بازگشت

مآثم مخزية


فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله... و لكنه رأي ولده عبدالله يتلوي من ألمه و عطشه، و قد بح صوته من البكاء، فحمله علي يديه يهم أن يسقيه و يقول للقوم: «أتقوا الله في الطفل ان لم تتقوا الله فينا» فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، و رمي الطفل بسهم و هو يصيح ليسمعه العسكران: «خذ اسقه هذا»... فنفذ السهم الي أحشائه!!...

و كانوا يصيحون بالحسين متهاتفين: «ألا تري الي الفرات كأنه بطون الحيات؟!... و الله تذوقه حتي تموت و من معك عطشا».

و لما اشتد عطشن الحسين دنا من الفرات ليشرب، فرماه حصين بن غير بسهم وقع في فمه... فانتزعه الحسين و جعل يتلقي الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمي به الي السماء و قد شخص ببصره اليها و هو يقول: «ان تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، و انتقم لنا من القوم الظالمين!»

و قد كان منع الماء - قبل الترامي بالسهام - نذيرا كافيا بالحرب، يبيح الحسين أن يصيب منهم من يتعرض للاصابة... و لكنه رأي شمر ابن ذي الجوشن - أبغض مبغضيه المؤلبين عليه - يدنو من بيوته و يجول حولها ليعرف منفذ الهجوم عليها، فأبي علي صاحبه السلم بن


عوسجة أن يرميه بسهم و قد أمكنه أن يصميه و هو من أسد الرماة...

لانه كره أن يبدأهم بعداء...

و كأنه لمح منهم ضعف النية و سوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، و علم أنهم لا يخلصون في حبه، و لا يؤمنون بحقه، و أنهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة و لا يخدمونه للحق و الذمة... فطمع أن يقرع ضمائرهم و ينبه غفلة قلوبهم، و رمي بآخر سهم من سهام الدعوة قبل ان يرمي بسهم واحد من سهام القتال. فخرج لهم يوما بزي جده عليه السلام متقلدا سيفه لابسا عمامته و رداءه، و أراهم أنه سيخطبهم، فكان أول ما صنعوه دليلا علي صدق فراسته فيهم، لأن رؤساءهم و مؤلبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ الي قلوبهم و يلمس مواقع الاقناع من ألبابهم. فضجوا بالصياح و الجلبة و أكثروا من العجيج و الحركة ليحجبوا كلامه عن أسماعهم و يتقوا أثر موعظته فيهم، و هو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار و تعنو لها الجباه...

و لكنه صابرهم حتي ملوا، و مل اخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم و خوفهم، و لا يوجب الثقة بدعواهم عند اخوانهم... فهدأوا بعد لحظات و سمعوه بعد الحمد و الصلاة: «أنسبوني من أنا... هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟...

أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي و لأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟

و يحكم!... أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟.


ثم نادي بأسماء أنصاره الذين استدعوه الي الكوفة ثم خرجوا لحربه في جيش ابن زياد. فقال: «يا شيث بن الربعي! يا حجار بن أبحر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! يا عمر بن الحجاج!... ألم تكتبوا الي أن قد أينعت الثمار و اخضرت الجنبات، و انما تقدم علي جند لك مجند؟»...

فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات و بلغ بها المقنغ ممن فيه مطمع لاقناع، و تحولت الي صفه فئة تعلم أنها تتحول الي صف لن تجد فيه غير الموت العاجل، و استطابت هذا الموت و لم تستطب البقاء مع ابن زياد لاغتنام الغنيمة و انتظار الجزاء من المناصب و الاموال.

و لم تكن كلمة الحسين كل ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام الي السيف... فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضي من السيوف و الرماح حيث تصيب، فركب فرسه و تعرض لهم قائلا: «يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار، ان حقا علي المسلم نصيحة المسلم، و نحن حتي الآن أخوة علي دين واحد ما لم يقع بيننا و بينكم السيف، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة و كنا نحن أمة و أنتم أمة... ان الله قد ابتلانا و اياكم بذرية نبيه محمد صلي الله عليه و آله و سلم لينظر ما نحن و أنتم عاملون، و انا ندعوكم الي نصر حسين و خذلان الطاغية ابن الطاغية عبيدالله بن زياد، فانكم لا تدركون منهما الا سوءا: يسملان أعينكم، و يقطعان أيديكم و أرجلكم و يمثلان


بكم، و يرفعانكم علي جذوع النحل و يقتلان أماثلكم و قراءكم أمثال حجر بن عدي و أصحابه و هاني ء بن عروة و أشباهه».

فوجم منهم من وجم، و توقح منهم من توقح، علي ديدن المريب المكابر اذا خلع العذار و لم يأنف من العار، و توعدوه و توعدوا الحسين معه أن يقتلوهم صاغرين الي عبيدالله بن زياد.