بازگشت

مسلم بن عقيل بن ابي طالب


أُمـّه أُمّ ولد تـسـمـّي عـليـّة [1] اشـتـراهـا عقيل من الشام.

روي المـدائنـي قـال: قـال مـعـاويـة بـن أبـي سـفـيـان لعـقـيـل بـن أبـي طـالب يـومـاً: هـل مـن حـاجـة فـأقـضـيها لك؟ قال: نعم، جارية عُرِضت عليّ وأبي أصحابها أن يبيعوها إلاّ بـأربـعين ألفاً، فأحبّ معاوية أن يمازحه فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً وأنـت أعـمـي تـجـتـزي بـجـاريـة قـيـمـتـهـا أربـعـون درهـمـاً! قـال: أرجـو أن أطـأهـا فـتـلد لي غـلامـاً إذا أغـضـبـتـه ضرب عنقك بالسيف، فضحك معاوية وقـال: مـازحـناك يا أبا يزيد! وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلماً، فلمّا أتت علي مـسـلم سـنـون [2] وقـد مـات أبـوه عـقـيـل، قـال مـسـلم لمـعـاوية: إنّ لي أرضاً بمكان كذا من المدينة وقد أُعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبـيعك إيّاها، فادفع لي ثمنها، فأمر معاوية بقبض الأرض، ودفع الثمن إليه، فبلغ ذلك الحـسـيـن عليه السلام فـكـتـب إلي معاوية: (أمّا بعد.. فإنّك غررت غلاماً من بني هاشم فابتعت منه أرضاً لا يملكها، فاقبض منه ما دفعته إليه، وأردد إلينا أرضنا).

فـبـعـث مـعـاويـة إلي مـسـلم، فـأقـرأه كـتـاب الحـسـيـن عليه السلام وقـال له: اردد عـليـنـا مـالنـا وخـذ أرضـك، فـإنـّك بـعـت مـا لا تـمـلك. فـقـال مـسـلم: أمـّا دون أن أضـرب رأسـك بـالسـيـف فـلا. فـاسـتلقي معاوية ضاحكاً يضرب برجليه، ويقول له: يا بنيّ هذا واللّه قاله لي أبوك


حين ابتعت له أُمّك.

ثمّ كتب إلي الحسين: إنّي قد رددت أرضكم وسوّغتُ مسلماً ما أخذ [3] .

وروي أبـو مـخـنـف وغـيـره: أنّ أهـل الكوفة لمّا كتبوا إلي الحسين دعا مسلماً فسرّحه مع قيس بن مسهّر، وعبدالرحمن بن عبداللّه، وجماعة من الرسل، فأمره بتقوي اللّه وكتمان أمره واللطف، فإن رأي النـاس مـجـتـمعين عجّل إليه بذلك، وكتب إليهم: (أمّا بعد: فقد أرسلت إليكم أخي وابـن عـمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب لي إن رآكم مجتمعين، فلعمري ما الإمام إلاّ من قام بالحقّ) [4] ، وما يشاكل هذا.

فـخـرج مـن مـكـّة فـي أواخـر شـهـر رمـضـان وأتـي المـديـنـة، فـصـلّي فـي مـسـجـد رسـول اللّه صلي الله عليه وآله وودّع أهـله وخـرج فـاسـتأجر دليلين من قيس فجارا عن الطريق واشتدّ عليهم العطش فلم يلبثا أن ماتا.

وأقبل مسلم ومن معه حتّي انتهوا إلي الماء وقد أشار الدليلان إليهما عليه، فكتب مسلم مع قيس إلي الحـسـيـن عليه السلام من المضيق من بطن خبت [5] أمّا بعد: فإنّي خرجت من المدينة ومعي دليـلان فـجارا عن الطريق وعطشنا، فلم يلبثا أن مات وانتهينا إلي الماء فلم ننجُ إلاّ بحشاشة أنـفـسـنـا، وقـد تـطـيـّرت مـن وجـهي هذا، فكتب إليه الحسين عليه السلام، أمّا بعد: (فقد خشيت أن يكون [6] حملك علي هذا غير ما تذكر فامض لوجهك الذي وجّهتك له والسلام). فسار مسلم حـتـّي مـرّ بـمـأ لطـي ء فـنـزل، ثـمّ ارتـحـل فـإذا رجـل قـد رمـي ظـبـياً حين أشرف له فصرعه فـقـال مـسـلم: يـُقـتـل عـدوّنـا إن


شـاء اللّه. وأقـبـل مـسـلم حـتـّي دخـل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد فحضرته الشيعة واجتمعت له، فقرأ عليهم كتاب الحـسـيـن عليه السلام الذي أجـابهم به، فأخذوا يبكون وخطبت بمحضره خطباؤ هم كعابس الشاكري، وحـبـيـب الأسـدي، فـبـلغ ذلك النـعـمـان ابـن بـشـيـر الأنـصـاري ـ وكـان عامل يزيد علي الكوفة ـ فخرج وخطب الناس وتوعّدهم ولا ن في كلامه، فقام إليه عبداللّه بن مـسـلم بـن سـعـيـد الحـضـرمي حليف بني أُميّة فأنّبه وخرج، فكتب هو وعمارة بن عقبة إلي يزيد بـأمـر النـعـمان وأنّه ضعيف أو يتضاعف، وأخذ الناس يبايعون مسلماً حتّي انتهي ديوانه إلي ثـمـانـيـة عـشـر ألف مـبـايـع أو أكـثـر، فكتب إلي الحسين عليه السلام بذلك مع عابس بن أبي شبيب الشـاكـري وسـأله الإعـجـال بـالقـدوم عـليـه، لا شـتـياق الناس إليه. ولمّا بلغ ذلك يزيد اسـتـشـار ذويه فيمن يولّيه، فأشار عليه سرجون مولي أبيه بعبيداللّه بن زياد وأخرج إليـه عـهـد أبـيـه فيه، فولاّ ه وكتب إليه بولاية المصرين مع مسلم بن عمرو الباهلي. فسار مـسـلم حـتـّي ورد البـصـرة، وقـد كـان الحـسـيـن عليه السلام كـتـب إلي أهل البصرة مع مولاه سليمان، فصلبه عبيداللّه وتهدّد الناس، وخلّف مكانه أخاه عثمان وخرج إلي الكـوفـة، وأخـرج مـعـه شـريـك بـن الأعور، ومسلم بن عمرو وجماعة من خاصّته، فساروا فـجـعـل شـريـك يـتـسـاقـط فـي الطـريـق ليـعرج إليه عبيداللّه فيقيم عليه فيبادر الحسين عليه السلام الكوفة قبل دخولهم فيتمكن من الناس، ولكنّ الحسين لم يكن خرج من مكة كما ظنّ شريك، وعبيداللّه لم يـعـرج عـلي شـريـك كـلّمـا سـقـط كـمـا زعـم، فـدخـل الكـوفـة قـبـل أصـحـابـه، فـظـنّ النـاس أنـّه الحـسـيـن عليه السلام لتـشـبـهـه بـه لبـاسـاً وتـلثـمـه، فـدخـل القـصـر والنـعـمـان يـظـنـّه الحـسـيـن، والنـاس تـقـول له مـرحـبـاً بـابـن رسـول اللّه صلي الله عليه وآله وتـتـبـعـه، فسدّ النعمان باب القصر، فصاح به افتح لا فتحت، فعرفه وفتح الباب وعرفها الناس كلمة عبيدالله فانكفأ وا وانكفوا، وبات مسلم و الناس حوله. فلما أصبح دخل شريك الكوفة فنزل علي هاني بن عروة فزاره مسلم وعاده، فقال لمسلم: أرأيت لو عادني عبيدالله أكنت


قاتله؟ قـال: نـعـم، فـبـقي عند هاني، وأصبح عبيدالله فبعث عينا له من مواليه يتوصل إلي مسلم، وعاد شريك وأخبره عينه أن مسلما عند هاني فبعث علي هاني وحبسه، فجمع مسلم أصحابه وعقد لعبدالله بن عمرو بن عزيز الكندي علي ربع كندة و ربيعة، وقال له سر أمامي في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجه علي ربع مذحج وأسد وقال: انزل في الرجال، وعقد لأبي ثمامة الصائدي علي ربع تميم وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة الجدلي علي ربع المدينة، ثم أقبل نحو القصر فأحاطوا به أمر عبيدالله بسد الأبواب، فأشرف من القصر أشراف الكوفة يخذلون الناس بالترغيب والترهيب، فما أمسي المساء إلا وقد انفض الجمع من حول مسلم، وخرج شبث بن ربعي، والقعقاع بن شور الذهلي، وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن الكلابي يخذلون الناس، وخرج كثير بن شـهـاب بـن الحـصـين الحارثي في عدد للقبض علي من رآه يريد مسلماً، فقبض علي جماعة فحبسهم عبيداللّه.

ثـمّ إنّ مـسـلمـاً خـرج مـن المـسـجـد مـنـفـرداً لا يـدري أيـن يـتـوجـّه، فـمـرّ بـدار إمـرأة يـقـال لهـا (طـوعـة) كـانـت تـحـت الأشـعـث بن قيس [7] ثمّ تزوّجها أُسيد الحضرمي فـولدت منه بلالاً ومات أُسيد عنه [8] ، فاستسقاها فسقته وشرب فوقف، فقالت له: مـا وقـوفـك؟ فـاسـتـضـافـهـا فـأضـافـتـه وعـرفـتـه فـأخـفـتـه بـبيت لها، فاسترابها بـلال ابـنـها بكثرة الدخول والخروج لذلك البيت فاستخبرها فما كادت تخبره حتّي استحلفته


وأخـبرته، فخرج صبحاً للقصر، فرأي ابن زياد وعنده أشراف الناس وهو يتفحص عن مسلم فـأسـرّ لمـحـمـّد بـن الأشـعـث بـخـبـره، فـقـال ابـن زيـاد: ومـا قـال لك؟ فـأخـبـره، فـنـخـسـه بـالقـضـيـب فـي جـنـبـه ثـم قال: قم فاتني به الساعة. فخرج ومعه عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس السلمي في جماعة من قيس حـتـّي أتـوا الدار، فـسـمـع مـسـلم حـوافـر الخـيـل فـخـرج وبـيـده سـيـفـه، فـقـاتـل القـوم قـتـالاً شـديـداً، وكـان أيـّداً، ربـمـا أخـذ الرجـل ورمـي بـه عـلي السـطـح، فجعلوا يوقدون أطنان القصب ويرمونها عليه ويرضخونه بـالحـجـارة مـن السـطـوح، وهـو لايـزال يـضـرب فـيـهـم بـسـيـفـه ويقول في خلال ذلك متحمساً:



أقسمت لا أُقتل إلاّ حرّاً

وإن رأيت الموت شيئاً نكراً



كلّ امرء يوماً ملاق شرّا

أو يخلط البارد سخنا مرّا



رد شعاع النفس فاستقرّا

أخاف أن أكذب أو أغرّا



ثـمّ اختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين فضرب بكير فمّ مسلم فقطع شفته العليا، وأسرع السيف في السفلي، ونصلت لها ثنيتان، فضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه وثنّي بـأُخـري علي حبل عاتقه كادت تأتي علي جوفه فاستنقذه أصحابه. وعاد مسلم ينشد شعره، فـقـال له مـحـمـّد بـن الأشـعـث: لك الأمـان يـا فـتـي، لا تقتل نفسك، إنّك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، فـلمـّا رأي مسلم أنّه قد أُثخن بالحجارة وأضرّت به أطنان القصب المحرق وأنّه قد انبهر أسـنـد ظـهـره إلي جـنـب تـلك الدار فـكـرّر عـليـه مـحـمـّد الأمـان ودنـا مـنـه، فقال: آمن أنا؟ قال: نعم. وصاح القوم: أنت آمن. سوي عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس ‍ السلمي فـإنـّه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل وتنحّي، فقال مسلم: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. ثمّ أُتي ببغلة فحمل عليها وطافوا حوله فانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنّه آيس من نـفـسـه فـدمـعـت عـيـنـاه، وقـال: هـذا أوّل الغـدر،


فـقـال مـحـمّد: أرجو أن لا يكون عليك بأس، فـقـال: مـا هـو إلاّ الرجـاء، أيـن أمـانـكـم؟! إنـّا للّه وإنـّا إليـه راجـعـون وبـكـي، فـقـال عـمـرو السـلمـي: إنّ مـن يـطـلب مـثـل الذي تـطـلب إذا نـزل بـه مـثـل الذي نـزل بـك لم يـبـك، فـقـال: إنـّي واللّه مـا لنـفـسـي أبـكـي ولا لهـا مـن القـتـل أرثـي، وإن كـنـت لم أحـب لهـا طـرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحـسـيـن وآل حـسـيـن. ثـمّ قـال لمـحـمـّد بـن الأشـعـث: يـا عـبداللّه إنّي أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ أتستطيع أن تبعث من عندك رجلاً علي لساني يبلغ حسيناً، فإنّي لأراه قد خرج إليـكـم اليـوم مـقـبـلاً أو هـو خـارج غـداً وأهـل بـيـتـه مـعـه، وإن مـا تـري مـن جـزعـي لذلك، فـيـقـول: إنّ مـسـلمـاً بـعـثـنـي إليـك وهـو فـي أيـدي القـوم أسـيـر لا يـري أن يـمـسـي حـتـّي يقتل وهو يقول: إرجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّي فـراقـهـم بـالمـوت أو القـتـل، إنّ أهـل الكـوفة قد كذّبوك وكذّبوني، وليس لمكذوب رأي، فقال محمّد: واللّه لأفعلن ولأعلمن ابن زياد إنّي قد آمنتك.

قـال جـعـفـر بـن حـذيـفـة الطـائي: فـبـعـث مـحـمـّد أيـاس بـن العتل الطائي من بني مالك ابن عمرو بن ثمامة وزوّده وجهّزه ومتّع عياله، وأرسله للحسين فاستقبله بـزبـالة [9] لأربـع ليـال بـقـيـن مـن الشهر، وكان عبيداللّه بن زياد بعث رئيس ‍ الشـرطة الحصين بن تميم التميمي في نحو من ألفي فارس فأطافوا بالطف ونظموا المسالح ومـنـعـوا الداخـل والخـارج، فـهـم عـلي خـط واحـد فـلم تحصل له فرصة إلاّ ذلك الزمن.

قـال أبـو مـخـنـف: ثـمّ أقـبـل مـحمّد بن الأشعث بمسلم إلي باب القصر فاستأذن فأذن له، فـأخـبـر عـبـيـداللّه بـخـبـر مـسـلم وضـربُ بـكـيـر إيـّاه، فقال: بُعداً له، فأخبره بأمانه، فقال: ما أرسلناك لتؤمنه إنّما أرسلناك لتأتي به. فـسـكـت. وانتهي مسلم إلي باب القصر وهو عطشان، وعلي باب القصر أُناس ينتظرون الإذن منهم: عمارة بن عُقبة بن أبي مُعَيط،


وعمرو بن حُريث، ومسلم بن عمرو الباهلي، وكثير بن شهاب، فـاسـتـسـقـي مـسـلم وقـد رأي قـلّة مـوضـوعـة عـلي البـاب، فـقـال مـسلم الباهلي: أتراها ما أبردها! لا واللّه لا تذوق منها قطرة حتّي تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له: ويحك من أنت؟ قال: أنا ابن من عرف الحقّ إذ أنكرته ونصح لإمامه إذْ غششته، وسـمـع وأطـاع إذ عـصـيـتـه وخـالفـتـه، أنـا مـسـلم بـن عـمـرو البـاهـلي، فـقـال: لإمـّك الثـكـل! مـا أجـفـاك وما أفظّك، وأقسي قلبك وأغلظك! أنت يابن باهلة أولي بـالحـمـيم والخلود في نار جهنّم منّي، ثم تساند وجلس إلي الحائط، فبعث عمرو بن حريث مولاه سـليـمـان فـجـاءه بـقـلّة، وبـعـث عـمـارة غـلامـه قـيـسـاً فـجـأه بـقـلّة عـليـهـا مـنـديـل فـصـبّ له مـأ بقدح، فأخذ كلّما شرب إمتلا القدح دماً من فمه، حتّي إذا كانت الثالثة سـقـطـت ثـنـيـتـاه فـي القـدح، فـقـال: الحـمـد للّه لو كان من الرزق المقسوم لي لشربته. ثمّ أُدخـل مـسـلم فـلم يـسـلّم بـالإمـرة عـلي عـبـيـداللّه، فـاعـتـرضـه الحـرسـي بـذلك، فـقـال عـبـيـداللّه: دعـه فـإنـّه مـقـتـول، فـقـال له مـسـلم: أكـذلك؟ قال: نعم، قال: فدعني أُوصِ إلي بعض قومي. فنظر إلي جلساء عبيداللّه فإذا عمر بن سعد فيهم، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك نُجحُ حاجتي، وهو سـرّ. فـأبـي أن يـمـكّنه من ذكرها، فقال له عبيداللّه: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك، فـقـام مـعـه وجـلس بـحـيث ينظر إليه ابن زياد، فقال: إنّ عليّ بالكوفة ديناً استدنتُه منذ قدمت الكوفة سبعمأة درهم، فاقضها عنّي ببيع لامتي، واستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلي الحـسـيـن عليه السلام مـن يـردّه، فـإنـّي كـتـبـت إليـه أُعـلمـه أنّ النـاس مـعـه، ولا أراه إلاّ مـقـبـلاً. فـقـال عـمـر لابـن زيـاد: أتـدري مـا قـال لي؟ إنـّه قـال كـذا وكـذا، فـقـال ابن زياد: ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن، أمّا ماله فهو لك فاصنع به ما شئت، وأمّا جـثـّتـه فـلن نـبـالي إذا قـتـلنـاه مـا يـصـنـع بـهـا، أو قـال: فـلن نـشـفـعـك فـيـهـا فإنّه ليس بـأهـل مـنّا لذلك قد جاهدنا وجهد علي هلاكنا، وأما حسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا فلن نكف عنه، ثم، قال: إيه يابن عقيل أتيت


الناس و أمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتتهم وتحمل بعضهم علي بعض؟ قال: كلا، ما أتيت لذلك ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسري وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلي حكم الكتاب.قال: و ما أنت وذاك يا فاسق، أولم نكن بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشر الخمر؟! والله إن الله يعلم أنك غير صادق، و إنك لت غير علم، و أني لستكما ذكرت، وإن أحق بشرب الخمر مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا. فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس، ويفسك الدم الحرام، و يقتل علي الغضب و العداوة و سوء الظن، و هو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال ابن زياد: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه و لم يرك أهله، قال: فمن أهله يابن زياد؟ قال: أميرالمؤمنين يزيد. قال الحمدلله رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. قال كأنك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئنا؟ قال: ما هو الظن ولكنه اليقين، قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتله لم يقتلها أحد في الإسلام! أما إنك أحق من أحدث في الإسلام حدثاً لم يكن منه، أما إنك لا تدع سوء القتله، و قبح المثله، و خبث السريرة، ولؤم الغلبة لأحد أحق بها منك، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً و حسينا و عقيلا، و أخذ مسلم بالسكوت و الإعراض عنه، فقال ابن زياد إصعدوا به فوق القصر، و ادعوا بكير بن حمران الأحمري الذي ضزبه مسلم، فصعدوا به، و أحضر بكير فأمره أن يضزب عنقه و يتبع برأسه جسده من أعلي القصر، فصاح مسلم بمحمد بن الأشعث: قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، أما والله لولا أمانك ما استسلمت. فأعرض محمد، و جعل مسلم يسبح الله و يقدسه و يكبره و يستغفره، ويصلي علي أنبياء الله و ملائكته و يقول: الهم احكم بيننا و بين قوم غرّونا وكذّبونا وأذلّونا، فأشرف به من علي القصر فضربت عنقه و اتبع جسده رأسه ونزل بكير فقال له ابن زياد: و ما كان يقول؟ قال: إنه كان يسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيته قلت:


الحمدلله الذي أقادني منك. و ضربته ضربة لم تغن شيئاً، فقال لي: أما تري في خدش تخدشنيه وفامن دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: أو فخراً عند الموت؟ ثم قال: إيه. قـال: وضـربـتـه الثـانـيـة فـقـتـلتـه، ثـمّ أمـر ابـن زيـاد فقتل هاني وجملة من المحبوسين، وجرّت جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق [10] .

وقتل مسلم في اليوم الثامن من ذي الحجّة يوم خروج الحسين عليه السلام من مكّة.

قـال أبـو مـخـنـف: وحـدّث عـبـداللّه بـن سـليـم والمـذرّي بـن المشمعل الأسديين قالا: لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين في الطريق لننظر مـا يـكـون مـن أمـره وشـأنـه، فـأقـبـلنـا تـرقـل بـنـا نـاقـتـانـا مـسـرعـيـن حـتـّي لحـقـنـاه بـزرود [11] ، فـلمـّا دنـونـا مـنـه إذا نـحـن بـرجـلٍ مـن أهـل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأي الحسين، قالا: فوقف الحسين كأنّه يُريده، ثمّ تركه ومـضـي، فـقـال أحـدنـا لصـاحـبـه: إمض بنا إليه لنسأله عن خبر الكوفة، فانتهينا إليه وسـلّمـنـا وانـتـسـبـنـا، فـإذا هـو بـكـيـر بـن المـثـعـبـة الا سـدي فـاسـتـخـبـرنـاه عـن الكـوفـة فـقـال: مـا خـرجـت حتّي رأيت مسلماً وهانياً قتيلين يجرّان بأرجلهما في السوق. ففارقناه ولحقنا بـالحـسين، فسلّمنا عليه وسايرناه، حتّي نزل الثعلبيّة ممسياً فدخلنا عليه وقلنا له: يرحمك اللّه إنّ عـنـدنـا خـبـراً إن شـئت حـدّثـنـاك بـه عـلانـيـة وإن شـئت سـرّاً. فـنـظـر إلي أصحابه وقـال: مـا دون هـؤلاء سـرّ. فـقـلنـا: أرأيـت الراكـب الذي اسـتـقـبـلك عـشـاء أمـس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته. فقلنا قد استبرأنا لك خَبره، وكفيناك مسألته وهو إمرؤ من أسـد مـنـّا ذو رأي وصـدق وفـضـل وعـقـل، وإنـّه حـدّثـنـا بـكـيـت وكـيـت. فـاسـتـرجـع وقـال: رحـمـة اللّه عـليـهـمـا وكـررهـا مـراراً. فـقـلنـا نـنـشـدك اللّه فـي نـفـسـك وأهـل بـيـتـك إلاّ انـصـرفـت فـإنـّه ليـس لك بـالكـوفـة نـاصـر، بـل نـتـخـوّف أن


يـكـونـوا عـليـك فـاعـترضته بنو عقيل بأننا لا نترك ثأرنا، فالتفت إلينا الحسين وقال: (لا خير في العيش بعد هؤلاء)، فعلمنا أنّه عزم علي المسير، فقلنا له: خار اللّه لك. فـدعـا لنـا، فـقـال له أصـحـابـه: إنـّك واللّه مـا أنـت مثل مسلم، ولو قدمت الكوفة كان الناس إليك أسرع [12] .

قال أهل السير: ولمّا ورد الحسين زبالة [13] أخرج كتاباً لأصحابه فقرأه عليهم وفـيـه: أمـّا بـعـد فـقـد أتـانـا خـبـر فظيع إنّه قتل مسلم وهاني وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شـيـعـتـنـا، فـمـن أحـبّ مـنـكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام، فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالاً إلاّ صفوته [14] .

وروي بـعـض المـؤ رخين: أنّ الحسين لمّا قام من مجلسه بالثعلبيّة [15] توجّه نحو النـسـاء وانـعطف علي ابنة لمسلم صغيرة، فجعل يمسح علي رأسها فكأنّها أحسّت، فقالت ما فعل أبي، فقال يا بنيّة أنا أبوك، ودمعت عينه، فبكت البنت وبكت النساء لذلك.

قـال أهـل السـيـر: ثـمّ إنّ ابـن زيـاد بـعـث برأسي مسلم وهاني إلي يزيد مع هاني بن أبي حَيّة الوادعـي والزبـيـر بـن الأروح التـمـيـمـي [16] ، واستوهبت الناس الجثث فدفنوها عند القصر حيث تزار اليوم، وقبراهما كلّ علي حدة.

وإنّي لأستحسن كثيراً قول السيّد الباقر بن السيّد محمّد الهندي فيه:



سقتك دماً يابن عمّ الحسين

مدامع شيعتك السافحه






ولا برحت هاطلات الدموع

تحييك غادية رائحه



لا نّك لم ترو من شربة

ثناياك فيها غدت طائحه



رموك من القصر إذ أوثقوك

فهل سلمت فيك من جارحه



تجر بأسواقهم في الحبال

ألست أميرهم البارحه



أتقضي ولم تبكك الباكيات

أما لك في المصر من نائحه



لئن تقض نحباً فكم في زرود

عليك العشية من صائحه



ولي في ذلك:



نزفت دموعي ثمّ أسلمني الجوي

لقارعة ما كان فيها بمسلم



أجيل وجوه الفكر كيف تخاذلت

بنو مضر الحمراء عن نصر مسلم



أما كان في الأرباع شخص بمؤمن

وما كان في الأحياء حي بمسلم



(ضبط الغريب)

ممّا وقع في هذه الترجمة:

(عُلَيّة): بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء المثناة تحت.

(يتساقط): أي يقيم المكان بعد المكان من المرض.

(القـعـقـاع): بـالقـاف المفتوحة والعين المهملة الساكنة والقاف والعين بينهما ألف، ابن شور بـالشـيـن المـضـمـومـة والراء المـهـمـلة، له شـرف وسـمـعـة ويـضـرب بـه المـثـل فـي المـجـالسـة، فـيـقـال جـليـس القـعـقـاع بـن شـور، لأنـّه دخـل مـجـلس مـعـاويـة وقـد ضـاق فـقـام رجل وأعطاه مكانه فجلس فيه ثمّ أمر له معاوية بشي ء، فـقـال: أيـن مـن قـام عـن مـجـلسـه لي؟ فـقـال: هـاأنـا ذا، فقال: خذ ما نلته بمكانك مكافأة لقيامك.

(أطنان): جمع طن وهو: الحزمة من القصب.

(رد شـعـاع النـفـس): الشـعـاع المـتـفـرّق مـن الشـي ء تـفـرّقـاً دقـيـقـاً يقال: مارت نفسه شعاعاً أي تفرّقت من الخوف.


قال الشاعر:



أقول لها وقد طارت شعاعاً

من الأبطال ويحك لا تراعي



فالمعني في الرجز أنّ النفس إستقرّت بعد ما تفرّقت، ويمضي في جملة من الكتب شعاع الشمس وهو غلط وتصحيف، صحفه من لم يفهم شعاع النفس فرأي أنّ الشعاع بالشمس أليق.

(القُلّة): بالضم إناء للماء كالكوز الصغير.

(إيـه): بـكـسـر الهـمـزة والهـاء تـنوّن ولا تنوّن فإن نوّنت الهاء كانت كلمة استنطاق وإن سكنت الهاء كانت كلمة استكفاف، فمعني الأولي تكلم ومعني الثانية اسكت.

(لؤم الغـلبـة): إذا غـلب اللئيـم تـبـجـح وظـهـر عـليـه التـجـبـر، وإذا غـلب الكريم إستحيي وصغرت له همّته ما فعل، فلؤم الغلبة التبجح والإستعلاء وكرمها التصاغر والإستحياء.

(مـسـلم): الأوّل إسـم فـاعـل مـن أسـلمه إلي الشي ء بمعني أعطاه إيّاه وخذله، والثاني العَلَم المترجم، والثالث إسم فاعل من أسلم خلاف كفر.

(الأربـاع): أربـاع الكـوفـة وهـي المـديـنـة وكـنـدة ومـذحـج وتـمـيـم، وتـدخـل ربـيـعـة مع كندة، وأسد مع مذحج، وهمدان مع تميم، وتنضم غيرهم إليهم في الجميع، يقال: أرباع الكوفة وأخماس البصرة، وقد تقدّم ذلك.


پاورقي

[1] فـي مـقـاتـل الطـالبـيـيـن، ص 86: حـليـة. وفـي تـاريـخ خليفة، 145: حلبة. راجع الطبقات الکبري: 4: 29.

[2] في المصدر: ثماني عشرة سنة.

[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 12: 251.

[4] تاريخ الطبري: 3: 278. راجع الإرشاد: 2: 39.

[5] الخبت: مأ لقبيلة کلب. راجع معجم البلدان: 2: 343.

[6] في الإرشاد 2: 40: أن لا يکون حَملَک.

[7] قـال ابـن حـجـر: الأشـعـث بـن قـيـس بـن مـعـد يـکـرب الکـندي، أبو محمّد الصحابي نـزل الکـوفـة، مـات سـنـة أربـعـيـن أو إحـدي وأربـعـيـن وهو ابن ثلاث وستين. راجع تقريب التهذيب: 1: 80، الرقم 608.

[8] هکذا في الأصل، والصحيح: عنها.

[9] زُبـالة: مـنـزل بـطـريـق مکّة من الکوفة. معجم البلدان: 3: 129.

[10] تاريخ الطبري: 3: 291.

[11] زرود: مـوضـع عـلي طـريـق حـاج الکـوفـة بـيـن الثـعلبيّة والخزيميّة. معجم البلدان:3:139.

[12] تاريخ الطبري: 3: 302، راجع الإرشاد: 2: 73.

[13] زبالة: منزل بطريق مکّة من الکوفة. معجم البلدان: 3: 129.

[14] الإرشاد: 2: 75.

[15] الثعلبيّة: موضع بطريق مکّة.

[16] راجع الإرشاد: 2: 65.