آله و أنصاره لا تزال علي منظرها المؤلم فوق تلك الترب، و كأن دم أولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور علي تلك الارض.. فيثير في نفوس المسلمين كل تلك المشاعر و الأحزان، مما جعلت معظم الحكومات العربية و الاسلامية تحافظ علي حرمة هذه المناسبة، و تلاحظ شعور المسلمين نحوها... و من أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللهو و اللعب، و حانات الخمور و الشرب و المسارح، و أمثالها مما تحمل طابع اللهو و الطرب، كما تقلص علي غرارها ما في برامج الاذاعة و التلفزيون خلال العشرة الأولي من المحرم ببرامج تتسم بالطابع الديني و الروحي و العلمي، مجردا من


كل أسباب اللهو و الطرب... كل ذلك رعاية لشعور المسلمين، و احتراما لمكانة هذه الذكري. كما هو الحال في العراق و ايران و في الهند و الباكستان و عديد من الدول الاسلامية الأخري...

والمسلمون اذ يحتفلون بهذه الذكري الدامية ببالغ الأسي و عظيم الألم، انما يشيدون فيها بموقف الامام الحسين في ساحة الطف، و يمجدون مواقف آله و أصحابه و ما قدموه في ذلك الموقف، من جسيم التضحية، و عظيم البسالة التي أدهشت الأجيال، و أذهلت التاريخ.

ثم هم اذ يعبرون في احيائهم لهذه الذكري الدامية عن شعورهم نحو الامام الشهيد، فانهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته، واستشهاده؛ وباختلاف مداركهم و عاداتهم

فمنهم من يعتبره عيدا مجيدا؛ لأن الفضيلة فيه قد انتصرت علي الرذيلة، و أن الامام بموقفه ذاك من يزيد قد أسند تعاليم جده سيد الرسل... و جدد مجد شريعته السمحاء... كما هو الحال لدي المسلمين في بعض أنحاء المغرب العربي بشمال افريقية، الذين يعتزون بهذه الذكري.

و منهم من يندفع مع العاطفة الي ايلام نفسه و ايذائها بمختلف الوسائل و الأساليب، كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير، ظنا منه أن هذا النحو من الايذاء من دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء... كما هو الحال في بعض أنحاء العراق، و ايران، و الهند و الباكستان».

و يستطرد الكاتب كلامه في الصفحة «164» من كتابه، فيقول:

«والي جانب ما تقدم تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق و ايران، و المساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند و الباكستان و غيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصب أهلها في الحب و الولاء لآل البيت النبوي حلة من السواد، كشعار الحزن و الحداد... و تبتعد عن مظاهر الزينة و البهجة، و مباعث الأنس


والانشراح.

هذه هي الحالة في العشرة الأولي من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكري ان لم يكن الشهر كله من كل عام. و في الأقطار الاسلامية كالعراق، و ايران، و الهند، و الباكستان الي ما بعد العشرين من صفر، حيث تستكمل هذه الذكري يومها الأربعين. و لها زيارتها الخاصة، و مراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق... حيث يأمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين عليه السلام و الطواف حول ضريحه في ذكري أربعينة.. و تطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليمن و البركة».

4- جاء في الصفحة «280» من «موسوعة العتبات المقدسة» قسم كربلاء، ما نصه:

«ان الكاتبة الانجليزية القديرة (فرايا ستارك) كانت قد كتبت فصلا صغيرا عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم «صور بغدادية» و تبدأ هذا الفصل بقولها: ان الشيعة في جميع أنحاء العالم الاسلامي يحيون ذكري الحسين و مقتله و يعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولي كلها، حتي يصل بهم مد الأحزان البطي ء الذي يستولي علي أنفسهم الي أوجه بمواكب العزاء التي تخرج في اليوم الأخير، حاملة النعش بجثته المذبوحة».

ثم تشير الكاتبة الي مواكب العزاء و السبايا التي تمثل فيها وقائع معركة كربلاء كلها، و هي تقول:

«ان هذه المواكب التي تقام في بغداد و المدن المقدسة يعرف مجيئها من بعيد، بصوت اللطم علي الصدور العارية».

5- جاء في الصفحة «297» من الموسوعة السالفة الذكر قسم كربلاء، نقلا عن رحلة «جون أشر» الانجليزي منقولا عن المؤرخ «غيبون» بعد سرد مجزرة كربلاء، فيقول:


«ان الشيعة من المسلمين في العالم يقيمون في كل سنة مراسيم العزاء الأليمة تخليدا لبطولة الحسين و استشهاده فينسون أرواحهم فيها من شدة ما ينتابهم من الحزن و الأسي».

6- نقلت مجلة «العلم» النجفية عن جريدة «حبل المتين» الفارسية التي كانت تصدر في الهند مقالا كتبه الدكتور جوزف الفرنسي، عن المسلمين في أنحاء العالم و تقسيمهم الي فرقتين: شيعية و سنية، و ما اتصف به الشيعة من التقية، قال فيه:

«و يقيم الشيعة المآتم تحت الستار، يبكون فيها علي الحسين، فأثرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة الي حد أنه لم يمر عليها زمن طويل حتي بلغت الأوج في الشرق، ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء و كثير من الملوك و الخلفاء، فبعضهم أخفي ذلك تقية، و بعضهم أظهره جهارا».

و يستطرد الكاتب الفرنسي فيقول:

«و يمكن القول بانه لا يمضي قرن أو قرنان حتي يزيد عدد الشيعة علي عدد سائر فرق المسلمين. والعلة في ذلك هي اقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية الي مذهبه، اليوم لا توجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة الا ويقيمان فيها المأتم، و يبذلان المال و الطعام، رأيت في ميناء «مارسل» في الفندق شخصا واحدا عربيا شيعيا من اهل البحرين، يقيم المأتم منفردا، جالسا علي الكرسي، بيده الكتاب يقرأ و يبكي، و كان قد أعد مائدة من الطعام فرقها علي الفقراء.

هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال علي قسمين: فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل بقدر استطاعتهم ما يقدر بالملايين من الفرنكات و البعض الآخر من أوقاف خصصت لاقامة هذه المآتم، و هذا البلغ طائل جدا».


ثم يواصل الكاتب الفرنسي كلامه و يقول:

«فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم و اشتغلوا بهذا العمل، فهم يتحملون المشاق ليتمكنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم، و المصائب التي أصابت اهل هذا البيت، بأحسن وجه و أقوي تقدير علي رؤوس المنابر و في المجالس العامة. و بسبب هذه المشاق التي اختارتها هذه الجماعة في هذا الفن يفوق خطباء هذه الفرقة علي جميع الطوائف الاسلامية».

و يستطرد الكاتب فيقول:

«ان العدد الكثير الذي يري اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير اقامة هذه المآتم. فرقة الشيعة حتي في زمن السلاطين الصفوية لم تسع في ترقي مذهبها بقوة السيف بل ترقت هذا الترقي المحير للعقول بقوة الكلام الذي هو أشد تأثيرا من السيف، ترقت اليوم هذه الفرقة في أداء مراسيمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتبعونها في حركاتها، جم غفير من الهنود والفرس و سائر المذاهب أيضا شاركوهم في أعمالهم».

و يواصل الكاتب قوله بهذه العبارة:

«و من جملة الأمور السياسية التي ألبسها رؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب منذ عدة قرون، و صارت مؤثرة جدا لجلب قلوبهم و قلوب غيرهم، هي أصول التمثيل باسم المأتم و التعزية في مأتم الحسين».

و يقول الكاتب بعد ذلك:

«فرقة الشيعة حصلت من هذه النكبة علي فائدة تامة، فألبست ذلك لباس المذهب. وعلي كل حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل علي قلوب العامة و الخاصة في اقامة العزاء و المأتم قد حصل:

فمن جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة و علي المنابر المصائب التي وردت علي رؤساء دينهم، و المظالم التي نزلت علي الحسين مع تلك


الأحاديث المشوقة الي البكاء علي مصائب آل الرسول، فبيان تلك المصائب للأنظار أيضا له تأثير عظيم، و يجعل العام و الخاص من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصور. و هذه النكات الدقيقة أصبحت سببا في أنه لم يسمع بأحد من هذه الفرقة من ابتداء ترقي مذهب الشيعة أنه ترك دين الاسلام، أو دخل في فرقة اسلامية أخري. هذه الفرقة تقيم المآتم بأقسام مختلفة، فتارة في مجالس مخصوصة و مقامات معينة، و حيث انه في أمثال هذه المجالس المخصوصة و المقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الأخري معهم أقل، أوجدوا المآتم بوضع خاص، فعملوا في الأزقة و الأسواق، و داروا به بين جميع الفرق. و بهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق منهم و من غيرهم بذلك الأمر الذي يجب أن يحصل من البكاء. و لم يزل هذا العمل شيئا فشيئا يورث توجه العام و الخاص اليه حتي أن بعض الفرق الاسلامية الأخري و بعض الهنود قلدوا الشيعة فيه، و اشتركوا معهم في ذلك. و هذا العمل في الهند أكثر رواجا منه في جميع الممالك الاسلامية، كما أن سائر فرق الاسلام هناك أكثر اشتراكا مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد.

و يظن أن هذ العمل بين الشيعة قد جاء من ناحية سياسة السلاطين الصفوية، الذين كانوا أول سلسلة استولت علي السلطة بقوة المذهب، و رؤساء الشيعة الروحانيون أيدوا هذا العمل، و أجازوه شيئا فشيئا.

و من جملة الأمور التي صارت سببا في ترقي هذه الفرقة و شهرتها في كل مكان، هو ازادة أنفسهم بالرأي الحسن، بمعني أن هذه الطائفة بواسطة مجلس المآتم و اللطم و الدوران و حمل الأعلام في مأتم الحسين جلبت اليها قلوب باقي الفرق، بالجاه و الاعتبار، و القوة و الشكوكة».

و يختم الكاتب كلامه بقوله:

«لهذا نري أنه في كل مكان و لو كانت جماعة من الشيعة قليلة، يظهر عددها في الأنظار بقدر ما هي عليه مرتين، و شوكتها و قدرتها بقدر ما هي عليها


عشرات المرات و أكثر أسباب معروفية هؤلاء القوم و ترقيهم هي هذه النكبة.

و مصفنوا أوربا الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين و أصحابه و قتلهم، مع أنه ليس لهم عقيدة بهم قط، أذعنوا بظلم قاتليهم و تعديهم، و عدم رحمتهم، و يذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز، و هذه الأمور طبيعية لايقف أمامها شي ء، وهذه النكبة من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة».

7- جاء في الصفحة «200» من كتاب «المجالس السنية» المار ذكره، نقلا عن رسائل الحكيم و الفيلسوف الالماني في رسالته عن النهضة الحسينية و تأثيرها علي العالم الاسلامي، قول هذا الفيلسوف عن تأثير اقامة المآتم الحسينية علي حياة المسلمين و تقدمهم، قوله:

«وليس لواحدة من الروابط الروحانية التي بين المسلمين اليوم تأثير في نفوسهم كتأثير اقامة مآتم الحسين، فاذا دام انتشار و تعميم هذه المآتم بين المسلمين مدة قرنين آخرين لابد أن تظهر فيهم حياة سياسية جديدة، و ان الاستقلال الباقي للمسلمين اليوم نصف أسبابها هو اتباع هذه النكبة و سنري اليوم الذي يتقوي فيه سلاطين المسلمين تحت ظل هذه الرابطة، و بهذه الوسيلة سيتحد المسلمون في جميع انحاء العالم تحت لواء واحد؛ لأنه لا يري في جميع طبقات الفرق الاسلامية من ينكر ذكر مصائب الحسين و ينفر منها بسبب ديني، بل للجميع رغبة طبيعية بشكل خاص في أداء هذه المراسيم المذهبية، و لا يري في المسلمين المختلفين في العقائد سوي هذه النكبة الاتحادية.

الحسين أشبه الروحانيين بحضرة المسيح، و لكن مصائبه كانت أشد و أصعب. كما أن أتباع الحسين كانوا أكثر تقدما من أتباع المسيح في القرون الأولي، فلو أن المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين، أو أن أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقياتهم عقبات من نفس المسلمين، لسادت احدي الديانتين في قرون عديدة جميع المعمورة، كما أن من حين زوال العقبات عن طريق أتباع الحسين


أصبحوا كالسيل المنحدر يحيطون بجميع الملل و سائر الطبقات».

8- جاء في الصفحة «381» من «موسوعة العتبات المقدسة» قسم كربلاء، ما نصه:

«في سنة 1943 م» كتب المسترستيون لويد - خبير الآثار القديمة في بغداد لعدة سنوات - كتابه الموجز عن تاريخ العراق، باسم «الرافدان» و قد حلل في عدد من صفحاته تحليلا بارعا موقف الامام علي من معاوية، و خرج منه الي مقتل الحسين في كربلاء، و هو يقول:

«ان الفظاعة التي اقترفت في المعركة، و الفزع الذي أصاب المسلمين بقتله؛ يكونان أسس المسرحية الأليمة التي تثير الطوائف الشيعية في العالم الاسلامي كله الي حد الحنق الديني في عشرة عاشوراء من كل سنة».

و بعد أن يستطرد الكاتب في سرد حادث استشهاد الامام الحسين و آله و صحبه يقول:

«و تعد قبورهم - أي قبور الأئمة الأطهار عليهم السلام - في الفرات الأوسط و خراسان نماذج بديعة للفن الاسلامي الرفيع، كما يعد كل واحد منها حججا للزوار الشيعة».

و الخلاصة: فانه أينما وجدت الأسر الشيعية علي اختلاف قومياتها و مللها، و لغاتها، وجدت معها مراسيم العزاء الحسيني، و مآتمه، و شعائره، و مواكبه، و مجالسه، و نياحاته بصورها المختلفة، و أنواعها المتعددة، و بمظاهرها الموسعة أو تشكيلاتها المحدودة، و بصورة خفية أو علنية، حسب ظروف تلك الأسر الاجتماعية.

و تقام هذه المناحات علي الحسين عليه السلام من قبل الشيعة علي الغالب في العشرة الأولي من المحرم، و بالأخص يوم العاشر منه في كل سنة.

و حين يهل هلال شهر محرم يستعد المسلمون الشيعة في مختلف أنحاء


المعمورة للتعبير عن شعورهم ازاء هذه الذكري الدامية، حيث يحتفلون بهذه المناسبة الأليمة، متذكرين مصارع آل النبي صلي الله عليه و آله في مجزرة الطف، في حزن عميق، و شجن عظيم، و مستعرضين مواقف الحسين و من استشهد معه بما يناسبها من الاشادة و التكريم.

أكرر في هذا المقام و أقول: ان من يتصور أن هذه الشعائر و المظاهر في العزاء الحسيني انما هي من محدثات العصور الأخيرة فانه علي خطأ، لأن هذا التعبير عن شعور التأثر و التألم تجاه مصرع الحسين عليه السلام - كما مر في الفصول السابقة - انما يرتقي تاريخه الي القرن الأول الهجري، غير أنه كان في أول أمره محدودا جدا و صغير الحجم، يقام بمحضر أخص الناس بالحسين و الأئمة الأطهار، للتخفيف عن عظم المصاب.