بازگشت

بواعث الخروج


نعم كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضي المسلمين من العقل و الخلق و سلامة التدبير و عزة الموئل و الدولة، و كان المسلمون قد توافوا علي اختياره لحبهم اياه، و تعظيمهم لعقله و خلقه و اطمئنانهم الي سياسته و اعتمادهم علي صلاحه و اصلاحه..

و لكنه علي نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلا هازلا في أحوج الدول الي الجد، لا يرجي له صلاح و لا يرجي منه اصلاح. و كان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه و معونته جهرة و علانية من المال أو الولاية أو المصانعة، و لو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليا للعهد شرا من يزيد لما يبايعوه و ان تعطلت حدود الدين و تقوضت معالم الأخلاق..

و أعجب شي ء أن يطلب الي حسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل و يزكيه أمام المسلمين، و يشهد له عندهم أنه نعم الخليفة المأمول صاحب الحق في الخلافة و صاحب القدرة عليها... و لا مناص للحسين من خصلتين: هذه، أو الخروج!... لأنهم لن يتركوه بمنزل عن الأمر لا له و لا عليه...


ان بعض المؤرخين من المستشرقين و ضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة و لا يرلونها نصيبها من الرجحان في كف الميزان.

و كان خليقا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، و أنه كان رجلا يؤمن أقوي الايمان بأحكام الاسلام و يعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به و بأهله و بالأمة العربية قاطبة في حاضرها و مصيرها.

لأنه مسلم و لأنه سبط محمد... فمن كان اسلامه هداية نفس فالاسلام عند الحسين هداية نفس و شرف بيت...

و قد لبث بنوأمية بعد مصرعه ستين سنة يسبونه و يسبون أباه علي المنابر، و لم يجسر أحد منهم قط علي المساس بورعه و تقواه و رعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرا أو علانية، و حاولوا أن يعيبوه بشي ء غير خروجه علي دولتهم فقصرت ألسنتهم و ألسنة الصنائع و الأجراء دون ذلك. فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرا علي الدين في رأس الدولة و عرش الخلافة مواجهة الهوادة و المشايعة و التأمين؟ و كيف يسام أن يرشح للامامة من لا شفاعة له و لا كفاية فيه الا أنه ابن أبيه؟...

لقد كان أبوه معاوية علي كفاءة و وقار و حنكة و دراية بشؤون الملك و الرئاسة، و كان له مع هذا نصحاء و مشيرون أو لو براعة و أحلام تكبح


من السلطان ما جمح و تقيم ما انحرف و تملي له فيما عجز عنه. و هذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة و لا وقار و لا نصحاء و لا مشيرون، الا من كان عونا علي شر أو موافقا علي ضلالة. فما عسي أن تكون الشهادة له بالصلاح للامامة الا تغريرا بالناس و قناعة بالسلامة أو الأجر المبذول علي هذا التغرير؟..

ثم هي خطوة لا رجعة بعدها اذا أقدم عليها الحسين بما أثر عنه من الوفاء و صدق السريرة. فاذا بايع يزيد فقد و في له بقية حياته كما و في لمعاوية بما عاهده عليه، و لا سيما حين يبايع يزيد علي علم بكل نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة و انتحال أسباب الخروج.

فملك يزيد لم يقم علي شي ء واحد يرضاه الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة الاسلامية. و من طلب منه أن ينصر هذا الملك فانما يطلب منه أن ينصر ملكا ينكر كل دعواه و لا يحمد له حالة من الأحوال، و لا تنس بعد هذا كله أن هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالغض من الحسين في سمعة أبيه و كرامة شيعة و مريديه. فكانوا يسبون عليا علي المنابر و ينعتونه بالكذب و المروق و العصيان، و كانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم علي سبه و النيل منه بمشهد من الناس، و الا أصابهم العنت و العذاب و شهروا في الأسواق بالصلب و الهوان. فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح ملك جديد معناه أنها سنة قد وجبت


و استقرت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير و التبديل. فمن أقر هذه السنة في مفتتح هذا الملك الجديد فقد ضعف أمله و ضعف أمل أنصاره فيه يوما بعد يوم، و ازداد مع الزمن ضعفا كما ازدادت حجة خصومة قوة عليه.

هذه هي البواعث النفسية التي كانت تجيش في صدر الحسين يوم دعاه أولياء بني أمية الي مبايعة يزيد و النزول عن كل حق له و لأبنائه و لأسرته في امامة المسلمين، كائنا من كان القائم بالأمر و بالغا ما بلغ من قلة الصلاح و بطلان الحجة. و هي بواعث لا تثنيه عن الخروج و لا تزال تلح عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، و هما الخروج ان كان لابد خارجا في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة و لا يرضاه له ايمان...