بازگشت

خلق يزيد


و يقف خصمه أمامه موقف المقابلة و المناقضة لا موقف المقارنة و المعادلة في معظم خلائقه و عاداته و ملكاته و أعماله.

فيزيد بن معاوية عريق النسب في بني عبدمناف ثم في قريش، و لكن الأصدقاء و الخصوم و المادحين و القادحين متفقون علي وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبدمناف. و أشهرها الأثرة،


و أحمد ما يحمد منها أنها تنفع الناس من طريق النفع لأصحابها. و ندر من وجوه الأمويين في الجاهلية أو الاسلام من اشتهر بخصلة تجلب الي صاحبها ضررا أو مشقة في سبيل نفع الناس...

و بيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها...

و لكن الحقيقة التي ينبغي ان نذكرها في هذا المقام أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن ليرث شيئا من هذه السيادة التي كان قوامها كله و فرة المال، لأن أباسفيان علي ما يظهر قد أضاع ماله في حروب الاسلام و لم يكن له من الوفر ما يبقي علي كثرة الوراث. و روي أن امرأة استشارات النبي عليه السلام في التزويج بمعاوية فقال لها: «انه صعلوك!...»

كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخري في هذا المقام، و هي أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي كما أشاع خدام دولته بعد صدر الاسلام، و لكنه كان يكتب للنبي عليه السلام في عامة الحوائج و في اثبات ما يجبي من الصدقات و ما يقسم في أربابها، و لم يسمع عن ثقة قط انه كتب للنبي شيئا من آيات القرآن الكريم. و عرفت لمعاوية خصال محمودة من خصال الجد و السيادة كالوقار و الحلم و الصبر و الدهاء، و لكنه علي هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بالملك الراسخ، و منها قتله حجر بن عدي و ستة من أصحابه لأنهم كانوا


ينكرون سب علي و شيعته، فمازال بقية حياته يندم علي هذه الفعلة و يقول: «ما قتلت أحدا الا و أنا أعرف فيم قتلته ما خلا حجرا فاني لا أعرف بأي ذنب قتلته...»

و أم يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب المعرقات في النسب، و هي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق و قالت تتشوق الي عيش البادية:



للبس عباءة و تقر عيني

أحب الي من لبس الشفوف



و بيت تخفق الأرواح فيه

أحب الي من قصر منيف...



و من هذه الأبيات قولها:



و خرق من بني عمي فقير

أحب الي من علج عنيف!...



فأرسلها و ابنها يزيد الي باديتها، فنشأ يزيد مه أمه بعيدا عن أبيه...

و قد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، و لكنها علي ما هو مألوف في أعقاب السلالات القوية تضيرهم و تجهز علي ما بقي من العزيمة فيهم...


فكان ما استفاده من بادية بني كليب بلاغة الفصحي، و حب الصيد، و ركوب الخيل، و رياضة الحيوانات و لا سيما الكلاب.

و هذه صفات في الرجل القوي تزينه و تشحذ قواه، و لكنهما في أعقاب السلالات - أو عكارة البيت كما يقال بين العامة - مدعاة الي الاغراق في اللهو و الولع بالفراغ لأنها هي عنده كل شي ء و ليست مددا لغيرها من كبار الهمم و عظائم الهموم.

و هكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من المزية الي النقيصة... فكان كلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء و الندماء في مجالس الشراب، و كان و لعه بالصيد شاغلا يحجبه عن شواغل الملك و السياسة، و كانت رباضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين و الفهادين، فكان له قرد يدعوه «أباقيس» يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب و الفضة و يحضره مجالس الشراب، و يركبه أتانا في السباق و يحرص علي أن يراه سابقا مجليا علي الجياد، و في ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الروايات:



تمسك أباقيس بفضل عنانها

فليس عليها ان سقطت ضمان



ألا من رأي القرد الذي سبقت به

حاد أميرالمؤمنين أتان




و قد يكون عبدالله بن حنظلة مبالغا في المذمة حين قال فيما نسب اليه: «و الله ما خرجنا مع يزيد حتي خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء ان رجلا ينكبح الأمهات و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا».

و لكن الروايات لم تجمع علي شي ء كاجماعها علي ادمانه الخمر، و شغفه باللذات، و توانيه عن العظائم... و قد مات بذات الجنب و هو لما يتجاوز السابعة و الثلاثين، و لعلها اصابة الكبد من ادمان الشراب و الافراط في اللذات. و لا يعقل أن يكون هذا كله اختلاقا و اختراعا من الأعداء لأن الناس لم يختلقوا مثل ذلك علي أبيه أو علي عمرو بن العاص، و هما بغيضان أشد البغض الي أعداء الأمويين... و لأن الذين حاولوا ستره من خدام دولته لم يحاولوا الثناء علي مناقب فيه تحل عندهم محل مساوئه و عيوبه، كأن الاجتراء علي مثل هذا الثناء من وراء الحسبان.

و لم يكن هذا التخلف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك القسم الذي يعتري أحيانا بقايا السلالات التي تهم بالانقراض و الدثور، و لكنه كان هزالا في الأخلاق و سقما في الطوية... قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه و ضخامة جثمانه و انصافه ببعض الصفات الجسدية


التي تزيد في وجاهة الأمراء كالوسامة و ارتفاع القامة. و قد أصيب في صباه بمرض خطير - و هو الجدري - بقيت آثاره في وجهه الي آخر عمره، و لكنه مرض كان يشيع في البادية و لم يكن من دأبه أن يقعد بكل من أصيب به عن الطموح و الكفاح.

و علي فرط و لعه بالطراد حين يكون الطراد لهوا و فراغا، كانت همته الوانية تفتر به عن الطراد حين تتسابق اليه عزائم الفرسان في ميادين القتال، و لو كان دفاعا عن دينه و دنياه.

فلما سير أبوه جيش سفيان بن عوف الي القسطنطينية لغزو الروم و دفاعا عن بلاد الاسلام - أو بلاد الدولة الأموية - تثاقل و تمارض حتي رحل الجيش و شاع بعد ذلك أنه امتحن في طريقه ببلاء المرض و الجوع، فقال يزيد:



ما أن أبالي بما لاقت جموعهم

بالفرقدونة من حمي و من موم



اذا اتكأت علي الأنماط مرتفقا

بدير مران عندي أم كلثوم



فأقسم أبوه حين بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش ليدرأ عنه عار


النكول و الشماتة بجيش المسلمين بعد شيوع مقاله في خلواته...

و من أعجب عجائب المناقضة التي تمت في كل شي ء بين الحسين و يزيد أن يزيد لم يختص بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحسين، حتي في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة و لا فضل فيها لأصحابها و منها مزية السن و سابقة الميلاد...

فلما تنازعه البيعة كان الحسين في السابعة و الخمسين مكتمل القوة ناضج العقل و في المعرفة بالعلم و التجربة، و كان يزيد في نحو الرابعة و الثلاثين لم يمارس من شئون الرعاة و لا الرعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء.

و مزية السن هذه قد يطول فيها الآخذ و الرد بين أبناء العصور الحديثة، و لكنها كانت تقطع القول في أمة العرب حيث نشأ الأسلاف و الأخلاف علي طاعة الشيوخ و رعاية الأعمار... و هذا علي أن السابعة و الخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتي تسلبه مزية الفتوة و مضاء العزيمة...

كذلك لا يقال أن «الوراثة المشروعة» في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد علي الحسين في ميزان العروبة و الاسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه علي غير وصية معروفة من السلف بدعة هرقلية كما سماها المسلمون


في ذلك الزمان، و لم يكن معقولا أن العرب في صدر الاسلام يوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية و هم لم يوجبوا طاعة آل النبي في أمر الخلافة لأنهم قرابة محمد عليه السلام.

فقد شاءت عجائب التاريخ اذن أن تقيم بين ذينك الخصمين قضية تتضح فيها النزعة النفعية علي نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، و قد وجب أن ينخذل يزيد كل الخذلان لو لا النزعة النفعية التي أعانته و هو غير صالح لأن يستعين بها بغير أعوان من بطانته و أهله. و لئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني أمية، و هي هنا نزعة مواربة تعارض الايمان الصريح و لا تسلم من الختل و التلبيس.

لهذا شك بعض الناس في اسلام ذلك الجيل من الأمويين، و هو شك لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتفق عليها. فقد يخطر لنا الشك في صدق دين أبي سفيان لأن أخباره في الاسلام تحتمل التأويلين، و لكن معاوية كان يؤدي الفرائض و يتبرك بتراث النبي و يوصي أن تدفن معه أظافره التي حفظها الي يوم وفاته. و ليس بيسير علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني علي تلك التقوي و ذلك الصلاح و هو ناشي ء في بيت مدخول الاسلام، يتصارح أهله أحيانا بماينم علي الكفر به أو التردد فيه...


انما هي الأثرة، ثم الخرق في السياسة، ثم التمادي في الخرق مع استثارة العناد و العداء. و في تلك الأثرة و لواحقها ما ينشي ء المقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، و يتم المناظرة في شتي بواعثها بين ذينك الخصمين الخالدين، و نعني بهما هنا المثالية و الواقعية، و ما الحسين و اليزيد الا المثالان الشاخصان منهما للعيان...