بازگشت

تبعة يزيد


و الناس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب و أهواء، يرجع كل منهم الي مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.

فمنهم من يري انه بري ء من التبعة كل البراءة.. و منهم من يري أنه أقر فعلة ابن زياد ثم ندم عليها.. و منهم من يقول أنه قد أمر بكل ما اقترفه ابن زياد و توقع حدوثه و لم يمنعه و هو مستطيع أن يمنعه لو شاء.

و الثابت الذي لا جدال فيه، ان يزيدا لم يعاقب أحدا من ولادته كبر أو صغر علي شي ء مما اقترفوه في فاجعة كربلاء، و ان سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة أولئك الولاة علي وتيرة واحدة مما حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النبي عليه السلام - و تحكم مسلم ابن عقبة في رجالها و نسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكرة و قبله، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث علي نقيض تدبيره و شعوره و مازال يزيد و أخلافه يأمرون الناس بلعن علي و الحسين و آلهما علي المنابر في أرجاء الدولة الاسلامية، و يستفتون من يفتيهم باهدار دمهم و صواب عقابهم بما أصابهم و من تجب لعنته علي المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.

و من أفرط في سوء الظن، رجح عنده أن عبيدالله بن زياد كان علي


اذن مستور بكل ما صنع، و يملي هم في هذا الظن أن استئصال ذرية الحسين من الذكور خطة تهم يزيد لوارثة الملك في بيته و عقبه، و يفيده أن يقدم عليها مستترا من وراء ولاته ثم ينصل منها و يلقي بتبعتها عليهم.

و لو لم يكن ذلك لكان عجيبا ان توكل حياة الحسين و أبنائه و آله الي والي الكوفة بغير توجيه من سيده و مولاه. فقد كان الزمن الذي انقضي منذ خروج الحسين من مكة الي نزوله بالطف علي الفرات كافيا لبلوغ الخبر الي يزيد و رجوع الرسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة و غيره من الولاة، فان لم يكن الأمر تدبيرا متفقا عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء و الشناعة، و هي مساءة التهاون الذي لا تستقيم علي مثله شئون دولة. و قد روي ابن شريح اليشكري أن عبيدالله صارحه بعد موت يزيد فقال: «أما قتلي الحسين فانه أشار الي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله» و هو كلام متهم لا تقوم به حجة علي غائب قضي نحبه..

و يبدو لنا أن الظن بتهاون يزيد هنا أقرب الي الظن بايعازه و تدبيره.. لأنه جري عليه طوال حكمه و ألقي حبل ولاته علي غاربهم و هو لاه بصيده و عبثه، و أنه ربما ارتاح في سريرته بادي ء الأمر الي فعلة ابن زياد و أعوانه.. و لكنه ما عتم أن رأي بوادر العواقب توشك أن تطبق عليه بالوبال من كل جانب، حتي تيقظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد الي المحاسنة و الاستدراك جهد ما استطاع، و لم يكن في


يقظته علي هذا متعصما بالحكمة و السداد..

و لقد رأي البوادر منه غير بعيد، و لما تنقض ساعات علي ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه.. فنعي ابن الحكم فعلة ابن زياد، و ناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن و رأين، و بكي ابنه الورع الصالح معاوية فكان يقول اذا سئل: «نبكي علي بني أمية لا علي الماضين من بني هاشم»..

و مهما تكن غفلة يزيد، أحد قط يلمح تلك البوادر ثم يجهل أنها ضربة هو جاء لن تذهب بغير جريرة، و لن تهون جريرتها في الحاضر القريب و لا في الآتي البعيد...

و الواقع انها قد استتبعت بعدها جرائر شتي لا جريرة واحدة، و ما تنقضي جرائرها الي اليوم...

فلم تنقض سنتان حتي كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود و يخترق الحدود... لأنهم حملوا اليها خبر الحسين محمل التشهير و الشماتة. و ضحك و اليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء و الصراخ من بيوت آل النبي، فكان يتمثل قول عمرو بن معد يكرب:



عجت نساء بني زياد عجة

كعجيج نسوتنا غداة الأرتب




و كانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة و تنشد:



ماذا تقولون ان قال النبي لكم:

ماذا فعلتم... و أنتم آخر الأمم؟



بعترتي، و بأهلي، بعد مفتقدي..

منهم أساري، و منهم ضرجوا بدم



ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي



فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، و يقوون كما قال عمرو بن سعيد: «ناعية كناعية عثمان».

و لا موضع للشماتة هنا بالحسين، لأنه قد أصيب علي باب عثمان و هو يذود عنه و يجتهد في سقيه و سقي آل بيته.. و لكنها شماتة هو جاء لا تعقل و لا ما تقول.