بازگشت

مصرع الحسين


و استهدف الحسين رضي الله عنه لأقواس القوم و سيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم و لا يقاتلون الا بين يديه. و كلما سقط منهم صريع، أسرع الي مكانه من يخلفه ليلقي حتفه علي أثره.

فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، و سول لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا الاخبية التي أووي اليها النساء و الاطفال ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته. ثم أخذوا في احراقها، و أصحاب الحسين يصدونهم و يدافعونهم، فرأي رضي الله عنه أن اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم:

- دعوهم يحرقونها... فانهم اذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا اليكم منها...

و ظل علي حضور ذهنه و ثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر و تطيش بالألباب... و هو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم و الدم، و لا ينهض به الا أولو العزم من أندر من يلد آدم و حواء.


فانه رضي الله عنه كان يقاسي جهد العطش و الجوع و السهر و نزف الجراح و متابعة القتال، و يلقي باله الي حركات القوم و مكائدهم، و يدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات و يتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه و بلاءهم... و يتكاثر عليه و قر الأسي لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. و لا يزال كلما أصيب عزيز من أولئك الأعزاء حمله الي جانب اخوانه و فيهم رمق ينازعهم و ينازعونه و ينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه... فيطلبون الماء و يحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، و يرجع الي ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت و يعرض به عن الحياة... و يقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك» و يهدف صدره لكل ما يلقاه...

و انه لفي هذا كله، و بعضه يهد الكواهل و يقصم الأصلاب... اذا بالرماح و السيوف تنوشه من كل جانب، و اذا بالقتل يتعدي الرجال المقاتلين الي الأطفال و الصبيان من عترته و آل بيته، و سقط كل من معه واحدا بعد واحد فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه و يتلقون الضرب عنه، و هو يسبقهم و يأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه و قد دنت الخاتمة و وضح المصير...

و كان غلام من آل الحسين - هو عبدالله بن الحسن أخيه - ينظر من الأخبية، فرأي رجلا يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام الي عمه و صاح في براءة بالرجل:


- يا ابن الخبيثة... أتقتل عمي؟

فتعمده الرجل بالسيف يريد قتله الغلام ضربته بيده فانقطعت و تعلقت بجلدها... فاعتنقه عمه و جعل يواسيه و هو مشغول بدفاع من يليه...

ثم سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه. و كان يحمل علي الذين عن يمينه فيتفرقون، و يشد علي الخيل راجلا و يشق الصفوف وحيدا، ويها به القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالاجهاز عليه ثم ينكصون... لأنهم تحرجوا من قتله، و أحب كل منهم أن يكفيه غيره مغبة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن و أمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، و صاح بمن حوله:

- و يحكم!... ماذا تنتظرون بالرجل؟... اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم...

فاندفعوا اليه تحت عيني شمر مخافة من و شايته و عقابه... و ضربه زرعة بن شريك التميمي علي يده اليسري فقطعها، و ضربه غيره علي عاتقه فخر علي وجهه، ثم جعل يقوم و يكبو و هم يطعنونه بالرماح و يضربونه بالسيف حتي سكن حراكه، و وجدت بعد موته رضوان الله عليه ثلاث و ثلاثون طعنة و أربع و ثلاثون ضربة غير اصابة النبل و السهام، و أحصاها بعضهم في ثيابه فاذا هي مائة و عشرين.


و نزل خولي بن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه، فملكته رعدة في يديه و جسده، فنحاه شمر و هو يقول له:

- فت الله في عضدك!...

و احتز الرأس و أبي الا أن يسلمه اليه في رعدته، سخرية به و تماديا في الشر، و تحديا به لمن عسي أن ينعاه عليه! و قضي الله علي هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله و صفا لا يطرقه الشك و الاتهام، فكان ضغنه هذا كله ضغنا لا معني له و لا باعث اليه الا أنه من أولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسليهم بعض السلوي أن يؤلموا به الكرام، و يجعلوه تحديا مكشوفا كأنه معرض للزهو و الفخار، و هم يعلمون أنه لا يفخر به و لا يزهي! و لكنهم يبلغون به مأربهم اذا آلموا به من يحس فيهم الضعة و العار...

و بقيت ذروة من الحمية يرتفع اليها مرتفع...

و بقيت و هدة من الخسة ينحدر اليها منحدرون كثيرون...

فلم يكن في عسكر الحسين كله الا رمق واحد من الحياة باق في رجل طعين مثخن بالجراح، تركوه و لم يجهزوا عليه لظنهم أنه قد مات...

ذلك الرجل الكريم هو سويد بن أبي المطاع أصدق الأنصار و أنبل الأبطال...


فأبي الله لهذا الرمق الضعيف أن الضعيف أن يفارق الدنيا بغير مكرمة يتم بها مكرمات يومه، و تشتمل عليها النفوس الكثيرات فاذا هي حسبها من شرف مجد و ثناء...

تنادي القوم بمصرع الحسين فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله النزع و أوشك أن يجهل ما يسمع. فلم يخطر له أن يسكن لينجو و قد ذهب الأمل و حم الختام، و لم يخطر له انه ضعيف منزوف يعجل به القوم قبل أن ينال من القوم أهون منال، و لم يحسب حساب شي ء في تلك اللحظة العصيبة الا أن يجاهد في القوم بما استطاع، بالغا ما بلغ من ضعف هذا المستطاع...

فالتمس سيفه فاذا هم قد سلبوه، و نظر الي شي ء يجاهد به فلم تقع يده الا علي مدية صغيرة لا غناء بها مع السيوف و الرماح... و لكنه قنع بها و غالب الوهن و الموت، ثم و ثب علي قدميه من بين الموتي و ثبة المستيئس الذي لا يفر من شي ء و لا يبالي من يصيب و ما يصاب. فتولاهم الذعر و شلت أيديهم التي كانت خليقة أن تمتد اليه، و انطلق هو يثخن فيهم قتلا و جرحا حتي أفاقوا له من ذعرهم و من شغلهم بضجتهم و غنيمتهم. فلم يقووا عليه حتي تعاون علي قتله رجلان... فكان هذا حقا هو الكرم و المجد في عسكر الحسين الي الرمق الاخير.