بازگشت

خلق كريم


و قد سن الحسين لمن بعده سنة في آداب الأسرة تليق بالبيت الذي نشأ فيه و وكل اليه أن يرعي له حقه و يوجب علي الناس مهابته و توقيره، فهو علي فضله و ذكائه و شجاعته و رجحانه علي أخيه الحسن في مناقب كثيرة و مآثر عدة كان يستمع الي رأي الحسن و لا يسوءه بالمراجعة أو المخالفة. فلما هم الحسن بالتسليم لمعاوية كان ذلك علي غير رضي من الحسين. فلم يوافقه و أشار عليه بالقتال، فغضب الحسن و قال له: «و الله لقد هممت أن أسجنك في بيت و أطين عليك بابه، حتي أقضي بشاني هذا و أفرغ منه ثم أخرجك..»

فلم يراجعه الحسين بعدها و آثر الطاعة و السكوت..

و من رعايته لسنن الأسرة و وصايا الأبوة انه ركبه دين فساومه معاوية بمائتي ألف دينار أو بمبلغ جسيم من المال علي عين «أبي بيزر» فأبي


أن يبيعها مع حاجته الي بعض ما عرض عليه - لان أباه تصدق بمائها لفقراء المدينة، و لو أنه باعها لوقفها معاوية علي أولئك الفقراء.

و قد أخذ نفسه بسمت الوقار في رعاية أسرته و رعاية الناس عامة..

فهابه الناس و عرف معاوية عنه هذه المهابة فوصفه لرجل من قريش ذاهب الي المدينة فقال: «اذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن علي رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبدالله مؤتزرا الي أنصاف ساقيه..»

و لم يذكر عنه قط أنه كان يواجه الناس بتخطئة و هو يعلمهم و يبصرهم بشؤون دينهم، الا أن تكون مكابرة أو لجاجة فله في جواب ذلك أشباه تلك القوارص التي كانت تؤثر عن أبيه.

و ما لم تكن مكابرة أو لجاجة فهو يحتال علي تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها علي المخطئين.

فمن آدابه و آداب أخيه في ذلك أنهما رأيا اعرابيا يخفف الوضوء و الصلاة فلم يشاءا أن يجبهاه بغلطه و قالا له: «نحن شابان و أنت شيخ ربما تكون أعلم بأمر الوضوء و الصلاة منا، فنتوضا و نصلي عندك، فان كان عندنا قصور تعلمنا». فتنبه الشيخ الي غلطه دون أن يأنف من تنبيههما اليه. و مر يوما بمساكين يأكلون فدعوه الي الطعام علي عادة


العرب، فنزل و أكل معهم ثم قال لهم: «قد أجبتكم فأجيبوني» و دعاهم الي الغداء في بيته.

و رويت الغرائب في اختبار حذقه بالفقه و اللغة كما رويت أمثال هذه الغرائب في امتحان قدرة أبيه عليهما السلام... فقيل ان اعرابيا دخل المسجد الحرام فوقف علي الحسن رضي الله عنه و حوله حلقة من مر يديه فسأل عنه، فقال لما عرفوه به: «اياه أردت... جئت لأطارحه الكلام و أساعه عن عويص العربية». فقال له بعض جلسائه: «ان كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب». و أومأ الي الحسين عليه السلام، فلما سلم علي الحسين و سأله عن حاجته قال: «اني جئتك من الهرقل و الجعلل و الأيتم و الهمهم» فتبسم الحسين و قال:

- يا اعرابي!... قد تكلمت بكلام ما يعقله الا العالمون.

فأجابه الأعرابي قائلا يريد الاغراب: و أقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي علي قدر كلامي؟... ثم أذن له الحسين فأنشد أبياتا تسعة، منها:



هفا قلبي الي اللهو

و قد ودع شرخيه



فأجابه الحسين مرتجلا بتسعة أبيات في معناها و من وزنها و قوافيها، يقول منها:




فما رسم شجاني قد

محت آيات رسميه



سفور درجت ذيلين

قد بوغاء قاعيه



هتوف مرجف تتري

علي تلبيد ثوبيه



الي آخر الأبيات... ثم فسر ما أراد من الهرقل و هو ملك الروم، و الجعلل و هو قصار النخل، و الأيتم و هو بعض النبات، و الهمهم و هو القليب الغزير الماء، و في هذه الكلمات أوصاف البلاد التي جاء منها و اشارة اليها...

فقال الاعرابي: «ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاما، و أذرب لسانا، و لا أفصح منه منطقا».

و تلك رواية من روايات علي منوالها، ان لم تنبي ء بما وقع فهي منبئة بما تداوله الناس من شهرة الحسين في صباه الباكر بالعلم و الفصاحة...

و لخبرته بالكلام و شهرته بالفصاحة، كان الشعراء يرتادونه و بهم من الطمع في اصغائه أكبر من طمعهم في عطائه... و لكنه علي هذا كان يجري معهم علي شرعة ذوي الأقدار و الأخطار من أنداده، فيبذل لهم الجوائز ما وسعه البذل و يؤثرهم علي نفسه في خصاصة الحال. و قد لامه أخوه الحسن في ذلك فكتب اليه «ان خير المال ما وقي به العرض» الا أنه في الواقع لم يكن يعطي لو قاية العرض و كفي،


و لكنه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات و لا يخيب رجاء لمن استعان به علي مروءة.