بازگشت

حرب النور و الظلام


و كانت فئة الحسين صغيرة كما علمنا قد رصدت لها هنالك تلك الفئة الكبيرة التي تناقضها أتم ما يكون التناقض بين طرفين، و تباعدها أبعد ما تكون المسافة بين قطبين، فكل ما فيها أرضي مظلم مسف بالغ في الاسفاف، و ليس فيها من النفحة العلوية نصيب...

أللمصادفات نظام و تدبير...؟!

نحن لا نعلم الا أنها مصادفات يخفي علينا ما بينها من الوشائج و الصلات... و لكنها - لذلك - هي الاعاجيب التي تستوقف النظر لعجبها العاجب، و ان لم تستوقفه لما يفهمه فيها من نظام و تدبير.

فجيرة كربلاء كانت قديما من معاهد الايمان بحرب النور و الظلام، و كان حولها أناس يؤمنون بالنضال الدائم بين أورمزد و أهرمان. و لكنه كان في حقيقته ضربا من المجاز و فنا من الخيال.

و تشاء مصادفات التاريخ الا أن تري هذه البقاع التي آمنت بأورمزد و أهرمان حربا هي أولي أن تسمي حرب النور و الظلام من حرب الحسين و مقاتليه...


و هي عندنا أولي بهذه التسمية من حروب الاسلام و المجوسية في تلك البقاع و ما وراءها من ألارض الفارسية لأن المجوسي كان يدافع شيئا ينكره... ففي دفاعه معني من الايمان بالواجب كما تخيله ورآه، و لكن الجيش الذي أرسله عبيدالله بن زياد لحرب الحسين كان جيشا يحارب قلبه لأجل بطنه أو يحارب ربه لأجل و اليه. اذ لم يكن فيهم رجل واحد يؤمن ببطلان دعوي الحسين أو رجحان حق يزيد، و لم يكن فيهم كافر ينفح عن عقيدة غير عقيدة الاسلام، الا من طوي قلبه علي كفر كمين هو مخفيه، و لا نخالهم كثيرين...

و لو كان يحاربون عقيدة بعقيدة، لما لصقت بهم و صمة النفاق و مسبة الأخلاق... فعداوتهم ما علموا أنه الحق و شعروا أنه الواجب أقبح بهم من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله و معرض عنه بشعوره، لأنهم يحاربون الحق و هم يعلمون... و من ثم كانوا في موقفهم ذاك ظلاما مطبقا. ليس فيه من شعور الواجب بصيص واحد من عالم النور و الفداء... فكانوا حقا في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام تكافح قوة من عالم النور.

أقربهم الي العذر يومئذ من اعتذر بالفرق و الرهبة لأنهم أكرهوه بالسيف علي غير ما يريد... فكان الجبن أشرف ما فيهم من خصال السوء.

و كان منهم أناس كتبوا الي الحسين يستدعونه الي الكوفة ليبايعوه


علي حرب يزيد، فلما ندبهم عمر بن سعد للقائه و سؤاله أحجموا عما ندبهم له و استعفوه، لأن جوابهم ان سألوه في شأن مجيئه اليهم: انني جئتكم ملبيا ما دعوتهم اليه!...

و ركب أناسا منهم الفزع الدائم بقية حياتهم لأنهم عرفوا الاثم فيما اقترفوه عرفانا لا تسعهم المغالطة فيه، و من هؤلاء رجل من بني أبان بن دارم كان يقول:

- قتلت شابا أمرد مع الحسين بين عينيه أثر السجود... فما نمت ليلة منذ قتلته الا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتي يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصبح فما يبقي أحد في الحي الا سمع صياحي.

و رأي هذا الرجل صاحب له بعد حين و قد تغير وجهه و اسود لونه، فقال له: «ما كدت أعرفك»، و كان يعرفه جميلا شديد البياض...

و منهم من كان يتزاور عن الحسين في المعمة، و يخشي أن يصيبه أو يصاب علي يديه، و لو أنهم حاربوه لأنهم علموا أنه أهل للمحاربة فلم يتزاوروا عنه و لم يتحاشوه لكانت الحرب هنالك حربا بين رأيين و مذهبين و شجاعتين، و لكنهم كشفوا أنفسهم بتحاشيهم اياه. فاذا هم يحاربون رأيهم الذي يدينون به، و وليهم الذي يضمرون له الحرمة و الكرامة، و في ذلك خزيهم الأثيم.


علي أن الجبن و الجشع لا يفسران كل ما اقترفه جيش عبيدالله من شر ولؤم في أيام كربلاء.

فلا حاجة بالجبان و لا بالجشع الي التمثيل و التنكيل أو التبرع بالايذاء حيث لا تلجئه الضرورة اليه، و ليس قتل الطفل الصغير الذي يموت من العطش و هو علي مورد الماء بالأمر الذي يلجي ء اليه الجبن أو يلجي ء اليه طلب المال، و قد حدث في أيام كربلاء من أمثال هذا البغي اللئيم شي ء كثير رواه الأمويون، و لم تقتصر روايته علي الهاشميين و الطالبيين أو أعداء بني أمية!

و ينبغي أن نفهم ذلك علي وجه واحد لا سبيل الي فهمه بغيره، و هو نكسة الشر في النفس البشرية، حين تلج بها مغالطة الشعور و حين تغالب عنانها حتي تعييها المغالبة فينطلق بها العنان.

فالرجل الخبيث المغرق في الخيانة قد يتصرف في خلوته تصرف الأنذال ثم لا يبالي أن يعرف نذالته و هو بنجوة من أعين الرقباء. و لكن أربعة الآلاف لا يتصارحون بالنذالة بينهم و لا يقول بعضهم لبعض أنهم يعملون ما يستحقون به التحقير و المهانة و لا تقبل لهم فيه معذرة و لا علالة. و انما شأنهم في هذه الحالة أن يصطنعوا الحماسة و يجاهدوا التردد ما استطاعوا ليظهروا في ثوب الغلاة المصدقين الذين لا يشكون لحظة في صدق ما يعملون، فيغمض الرجل منهم عينيه و يستتر بغشاء من النفاق


حتي ليوشك أن يخدع نفسه عن طوية فؤاده...

و تلك لجاجة المغالطة في الشعور...

أما مجاذبة النفس عنانها و انطلاقها بعد هذه المجاذبة المخفقة، فالشواهد عليها كثيرة فيما نراه كل يوم... يحاول الرجل أن يتجنب الخمر فلا يستطيع، فاذا هو قد خلع العذار و غرق فيها ليله و نهاره غير مبال بما يقال كأنما هو القائل: «دع عنك لومي فان اللوم اغراء».

و تحب المرأة ان تستحي و تتواري من المسبة في هواها، ثم يغلبها هواها فاذا هي قد ألقت حياءها للريح، و صنعت ما تحجم عنه التي لم تنازع نفسها قط في هوي، و لم تشعر قط بوطأة الخجل و الاستتار.

و اندفاع المتهجمين علي الشر في حرب كربلاء بغير داع من الحفيظة و لا ضرورة ملزمة تقضي بها شريعة القتال، لهو الاندفاع الذي يسبر لنا عمق الشعور بالاثم في نفوس أصحاب يزيد. و قد رأينا من قبل عمق الشعور بالحق في أصحاب الحسين، و ما بنا من حاجة الي البحث عن علة مثل هذه العلة لمن خلقوا مجرمين و خلقت معهم ضراوة الحقد و الايذاء لهذا الميدان و غير هذا الميدان، كشمر بن ذي الجوشن، و من جري مجراه... فهؤلاء لا يصنعون غير ضيعهم الأثيم كلما و جدوا السبيل اليه.

علي أنها - بعد كل هذا - حرب بين الكرم و اللؤم، و بين الضمير و المعدة، و بين النور و الظلام... فشأنها علي أية حال أن تصبح مجالا من


الطرفين لقصاري ما يبلغه الكرم و قصاري ما يبلغه اللؤم، و قد بلغت في ذلك أقصي مدي الطرفين.

و من المتعذر بعد وقوف هاتين القوتين موقف المراقبة و المناجزة، أن نتقصي أوائل القتال و نتبع ترتيب الحوادث واحدة بعد واحدة علي حسب وقوعها... فان الأقوال في سرد حوادث كربلاء لا تتفق علي ترتيب واحد، سواء كان هذا الترتيب في رواية أنصار الحسين أو رواية أنصار يزيد.

الا أن الترتيب الطبيعي يستبين للعقل من سبب الوقوف في ذلك المكان، و هو منع الحسين أن ينصرف الي سبيله و أن يرد الماء حتي يكرهه العطش الي التسليم، و كان الموقف كما وصفه أبوالعلاء بعد ذلك بأربعة قرون:



منع الفتي هينا فجر عظائما

و حمي نمير الماء فانبعث الدم



و لم يمتنع طريق الماء في بادي ء الأمر دفعة واحدة لأن حراس المورد من جماعة عمر بن سعد، لم يكونوا علي جزم بما يصنعون في مواجهة


الحسين و صحبه... فلما اندفع بعض أصحاب الحسين الي الماء بالقرب و الأداوي، مانعهم القوم هنيهة ثم أخلوا لهم سبيل النهر خوفا و حيرة، فشربوا و ملأوا قربهم و أداواهم بما يغنيهم عن الاستقاء الي حين.

و الظاهر أن الشر كله كان في حضور شمر بن ذي الجوشن علي تلك الساخة؛ متربصا كل التربص بمن يتواني في حصار الحسين و مضايقته فيعزله و يعرضه لسوء الجزاء، ثم يطمع من وراء ذلك أن يتولي قيادة الجيش و امارة الري بعد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص... فبطل التردد شيئا فشيئا، و تعذر علي الحسين و أصحابه بعد الهجمة الأولي أن يصلوا الي الماء. و لبثوا أياما و ليس في معسكرهم ذو حياة من رجل أو امرأة أو طفل أو حيوان الا و هو يتلظي علي قطرة ماء فلا ينالها، و منهم الطفل العليل و الشيخ المكدود و الحيوان الأعجم، و صياح هؤلاء الظماء من حرقة الظمأ يتوالي علي مسمع الحسين ليل نهار و هو لا يملك لهم غير الوصاية بالصبر و حسن المؤاساة.

و في ذلك المأزق الفاجع، نضحت طبائع اللؤم في معسكر ابن زياد بشر ما تنضح به طبيعة لئيمة في البنية الآدمية... فاقترفوا من خسة الأذي ما تنزه عنه الوحوش الضاريات، و جعلوا يتلهون و يتفكهون بما تقشعر منه الجلود و تندي له الوجوه، و نكاد نمسك عن تسطيره أسفا و امتعاضا لو لا أن القليل منه جزء لا ينفصل من هذه الفاجعة، و بيان لما يلي من وقعها في النفوس و تسلسل تراثها الي أمد بعيد...