بازگشت

رجال المعسكرين


كان الحسين في طريقه الي الكوفة - يوم دعاه شيعته اليها - يسأل من يلقاها عن أحول الناس فينبئونه عن موقفهم بينه و بين بني أمية، و قلما اختلفوا في الجواب...

سأل الفرزدق و هو خارج من مكة - و الفرزدق مشهور بالتشيع لآل البيت - فقال له: «قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية، و القضاء ينزل من السماء، و الله يفعل ما يشاء».

و قال له مجمع بن عبيد العامري: «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم و ملئت غرائرهم فهم ألب واحد عليك، و أما سائر الناس بعدهم فأن قلوبهم تهوي اليك و سيوفهم غدا مشهورة عليك».

و قد أصاب الفرزدق و أصاب مجمع بن عبيد، فان الناس جميعا كانوا بأهوائهم و أفئدتهم مع الحسين بن علي ما لم تكن لهم منفعة موصولة بملك بني أمية، فهم اذن عليه بالسيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب.


و قد «أعظمت الرشوة» للرؤساء و أعظمت لهم من بعدها الوعود و الآمال، فعلموا أن دوام نعمتهم من دوام ملك بني أمية...

فأما الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حسينا و لا ينصرون الأمويين أو كانوا يصانعون الأمويين و لا يبلغون بالمصانعة أن شهروا الحرب علي الحسين.

و من هولاء هاني ء بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، و شريك بن الأعور، و سليمان بن صرد الخزاعي، و كلاهما من ذوي الشرف و الدين.

بل كان من العاملين لبني أمية من يخزه ضميره اذا بلغ العداء للحسين أشده، فيترك معسكر بني أمية ليلوذ بالمعسكر الذي كتب عليه الموت و البلاء. كما فعل الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء و قد رأي القوم يهمون بقتل الحسين و لا يقنعون بحصاره. فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟». فلما قال «نعم» ترك الجيش الأموي و ذهب يقترب من الحسين حتي داناه فقال له: «جعلت فداك يا ابن رسول الله. أنا صاحبك حبستك عن الرجوع و جعجعت بك في هذا المكان، و ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، و و الله لو علمت أنهم ينتهون بك الي ما أري ما ركبت مثل الذي ركبت، و اني تائب الي الله مما صنعت، فهل تري لي من توبة؟».

فقبل الحسين توبته و جعل الرجل يقاتل من ساعتها حتي قتل،


و آخر كلمة علي لسانه فاه بها: «السلام عليك يا أباعبدالله!»

فمجمل ما يقال علي التحقيق انه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه علي الحسين الا و هو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات و لا يبالي بشي ء منها في سبيل الحطام.

و لقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، و المغيره ابن شعبة، و زياد بن أبيه، و أضرابهم من أولئك الدهاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول و بناة عروش..

و كان لهم من سمعة معاوية و ذرائعه شعار يدارون به المطامع و يتحللون من التأثيم...

لكن هولاء بادوا جميعا في حياة معاوية، و لم يبق ليزيد مشير واحد ممن نسميهم بأنصار الدول و بناة العروش، و انما بقيت له شرذمة علي غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أمروا بقتله و يقبضون الأجر فرحين..

فكان أعوان معاوية ساسة و ذوي مشورة..

و كان أعوان يزيد جلادين و كلاب طراد في صيد كبير..

و كانوا في خلائقهم البدنية علي المثال الذي يعهد في هذه الطغمة


من الناس، و نعني به مثال المسخاء المشوهين.. أولئك الذين تمتلي ء صدورهم بالحقد علي أبناء آدم و لا سيما من كان منهم علي سواء الخلق و حسن الأحدوثة، فاذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه و ان لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فاذا انتفعوا بالأجر و الغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود..

و شر هؤلاء جميعا هم شمر بن ذي الجوشن، و مسلم بن عقبة، و عبيدالله بن زياد. و يلحق بزمرتهم علي مثال قريب من مثالهم عمر ابن سعد بن أبي وقاص..

فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، و كان يصطنع المذهب الخارجي ليجعله حجة يحارب بها عليا و أبناءه، و لكنه لا يتخذه حجة ليحارب بها معاوية و أبناه.. كأنه ينخذ الدين حجة للحقد، ثم ينسي الدين و الحقد في حضرة المال.

و مسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ انسان.

«و كان أعور أمغر ثائر الرأس، كأنما يقطع رجليه من و حل اذا مشي».

و قد بلغ من ضراوته بالشر و هو شيخ فان مريض، أنه أباح المدينة في حرم النبي عليه السلام ثلاثة أيام، و استعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتي ساخت الأقدام في الدم، و قتل أبناء المهاجرين


و الأنصار و ذرية أهل بدر، و أخذ البيعة ليزيد بن معاوية علي كل من استبقاه من الصحابة و التابعين علي أنه عبد قن لأمير المؤمنين...!

و انطلق جنده في المدينة الي جوار قبر النبي يأخذون الأموال و يفسقون بالنساء، حتي بلغ القتلي في تقدير الزهري سبعمائة من وجوه الناس و عشرة آلاف من الموالي، ثم كتب الي يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل: «فأدخلنا الخيل عليهم... فما صليت الظهر أصلح الله أميرالمؤمنين الا في مسجدهم!... بعد القتل الذريع و الانتهاب العظيم.. و أوقعنا بهم السيوف و قتلنا من أشرف لنا منهم و اتبعنا مدبرهم و أجهزنا علي جريحهم و انتهبناها ثلاثا كما قال أميرالمومنين أعز الله نصره، و جعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز و أمان، و الحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم و النفاق العظيم، فطالما عتوا و قديما ما طغوا. أكتب هذا الي أميرالمومنين و أنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا ما أراني الا لما بي.. فما كنت أبالي متي مت بعد يومي هذا...»

و كل هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة انما هو الحقد في طبائع المسخاء الشائهين... يوهم نفسه انه الحقد من ثار عثمان أو من خروج قوم علي ملك يزيد..

و كان عبيدالله بن زياد متهم النسب في قريش، لأن أباه زيادا كان


مجهول الأب فكانوا يسمونه زياد بن أبيه.. ثم ألحقه معاوية بأبي سفيان لان أباسفيان ذكر بعد نبوغ زياد، انه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغيا فجاءوه بجارية تدعي سمية، فقالت له بعد مولود زياد أنها حملت به في تلك الليلة..

و كانت أم عبيدالله جارية مجوسية تدعي مرجانة فكانوا يعيرونه بها و ينسبونه اليها، و من عوارض المسخ فيه - و هي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن و المهانة - انه كان ألكن اللسان لا يقيم نطق الحروف العربية.

فكان اذا عاب الحروري من الخوارج، قال: «هروري» فيضحك سامعوه، و أراد مرة أن يقول أشهروا سيوفكم، فقال افتحوا سيوفكم... فهجاه يزيد بن مفرغ قائلا:



و يوم فتحت سيفك من بعيد

أضعت و كل أمرك للضياع



و لم يكن أهون لديه من قطع الأيدي و الأرجل و الأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة و لغير شبهة. ففي ذلك يقول مسلم بن عقيل و هو صادق مؤيد بالأمثال و المثلات: «و يقتل النفس التي حرم الله قتلها علي الغضب و سوء الظن، و هو يلهو و يلعب كأن لم يصنع شيئا».

و قد كانت هذه الضراوة علي أعنفها و أسوئها يوم تصدي عبيدالله ابن زياد لمنازلة الحسين، لأنه كان يومئذ في شرة الشباب لم يتجاوز


الثامنة و العشرين، و كان يزيد يبغضه و يبغض أباه لأنه كان قد نصح لمعاوية بالتمهل في الدعوة الي بيعة يزيد، فكان عبدالله من ثم حريصا علي دفع الشبهة و الغلو في اثبات الولاء للعهد الجديد..

و الذين لم يمسخوا في جبلتهم و تكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد ابن معاوية، كان الطمع في المناصب و الأموال و اللذات قد بلغ ما يبلغه المسخ من تحويل الطبائع و طمس البصائر و مغالطة النفوس في الحقائق...

و من هذا القبيل، عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي أطاع عبيدالله ابن زياد في وقعة كربلاء و لم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، و قد كان العدل بها عن تلك النهاية في يديه.

فقد أعزي عمر بن سعد بولاية الري، و هي درة التاج في ملك الأكاسرة الأقدمين. و كان يتطلع اليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، و ينسب اليه أنه قال و هو يراود نفسه علي مقاتلة الحسين:



فوالله ما أدري و اني لحائر

أفكر في أمري علي خطرين






أأترك ملك الري منيتي

أم أرجع مأثوما بقتل حسين



و في قتله النار التي ليس دونها

حجاب، و ملك الري قرة عيني



فان لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي و لا شك من لسان حاله، لأنها تسجل الواقع الذي لا شبهة فيه...

و من الواقع لا شبهة فيه أيضا، أن عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع علي غير ضرورة و لا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحسين بعد علي طريق جثث القتلي التي لم تزل مطروحة بالعراء...

فصحن و قد لحنها علي الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، و هم ممن قاتل الحسين و ذويه...

هؤلاء و أمثالهم لا يسمون ساسة ملك و لا تسمي مهنتهم تدعيم سلطان، و لكنهم يسمون جلادين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة و حقد، و يطيعون ما في أيديهم من أموال و وعود... و تسمي مهمتهم مذبحة طائشة لا يبالي من يسفك فيها الدماء أي غرض يصيب...

و منذ قضي علي يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء و أمثالهم أعوانا له في


ملكه، قضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه لمسألة الحسين علاج الجلادين الذين لا يعرفون غير سفك الدماء و الذين يسفكون كل دم أجروا عليه...

و هكذا كان ليزيد أعوان اذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو جلاد مبذول السيف و السوط في سبيل المال...

و كان الحسين أعوان اذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح...

و هي اذن حرب جلادين و شهداء...