بازگشت

النياحة علي الامام الحسين بعد العباسيين


أما النياحة و اقامة شعائر العزاء علي الامام الحسين عليه السلام بعد انقراض الدولة العباسية و زوال ملكها، فكانت تقع أيضا تحت عوامل سياسة الحكومات المختلفة التي تتولي السلطة علي مقدرات العراق، من حكام عرب، أو فرس، أو أتراك، أو غيرهم. فمنهم من كان شيعيا، و منهم من كان سنيا، و منهم من كان علمانيا لا دين و لا مذهب له. و قد استطاع الشيعة في كثير من الأزمان علي هذا العهد أن يتنفسوا الصعداء و أن ينالوا قسطا و فيرا من حريتهم في اقامة شعائرهم، من النوح و اقامة المأتم علي الحسين عليه السلام، اما لكون السلطة القائمة شيعية الحاكم، أو لكونها مؤلفة من حكام ضعفاء من غير الشيعة لا تستطيع الضغط علي هذه الفرقة المسلمة. فمثلا عندما تولي السلطة علي العراق الملوك الصفويون أو غيرهم من الحكام الايرانيين كان الاقبال علي اقامة هذه المآتم و النياحات عظيما، و كانت حرية الشيعة في احياء هذه الذكري الأليمة مضمونة، و قد غالي الشيعة في اقامتها، والعكس بالعكس، كلما قويت السلطة السنية في العراق كالحكومة العثمانية وقع الضغط علي الشيعة، و منعوا عن اقامة المناحات و مزاولة شعائرهم التقليدية فيها؛ الأمر الذي كان يضطرهم الي اقامتها و احياء ذكرياتها سرا و داخل البيوت، و في سراديب الدور، و تحت طائلة الخوف و الجزع و التقية.

و علي سبيل المثال أقول: ان الشيعة كانوا علي زمن الأسرة الايلخانية،


و خاصة علي عهد ملكها محمد خدابنده، المتوفي سنة «715 ه»، الذي كان أول من جاهر من ملوك هذه الاسرة بالتشيع لآل البيت، و أول من أمر بتخليد اسماء الائمة الأثني عشر، فنقشت اسماؤهم علي مسكوكاته.

و كذا علي عهد ابنه أبي سعيد. و أيضا علي عهد الأسرة الجلائرية، ثم عهد الملوك الصفويين، و منهم الشاه اسماعيل الذي ناصر الشيعة و أعلن المذهب الشيعي في ايران و العراق رسميا. و كذا علي عهد بعض السلاطين العثمانين كالسلطان سليمان القانوني المتوفي سنة «941 ه»، الذي زار كربلاء و النجف. و كذا علي عهد عدد من الأمراء الشيعة الآخرين، الذين حكموا بعض أنحاء العراق، كدولة بني مزيد في الحلة و بني شاهين في البطيحة، و بني حمدان و آل المسيب في الموصل و نصيبين.

أجل علي عهد هؤلاء الملوك و الأمراء صار الشيعة يتمتعون بحريتهم في اقامة المأتم الحسيني، غير أنه علي زمن سائر الخلفاء العثمانين بعد استعادة العراق من الصفويين، و خاصة السلطان مراد الرابع العثماني، الذي أسرف في قتل الشيعة و سفك دمائهم، و احراق كتبهم و تعذيبهم، فقد منعت اقامة هذه المآتم و طورد القائمون بها، بيد أن من خلفه من السلاطين أطلقوا بعض الحرية للشيعة في احياء ذكريات الحزن علي الحسين، و اقامة شعائرة، بمختلف المظاهر و متنوع التقاليد التي درجوا عليها و تعودوا علي اقامتها سرا ثم علنا منذ العهدين الأموي والعباسي. و انما كانوا يقيمونها علي ذينك العهدين تحت الستار و التقية، عدا علي زمن بعض الخلفاء العباسيين الذين سمحوا لهم باقامتها علنا كما مر في الفصل السابق. و في هذه العهود صار الشيعة يقيمونها بصورة علنية و في الأماكن العامة و غيرها، فيبكي المجتمعون فيها علي مصاب الامام الحسين و استشهاده بتلك الحالة المفجعة و ينوحون عليه بقريض من الشعر، ينشئه و ينشده الناشد منهم، الذي كان يطلق عليه اسم «النائح» أو «خطيب المنبر الحسيني».


و فيما يلي فقرات مما ذكره المؤرخون عن اقامة شعائر العزاء علي الحسين بعد العباسيين الي أوائل الحرب العالمية الأولي:

1- ذكر كتاب «الحوادث الجامعة» لمؤلفة ابن الفوطي ضمن حوادث سنة «698 ه»، عن اطلاق الحرية للشيعة في احياء ذكري استشهاد الحسين عليه السلام و اقامة المناحات عليه علي عهد السلطان غازان، قوله:

«ثم توجه - أي السلطان غازان - الي الحلة، و قصد زيارة المشاهد الشريفة في النجف و كربلاء، و أمر للعلوين و المقيمين بها بمال كثير. ثم أمر بحفر نهر بأعلي الحلة فحفر و سمي بالنهر الغازاني...» الخ.

و يستطرد الكتاب فيقول:

«ثم توجه غازان للحلة، و قصد مشهد علي في النجف فزار ضريحه الشريف، و أمر للعلويين بشي ء كثير. ثم مضي الي مشهد الحسين بكربلاء و فعل مثل ذلك، و عاد الي أعمال الحلة وقوسان متصيدا وزار قبر سلمان الفارسي، و أمر للفقراء المقيمين هناك بمال».

2- و جاء في الكتاب «و مضات من تاريخ كربلاء» للسيد سلمان هادي آل طعمة صفحة «32» عند ذكر هجوم جيش تيمور لنك علي بغداد، و مناجزة سلطانها أحمد الجلايري و دخولهم سنة «795 ه» الجانب الشرقي من بغداد «الرصافة» قوله:

«أما أمراء تيمور بعد استيلائهم علي خزائن السلطان توجهوا قاصدين زيارة مرقد أبي عبدالله الحسين بكربلاء، يتبركون به، و يستجمعون قواهم. و بعد فراغهم من مراسم الزيارة أجزلوا بالنعم و الهدايا علي السادة العلويين الملازمين لقبر أبي عبدالله الحسين عليه السلام ثم رحلوا بعد أن مكثوا فيها بعض اليوم، و اشتركوا في بعض المناحات المقامة علي الامام الغريب...» الخ.

3- جاء في الصفحة «39» من كتاب «ثورة الحسين» لمؤلفه الشيخ محمد


مهدي شمس الدين عن موقف العثمانين من مجزرة كربلاء واستشهاد الحسين، قوله:

«و في العصور التالية لا حق العثمانيون هذه المآتم و منعوا من اقامتها في أحيان كثيرة، فكانت تقام سرا. و فيما بعد العثمانين لو حقت هذه المآتم ثم منعتها السلطة في بعض الاحيان، و قيدتها بقيود كثيرة ثقيلة في أحيان أخري لأجل افراغها من محتواها النقدي للسلطة القائمة...» الخ.

4- جاء في الصفحة «60» من كتاب «تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني» تأليف عبدالرزاق الهلالي، ما نصه:

«و لابد من الاشارة في هذا الباب الي أن كتاتيب البنات كانت تكثر في العتبات المقدسة، والمدن التي أكثريتها من الشيعة، بسبب ما تحتمه الضرورة من وجود ملايات يقرأن مقتل الحسين في شهر محرم أو في الأشهر الأخري، أو قراءة المواليد في المناسبات النسوية المختلفة...» الخ.

5- و جاء في الصفحة «126» من الكتاب نفسه، المطبوع في بغداد، سنة 1959 م، قوله:

«أما الشعر في المناطق الشيعية فقد تأثر نتيجة للتعصب الذي كانت تبديه السلطة الحاكمة ضدهم، واتجه وجهة لم يتجه لها الشعراء من أبناء السنة. لذا كان الشعر في مدح الامام الحسين يمثل التيارات الصاخبة، التي كانت تعتلج في نفوس الناس و يحاولون أن يأتوا بالجيد من النظم، الرصين من العبارة...» الخ.