بازگشت

ثورة المدينة


و للقدر المتاح لجت بالولاة الأمويين رغبتهم في تلفيق «المظاهرات الحجازية»، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن الاعج و الأسي الدفين. و جعلوا همهم كله أن يكرهوا القوم علي نسيان خطب الحسين و اصطناع الولاء المغتصب ليزيد. فحملوا الي دمشق و فدا من أشراف


المدينة لم يلبثوا أن عادوا اليها منكرين لحكم يزيد مجمعين علي خلع بيعته، و راحوا يقولون لأهل المدينة: «انا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، و يضرب بالطنابير، و يعزف عنده القيان، و يلعب بالكلاب، و يمسر عنده الحزاب».

و قال رئيسهم عبدالله بن حنظلة الانصاري و هو تقة عند القوم لصلاحه و زهده: «لو لم أجد الا بني هؤلاء - و كان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم. و قد أعطاني و ما قبلت عطاءه الا لأتقوي به».

و التهبت نار الثورة بالألم المكظوم و الدعوة الموصولة فأخرج المدنيون والي يزيد و جميع من بالمدينة من الأمويين و مواليهم و أعلنوا خلعهم للبيعة..

و صدق ابن حنظلة النية، فكان يقدم بنيه واحدا بعد واحد حتي قتلوا جميعا، و قتل بعدهم أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد و ولاته..

و بدا في ثورة المدينة أن يزيد لم يستفد كثيرا و لا قليلا من عبرة كربلاء، لأنه سلط علي أهلها رجلا لا يقل في لؤمه و غله و سوء دخلته، و ولعه بالشر و التعذيب، و عبثه بالتقتيل و التمثيل، عن عبيدالله بن زياد، و هو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، زياد، و هو مسلم بن عقبه المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، و أن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام ان لم يبادروا الي طاعته، و كان شرطه


الذي سامهم اياه بعد اقتحام المدينة و انقضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «انهم يبايعون أميرالمؤمنين علي انهم خول له يحكم في دمائهم و أموالهم ما شاء».

و اذا كان شي ء أثقل علي النفوس من هذا الشرط، و أقبح في الظلم من استباحة الأرواح و الأعراض في جوار قبر النبي عليه السلام.. فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور علي الغل و الضغينة مثل مسلم بن عقبة، كأنه يلقي علي الناس وزر مرض النفس و مرض الجسد و مرض الدم الذي أبلاه، و لم يبل ما في طويته من رجس و مكيدة. «فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتي ساخت الاقدام في الدم و قتل أبناء المهاجرين و الانصار».

و أوقع ابن كثير «من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد و لا يوصف».. و لم يكفه أن يسفك الدماء و يهتك الاعراض حتي يلتذ باثارة الآمال و المخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم علي السيف، فلما جاءوه بمعقل بن سنان صاحب رسول الله هش له و تلقاه بما يطمعه، ثم سأله «أعطشت يا معقل؟.. حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أميرالمومنين».. فلما شربها قال له: «أما و الله لا تبولها من مثانتك أبدا.. و أمر بضرب عنقه...»

و يروي ابن قتيبة أن عدد من قتل من الانصار و المهاجرين و الوجوه


ألف و سبعمائة، و سائرهم من الناس عشرة آلاف سوي النساء و الصبيان...

و حادث واحد من حوادث التمثيل و الاستباحة يدل علي سائر الحوادث من أمثاله.. دخل رجل من جند مسلم بن عقبة علي امرأة نفساء من نساء الأمصار و معها صبي لها. فقال: «هل من مال؟»

قالت: «لا.. والله ما تركوا لنا شيئا».

قال: «و الله لتخرجن الي شيئا أو لاقتلنك و صبيك هذا».

فقالت له: «ويحك... انه ولد ابن أبي كبشة الانصاري صاحب رسول الله». فأخذ برجل الصبي و الثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه علي الارض.

و هو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها أولئك الألوف من النسوة و الأطفال و الآباء و الأمهات..

و قد مات هذا السفاح و هو في طريقه الي مكة يهم بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة.. فدفن في الطريق و تعقبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنبشوا قبره و أحرقوه.