بازگشت

عاشق الجمال


اذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع اليه خيال الشعراء و تتغني به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد و أصبحت صورة من الصور المثلي في عالم الجمال...

و من آيات الجمال انه يتحدي المنفعة و يؤثر البطولة علي السلامة...

فاذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الأمور بغير ميزان الحساب و الصفقات... فتعرض عن النعمة و هي بين يديها و تقبل علي الألم و هي ناظرة اليه، و تلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنة، فتنقاد له و لا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل... لأن المشغوف بالجمال ينشده و لا يبالي ما يلقاه في سبيله...

و قد تمثلت سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين و ذويه تعظيما لهم و ثناء عليهم... فلم يتجهوا اليهم ممدو حين و انما اتجهوا


اليهم صورا مثلي يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، و يستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام و ايلام.

و في معني كهذا المعني يقول الكميت شاعر أهل البيت:



طربت و ما شوقا الي البيض أطرب

و لا لعبا مني، و ذو الشيب يلعب



و لم يلهني دار و لا رسم منزل

و لم يتطربني بنان مخضب



و لا أنا ممن يزجر الطير همه

أصاح غراب أم تعرض ثعلب



و لا السانحات البارحات عشية

أمر سليم القرن أم أمر اعضب [1] .



و لكن الي أهل الفضائل و النهي

و خير بني حواء، و الخير يطلب



الي النفر البيض الذين بحبهم

الي الله فيما نالني أتقرب






بني هاشم، رهط النبي، فانني

بهم و لهم أرضي مرارا و أغضب



خفضت لهم مني جناحي مودة

الي كنف عطفاه أهل و مرحب



يشيرون بالأيدي الي و قولهم

ألا خاب هذا، و المشيرون أخيب



فطائفة قد كفرتني بحبكم

و طائفة قالوا: مسيي ء و مذنب



فما ساءني تكفير هاتيك منهم

و لا عيب هاتيك التي هي أعيب



يعيبونني من خبههم و ضلالهم

علي حبكم، بل يخسرون و أعجب



و قالوا: ترابي [2] هواه و رأيه

بذلك أدعي فيهم و ألقب



علي ذالك اجرياي، فيكم ضريبتي

و لو جمعوا طرا علي و أجلبوا






و أحمل أحقاد الأقارب فيكم

و ينصب لي في الأبعدين فأنصب



و قد مر بنا حديث زين العابدين رضي الله عنه، و هو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيدالله بن زياد لأنه استكبر «أن تكون به جرأة علي جوابه».

فهذا الغلام العليل قد عاش حتي انعقد له ملك القلوب حيث انعقد ملك الأجسام لهاشم بن عبدالملك سيد ابن زياد و آله...

و ذهب هشام بين جنده و حشمه يحج البيت و يترضي الناس، فلم يخلص الي الحجر الأسود لتزاحم الحجيج عليه. و انه لجالس علي كرسيه ينتظر انفضاض الناس اذا بزين العابدين يقبل الي الحجر الأسود في وقاره و هيبته، فيتنحي له الحجيج و يحفوا به و هو يستلم الحجر مطمئنا غير معجل... ثم يعود من حيث أتي و الناس مشيعوه بالتجلة و الدعاء.

و تهول رجلا من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل:

«من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة!»

و يخشي هشام أن يطلع جنده علي مكانة رجل لم يتطاول الي مثل مكانته بسلطانه و عتاده فيقول: «لا أعرفه»... و يقتضب الجواب.

و هذا الذي تصدي له شاعر آخر قد غامر بحياته و نواله ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل علي لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين...

و ذلك هو الفرزدق حيث قال:




هذا الذي تعرف البطحاء و طأته

و البيت يعرفه و الحل و الحرم



هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم



هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد ختموا



و ليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت، و العجم



اذا رأته قريش قال قائلها:

الي مكارم هذا ينتهي الكرم



من معشر حبهم دين، و بعضهم

كفر، و قربهم منجي و معتصم



و تصدي عبيدالله بن كثير لأمير مكة - خالد بن عبيدالله - فلعنه و هو قادر علي قتله لأنه يلعن عليا و حسينا في خطبه، و أنشد:



لعن الله من يسب عليا

و حسينا من سوقة و امام






أيسب المطهرون جدودا

و الكرم الآباء و الأعمام



يأمن الطير و الحمام ولايا

من آل الرسول عند المقام



طبت بيتا و طاب أهلك أهلا

أهل بيت النبي و الاسلام



رحمة الله و السلام عليه

كلما قام قائم بسلام



و تنقضي السنون و تتسامح العربية بشاعر فحل لم يسلم من لسانه أحد، و لم ينزه أحدا من المجزلين أو المقترين عليه عن استحقاق الهجاء...

فكان ينشد الأبيات المقذعة، و يسأل عن صاحبها فيقول: «لم يستحقها أحد بعينه بعد، و لسوف يستحقها كثيرون».

هذا الشاعر العجيب هو دعبل الخزاعي الذي يهز أوتار النفوس بأمثال هذه الأبيات في آل البيت:



مدارس آيات خلت من تلاوة

و منزل وحي مقفر العرصات!...






لآل رسول الله بالخيف من مني

و بالركن و التعريف و الحجرات



ديار علي، و الحسين و جعفر

و حمزة، و السجاد ذي الثفنات [3] .



ديار عفاها كل جون مبادر

و لم تعف للأيام و السنوات



الي أن يقول:



ملامك في أهل النبي فانهم

أحباي ما عاشوا و أهل ثقاتي



فيا رب زدني من يقيني بصيرة

و زد حبهم يا رب في حسناتي



أحب قصي الرحم من أجل حبهم

و أهجر فيبم أسرتي و بناتي



لقد حفت الأيام حولي بشرها

و اني لأرجو الأمن بعد وفاتي






ألم تر أني من ثلاثين حجة

أروح و أغدو دائم الحسرات



أري فيئهم في غيرهم متقسما

و أيديهم من فيئهم صفرات



فآل رسول الله نحف جسومهم

و آل زياد حفل القصرات [4] .



بنات زياد في القصور مصونة

و آل رسول الله في الفلوات!...



اذا و تروا مدوا الي أهل وترهم

أكفا عن الأوتار منقبضات!...



و وهب علي بن موسي الرضا للشاعر جائزة من دراهمه المضروبة باسمه و خلع عليه من ثيابه، فبذل له أهل الشام «قم» ثلاثين ألف درهم ليبيعهم الخلعة فضن بها. ثم ترصدوا له في الطريق ليأخذوها منه عنوة تبركا و ذكري. فسمح بالمال و لم يسمح بالخلعة... و استرضوه فلم يرض الا أن يعطوه كما من أكمامها ليدفن معه في كفنه، و تقسموا الخلعة بينهم


فخورين بها غير مبالين ما بذلوه في ثمنها.

و انقضت فترة لم تطل... و تسامعت العربية بشاعر آخر أفحل من دعبل و أقدر منه علي التصرف بالهجاء و المديح.

ذلك هو أبوالعباس علي بن الرومي الذي نسي ممدوحيه من آل طاهر و بني العباس ليذكر حق حفيده الحسين يحيي بن عمر الشهيد. و لو كلفه ذكره القتل و الحرمان.

و في بعض ما ساقه من النذر لأمراء زمانه مهلكة له قلما يفلت منها قائل بحياته، و ذاك حيث يقول من قصيدته الجيمية:



غررتم لئن صدقتم أن حالة

تدوم لكم، و الدهر لونان، أخرج



لعل لهم في منطوي الغيب ثائرا

سيسمو لكم و الصبح في الليل مولج



بمجر تضيق الأرض من زفراته

له زجل ينفي الوحوش و هزمج [5] .



يود الذي لاقوه أن سلاحه

هناك خلخال عليه و دملج






فيدرك ثار الله أنصار دينه

و لله أوس آخرون و خزرج



و يقضي امام الحق فيكم قضاءه

مبينا، و ما كل الحوامل تخدج



و كل أولئك شاعر ينسي التقوي في مواطن شتي من عمله و قوله و لا ينساها في حق الشهداء من آل الحسين و صحبه... لأنه يحس الجمال احساس الشعراء و يهتز «للصورة المثلي» اهتزاز الأريحية التي يحلم بها رواد الخيال. فهم هنا بمربأة من قيود العيش و وساوس الحاجة و أعباء النوازع الأرضية، يستوحون سليقة القول فيما ينبغي أن يقال... فيجري علي لسانهم كأنهم مسوقون اليه...

بل كان أولئك شاعر لا يسخو بالمدح و هو موصول بالعطاء الجزيل، ثم هو يسخو به للشهداء و آلهم علي غير أمل في نوال، و علي خوف شديد من الحرمان و الوبال...

و شاعر آخر لم يكن يهجو من الناس هذا أو ذاك، و لكنه كان سيي ء الظن بالناس أجمعين... و كان يقول ما بدا له في الدنيا و الدين، و لكنه يجامل مع المجاملين فلا يقصر عن شأوهم في السابقين أو اللاحقين.

ذلك هو أبوالعلاء المعري حيث قال في الفجر و الشفق:




و علي ألدهر من دماء الشهيد

بن علي و نجله شاهدان



فهما في أواخر الليل فجران

و في أولياته شفقان



ثبتا في قميصه ليجي ء الحشر

مستعديا الي الرحمن



و ان وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكما من لسان التاريخ اذا اختلف الحكمان...

و لكنهما قد توافيا معا علي مقال واحد... فجلوا لنا من سيرة الحسين رضي الله عنه صورة الجمال في عالم المثال، و كذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.


پاورقي

[1] السانح: الطير الذي يمن من السيار الي اليمين و عکسه البارج، و الاعضب: المکسور.

[2] من کني علي بن أبي‏طالب «أبوتراب» و ترابي نسبة اليه.

[3] کان علي بن الحسين يلقب بذي الثفنات لأن جبهته أصبحت کثفنة البعير - أي رکبته - من کثرة السجود.

[4] القصرة الرقبة، و حفل القصرات أي غلاظ الرقاب من السمن.

[5] الهزمجة اختلاط الصوت، و المجر الجيش الکبير.