بازگشت

خلافة يزيد


و آل الأمر علي هذا النحو الي يزيد في سنة ستين للهجرة، و هو بين الرابعة و الثلاثين و الخامسة و الثلاثين، و لكنه دون أنداده في تجارب الأيام، و ليس حوله من المشيرين و النصحاء أمثال المغيرة، و زياد، و عمرو بن العاص، و غير هم من القروم الذين كانوا حول أبيه... فتهيب ما هو مقدم عليه، و كتب الي عامله بالمدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: «أن خذ حسينا، و عبدالله بن عمر، و عبدالله بن الزبير، بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتي يبايعوا و السلام».

فبعث الوليد الي مروان بن الحكم يستشيره... و كان مروان يريد الخلافة لنفسه، و لكنه علم بعد موت معاوية و قيام يزيد ان الامر اليوم أمر بني أمية، فان خرج منهم فقد خرج منهم أجمعين. فنصح للوليد نصيحة ذات و جهين: ظاهرها الشدة في الدعوة ليزيد و باطنها السعي الي الخلاص من يزيد و منافسيه. فقال: «أري أن تبعث الساعة الي هؤلاء النفر قندعو هم الي البيعة. أما ابن عمر فلا أراه يري القتال، و لكن

(الحسين أبوالشهداء - 3)


عليك بالحسين و عبدالله بن الزبير، فان بايعا و الا فاضرب أعناقهما...»

و ضرب عنق الحسين و ابن الزبير معناه الخلاص من أعظم المنافسين ليزيد... ثم الخلاص من يزيد نفسه باثارة النفوس و ايغار الصدور عليه!

و قد ذهب رسول الوليد الي الحسين و ابن الزبير، فوجدهما في المسجد... فعلم الحسين ما يراد منه، و جمع طائفة من مواليه يحملون السلاح، و قال لهم و هو يدخل بيت الوليد «ان دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، و الا فلا تبرحوا حتي أخرج اليكم»...

فلما عرضوا عليه البيعة ليزيد قال: «أما البيعة فان مثلي لا يعطي بيعته سرا، و لا أراك تقنع بها مني سرا».

قال الوليد: «أجل!»

قال الحسين: «فاذا خرجت الي الناس فدعوتهم الي البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر و احدا».

ثم انصرف و مروان عاضب صامت لا يتكلم... و ما هو الا أن تواري الحسين حتي صاح بالوليد: «عصيتني و الله! لا قدرت منه علي مثلها أبدا حتي تكثر القتلي بينكم و بيته».

فأنكر الوليد لجاجته و قال له: «أتشير علي بقتل الحسين! و الله ان


الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله».

و هكذا انتهت المنافسة بين بني أمية و بني هاشم الي مفترق طريق لا سبيل فيه الي توفيق، و لم تنقطع قط سلسلة هذه المنافسة منذ أجيال و ان غلبها الاسلام في عهد النبوة، و في عهد الصديق و الفاروق.

و كفي بالاسلام فضلا في هذا المجال أنه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غير قادرة الجهر بمخالفتها! و لكن العصبية المكبوحة عصبية موجودة غير معدومة..

و كثيرا ما يفلت المكبوح من عنانه، و ان طالت به الرياضة و الانقياد..

فاتفق كثيرا في مساجلات شتي بين كبار الصحابة، أن بدرت الي اللسان بوادر العصبية و النبي عليه السلام حاضر، فلما أشار عمر بقتل أبي سفيان - علي خلاف رأي العباس في استبقائه و تألفه - قال العباس:

«مهلا يا عمر! فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا.. و لكنك قد عرفت أنه من رجال عبدمناف».

و لما توثب أسيد بن حضير لضرب أعناق المفترين علي السيدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة و صاح به: «كذبت لعمر الله! ما تضرب أعناقهم.


أما و الله ما قلت هذه المقالة الا انك قد عرفت أنهم من الخزرج، و لو كانوا من قومك - الأوس - ما قلت هذا..»

و قد مات الفاروق و هو يوصي عليا فيقول: «اتق الله يا علي ان و ليت شيئا فلا تحملن بني هاشم علي رقاب المسلمين».. ثم يلتفت الي عثمان فيقول له: «اتق الله ان و ليت شيئا فلا تحملن بني أمية علي رقاب المسلمين»..

و من عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الانسانية أن تبقي وجودها و تمضي لطيتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الاسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة علي بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم و أن الأنبياء لا يوروثون.. و اذا نهضت هذه الحجة علي بني هاشم، فبنوأمية أقوي المنتفعين بها من بطون عبدمناف!

و قد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من الزمن علي عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطف القول الي أبناء علي و يواليهم بالهدايا و المجاملات، و لكنه كان مضطرا الي مجاملة آل علي و مضطرا الي تنقص علي و الغض من دعواه. فكان بذلك مضطرا الي النقيضين في آن.

انه ملك و بايع بالملك ليزيد و هو يعلم أنه غالب بالسلاح و المال، مغلوب بالسمعة و الشعور. فكان الناس يفضلون عليا عليه و هو لا يملك


أن يفاضله بقرابة النبي، و لا بالسابقة الي الاسلام، و لا بالعراقة في قريش. فتجنب النسب و السابقة، و عمد الي شخص علي في منازعات الخلافة، فاتهمه بتفرقة الكلمة بين المسلمين، و أمر بلعنه علي المنابر عسي أن يضعف من تلك المكانة التي هو مغلوب بها و يستبقي الدولة التي هو بها غالب.. و لج في ذلك حتي قتل أناسا لم يطيعوه في لعن علي و اتهامه، و أبي أن يجيب الحسن بن علي الي شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه... و كان معاوية علي حصافته يجهل أنه قد أضاع سمعة و شعورا من حيث حارب عليا في مقام السمعة و الشعور..

و ان مجاملة كهذه التي تحيي الرجل و تغض من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة بين متلاقيين، فضلا عن خصمين متنافسين قد آل بهما التنافس بعد أجيال الي مفترق الطريق.