بازگشت

تلخيص لكتاب «اللؤلؤ و المرجان » في شروط خطباء المنبر الحسيني



المقدمة

(فَبِمَـا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُم ْ لَعَنَّاهُم ْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُم ْ قَاسِيَة ً يُحَرِّفُون َ الْكَلِم َ عَن مَوَاضِعِه ِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِه ِ).

بتقديم هذه الاية الشريفة من سورة المائدة يبدا الاُستاذ الشهيد الشيخ المطهري (ره) حديثه في اربعة مجالس متوالية عقدت في حسينية (ارشاد) بطهران في محرم الحرام 1389 ه في موضوع : (التحريفات في وقعة كربلاء التاريخية و حول سيّد الشهداء الإمام الحسين (ع)) فجعل بحثه في هذه المجالس الاربع في اربعة فصول :

الفصل الاوّل : حول معني التحريف و انواعه و ما وقع منه في حادثة كربلاء التاريخية .

و الفصل الثاني : في عوامل التحريف وعلله ، و لماذا يحرّف الإنسان تاريخ الحوادث و القضايا والشخصيات احياناً؟ و ما هي العوامل التي ادت إلي وقوع التحريفات في نقل حادثة كربلاء وقضية سيّد الشهداء (ع) بصورة خاصة .

و الفصل الثالث : توضيح لانواع التحريفات التي حدثت في هذه الحادثة التاريخية .

و الفصل الرابع : حول واجبنا نحن العلماء من عموم المسلمين تجاه هذه التحريفات .

و في الفصل الاوّل يقول : إن ّ حادثة كربلاء بالنسبة لنا نحن المسلمين الشيعة حادثة اجتماعية كبري سواء اردنا ام ابينا، واعني بذلك ان لهذه الحادثة الكبري آثاراً كبيرة و كثيرة في تربيتنا و اخلاقنا و عاداتنا.

إنّها حادثة تصرف لاستماع القضايا المتعلقة بها ملايين الساعات من اوقاتنا من قبل الملايين منا بصورة تلقائية تقريباً وبدون ان تكون ايّة قدرة تجبرنا علي ذلك ، و نصرف في سبيل ذلك الملايين من الاموال .

إن ّ هذه القضية الكبري يجب ان تبيّن للناس كما كانت بدون زيادة او نقصان ، و إذا حصل فيها اي دخل او تصرف ، فسوف يحرف هذا التصرف مجري و آثار تلك الحادثة ، فبدل ان نستفيد منها سوف نتضرّربها قطعاً.

و بحثنا الان هو: اننا ـ ومع الاسف الشديد ـ قد ادخلنا في نقل و حكاية حادثة عاشوراء الكثير من الاف التحريفات ، تحريفات لفظية ظاهرية في اُصول القضايا و مقدماتها و هوامشها، و تحريفات مؤسفة في دراستها و تحليلها.

إن ّ هذه الحادثة ـ و مع بالغ الاسف ـ اُبتليت بتحريفات لفظية و اُخري معنوية و ماهوية .

إن ّ التحريف قد يكون تحريفاً موافقاً مع اُصول القضايا، وقد لاينسجم من القضية بل يمسخها و يقلبها و يصورها بضدّها.

و من المؤسف حقاً ان اقول : إن ّ التحريفات التي دخلت بايدينا نحن في هذه الحادثة كلّها ممّا يتجه بها إلي التنازل وإلي مسخها وإفراغها عن خواصها و آثارها.

وقد قصّر في هذا الامر العلماء بالتفريط ، و الخطباء بالإفراط ، و معهم سائر الناس .

والتحريف اللفظي كثير جداً خارج عن حدّ البيان ، بحيث إذا اردنا ان نجمع ما يقرا من الكذب في مجالس العزاء لسيد الشهداء ابي عبدالله الحسين (ع) لربّما بلغت بمجموعها عده مجلدات من الكتب وانا ساذكرهنا نماذج من بعض التحريفات التي احدثوها في حكاية صورة هذه القضية .

اجل ، هكذا بدا الاُستاذ الشهيد الشيخ المطهري (ره) حديثه في تحريفات عاشوراء، ثم اخذ يعرّف بكتاب المرحوم المحدث النوري (ره) في هذا الموضوع فقال :

«إن ّ المرحوم الحاج الشيخ ميرزا حسين النوري اعلي الله مقامه ،اُستاذ المرحوم الحاج الشيخ عباس القمي ، و المرحوم الحاج الشيخ علي اكبر النهاوندي ، و المرحوم الشيخ محمد باقر البيرجندي المحدث ، كان محدّثاً خبيراً في فنه ذا ذكاء و حفظ قوي و اُسلوب جذّاب جميل ، و مؤمناً ذا حرارة وجدّية في إيمانه وتقواه ، وجل كتبه كتب جيدة مفيدة ، اخص بالذكر هنا كتاباً كتبه في موضوع المنبر الحسيني (علي صاحبه السلام )باسم : (كتاب اللؤلؤ و المرجان ) وإن لم يكن كتاباً ضخماً بل صغيراً في حجمه نسبياً، ولكنّه كتاب جيد جداً، تحدث فيه في وظائف خطباء المنبر الحسيني .

الكتاب في فصلين : احد فصلين في إخلاص النيّة باعتباره ان من شروط الخطيب و الواعظ وقاري مجالس عزاء الإمام الحسين (ع) ان يكون علي نيّة خالصة ، فهو حينما يرقي المنبر ويقرا شيئاً بشان الإمام الحسين لا يكون طامعاً في حطام الدنيا و هشيمها! و قد بحث الموضوع بحثاً جيداً، لا ادخل فيه هنا.

و الشرط الثاني من الفصل الثاني هو الصدق ، وهنا شرح موضوع الصدق والكذب ، وقد بحث عن انواع الكذب بما لا اتصور ان يكون اي كتاب اخر قد بحث في الكذب و انواعه كما بحثه في هذا الكتاب ، قد ابدي هذا الرجل العظيم من نفسه قدرة فائقة في هذا البحث بما لا نظير له ، و ذكر في هذا الفصل نماذج من الكذب المتداول المنسوب إلي هذه الحادثة التاريخية (عاشوراء)، و قد صرّح بهذا الصدد، يقول : إن ّ علينا ان نعقداليوم عزاءً جديداً لم يكن في السابق ، بسبب هذه الاكاذيب الكثيرة التي تقال بشان حادثة كربلاء و لا مانع و لا رادع !

و كتب في مقدمة الكتاب : ان ّ احد علماء الهند كتب إلي ّ كتاباً شكياءلي ّ فيه من الاكاذيب التي تقرا في ماتم الإمام الحسين (ع) في الهند، و قد طلب إلي ّ ان اكتب له كتاباً لعلّه يردع هؤلاء القرّاء عن قراءة الاكاذيب .

ثم ّ يقول المرحوم النوري :

«لقد توهّم هذا الرجل العالم الهندي ان القرّاء حينما يذهبون إلي الهند يكذبون ! ولا يدري ان الماء غير صاف من منبعه ، وان المراكز في النجف الاشرف و كربلاء المقدّسة وإيران هي سبب هذه القراءات الكاذبة ».

ثم يقول الاُستاذ الشهيد المطهري (ره): «وساُبين لكم هنا نماذج من هذه لتحريفات تتعلق بما وقع قبل عاشوراء، وبما حدث في اثناء طريق الإمام (ع) من المدينة إلي كربلاء، وما حدث في ايام اقامته (ع) بكربلاء،و بما وقع علي اهل بيته في السبي و الاسر، و بما نسب منه إلي بعض الائمة المعصومين بعد قضايا كربلاء ممّا يتلعق بعاشوراء الحسين (ع).

وقبل ذكري لذه النماذج علي ّ ان اذكّر بموضوع مهم جداً، و هو ان علي جميع الناس مسؤولية تجاه هذا الامر، انتم الذين تساهمون بالحضور في ماتم الإمام الحسين (ع) ولا تتصورون ان تكونوا مسؤولين عن هذه القضية ، بل تتصورون ان المسؤول هو القائل والقاري و الخطيب فقط ، كلا بل انتم مسؤولون ايضاً إن ّ علي جميع الناس مسؤوليتين كبريتين :

إحداهما: مسؤولية النهي عن المنكر الذي يجب علي الجميع ، فإذا فهم المستمع و علم ـ واكثرهم يفهمون ويعلمون ـ بكذب ما يقرا و يقال لم يجز لهم ان يستمروا جالسين في ذلك المجلس إنّه حرام و عليهم ان يكافحوا هذه الاكاذيب !

و ثانيتهما: العمل علي إبطال ميول اصحاب المجالس و المستمعين إلي تصعيد حرارة الماتم بحيث يرغبون ان يصبح المجلس وكانه صعيد كربلاء و مسرح عاشوراء! فيري قاري الماتم انّه إن التزم بان يكون كل ّما يقراه صدقاً صحيحاً فسوف لا يصبح المجلس كما يريده المستمعون ،و علي هذا فسوف لا يدعونه للقراءة بعد هذا، فيري نفسه مضطراً إلي اضافه مشجية مفجعة ـ وإن لم تكن صحيحة ـ إن ّ علي الناس ان يرفعواايديهم ويتنازلوا عن هذا التوقع والإصرار، و لا يؤيدوا ذلك القاري الذي يحاول ـ بكذبه ـ ان يفجع المجلس ويجعله صعيد كربلاء، و مسرحاً حياً لحوادث عاشوراء ولو بالكذب ! إن ّ الناس يجب ان لا يصغوا إلاّ إلي القراءه الصحيحة الصادقه ، كي يرتفعوا بمستوي معارفهم وافكارهم ،وعليهم ان يعلموا انه إذا اهتزّ ضميرهم و وجدانهم واهتزّت عواطفهم بالكلمة الصادقة و انسجمت ارواحهم مع روح الحسين بن علي (ع) وسالت علي اثر ذلك و لو دمعة واحدة من اعينهم فإن لك مقام معنوي كبير، اما الدموع التي تستدرّ من العيون بالاكاذيب فلا قيمة لها و لو كانت كزبد البحر.

إن ّ هذا التوقع من قبل اصحاب المجالس ان تصبح مجالسهم مسارح لحوادث كربلاء هو مولد للكذب ، فإن ّ اكثر الاحاديث المذكوبة الموضوعة إنّما كانت مقدمة لاستدرار الدموع فمن اجل ان يتطرّق القاري إلي ذكر مصاب كربلاء ويستدرّ به الدموع يرتكب هذه الاكاذيب ، وليس اي شي ء سوي هذا...».

هذا هو ما يقوله الاُستاذ الشهيد المطهري ثم يبدا بذكر النماذج .

و نحن نبدا بذكر قصة كتاب (اللؤلؤ والمرجان ) ثم تلخيصه :


قصة كتاب (اللؤلؤ والمرجان )

كتب احد علماء الهند يصفه المؤلف في مقدمة كتابه بالقاب جليلة إلي ان يقول السيد السند المؤيد المجتبي ، المولوي محمد مرتضي العندي الجونبوري ، مرات عديدة إلي المؤلف المحدث المحقّق العلامة الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي صاحب الكتاب الكبير (مستدرك الوسائل ) يشكو إليه خطباء المنبر الحسيني (ع) انهم غير ابهين بالكذب ،بل حريصون عليه ، و مصرّون إصراراً تاماً علي نشر الاكاذيب والموضوعات ، بل يكاد بعضهم ان يري ذلك جائزاً ومباحاً، و انه خارج عن صفة المعصيه ، وحتّي القبح العقلي لانه يسبب بكاء المؤمنين علي الحسين المظلوم الشهيد (ع)، فطلب منه ان يكتب مقالاً بهذا الشان داعياً إلي سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة ويجادل هؤلاء بالتي هي احسن ، عسي ان يكون تنبيهاً لهم فيكفّوا عن هذه السنّة القبيحة !

ثم يقول المؤلف : «ولو لم يكن اهل العلم ليتساهلوا مع هؤلاء، بل كانوا يراقبونهم علي تمييز السليم عن السقيم والصدق عن الكذب من مقالهم فينهونهم عن نشر الاكاذيب ، لم يكن ليصل الامر بهم إلي هذاالحد من الفساد و الجراة علي الله والرسول والائمة (ع)، ولم يكونوا هكذاينشرون الاكاذيب الواضحة المعلومة الفساد، ولم يكن ليصل الامر بمذهب الإمامية إلي هذه الدرجة من الاستهزاء والسخرية ولم تكن هذه المجالس الشريفة تصل إلي هذا الحد من فقدان بهائها ورونقها وبركتها الروحية و المعنوية !».

ثم يعتذر إليه من تاخير الإجابة فيقول : «وبسبب اشتغالي بتاليف كتاب (مستدرك الوسائل ) لم اكن لاتمكن من اجابة ملتمسة ، حتّي إذا فرغت في هذه الايام من هذه الخدمة كتبت هذا المختصر ـ حسب امرالسيد ـ في بيان الكيفية اللائقة لعمل هذه الطائفة و سميته بت (اللؤلؤ و المرجان ) في بيان شرائط الخطباء، ورجائي ـ بلطف الله ـ واثق بان يكون هذا الكتاب سبباً في ردع بعضهم عن جميع او بعض تلك الاكاذيب و الفساد العظيم المترتب عليها إن شاء الله تعالي» ثم يبوّب الكتاب إلي مقدمة و فصلين و خاتمة :

اما المقدمة ، ففي بيان ان إبكاء المؤمنين علي المصائب التي اُصيب بها ابوعبدالله الحسين وسائر اهل بيته : من العبادات المندوبه المستحبة ، المقرر لها الثواب الجزيل و الاجر الجميل .

ثم يقول : ولكن الوصول إلي هذه الرتبة الجليلة والانخراط في سلك هذه الطائفة مشروطة بشروط عمدتها شرطان ..

علي كل ّ خطيب ادخل نفسه في هذا الصنف ان يحصل علي هذين الشرطين علي نحو الجزم او الاطمئنان بل يختبر نفسه في ذلك عارضاً لها علي الميزان العادل الذي هو بيد العلماء الرّاسخين اُمناء الشرع المبين ليخلص من كيد الشياطين و لا يلقي بنفسه إلي التهلكة والخسران المبين !

وهذان الشرطان احدهما: الإخلاص ، والاخر: الصدق ، ونذكر شرح هذين الشرطين ضمن فصلين : الفصل الاوّل في الإخلاص :

قال في هذا الفصل : يجب ان يعلم الخطباء بان عملهم عبادة كسائر العبادات ، وإنما يكون العمل عبادة فيما إذا لم يكن للعامل حين العمل اي قصد سوي رضا الله، و الرسول وائمة الهدي صلوات الله عليهم ، وإن ْ كان فإنّما هو مجرد حصول الثواب الموعود و غفران الذنوب ، فإن ذلك لا ينافي الإخلاص إذ العمل معه لإطاعة امر الباري عزّ اسمه ، و بالطاعة يصل المطيع إلي ما اعدّ من الثواب الجزيل والاجر الجميل ويامن من شرّ ذنوبه . فحينما يضع الخطيب قدمه علي المرقاة الاُولي لمنبر الخطابة يجب ان ينسي غير ذات الواحد سبحانه ، وخلفائه الراشدين المعصومين ، ينسي كل احد فلا يري احداً ولا يطلب رضا احد سواه سبحانه ، ولا يرقي المنبر لتحصيل المال ، او نشر فضيلته في الاقطار و البلاد، و إيصال محاسن مقاله إلي اسماع العباد.

ثم يقول : إن ّ الخطيب الذي يكون غرضه الاصلي من وراء تعلّم فن الخطابة و ما يتعلق بها من اخبار الفضائل و المصائب و الخطب و المواعظ وحتّي المسائل الدينية ، مجرّد تحصيل المال وكسبه ، فيكون كسائرالكسبة و التجّار يعامل الناس و يساومهم في زيادة وقلّة الاجرة ، لعرض متاعه علي الزبائن و المشترين يرسل الوسائط إليهم ويكتب الرسائل ،فإذا اُذِن َ له و ذهب و قرا وكان ما اعطي اقل ممّا كان يتوقع غضب وفضحه !

إنّه من اوضح مصاديق ما رواه الكشي في رجاله عن العوف بن القاسم عن علي بن الحسين (ع) انّه قال له :

«إياك ان تستاكل بنا فيزيدك الله فقراً».

و ما رواه الكليني في الكافي عن الإمام الباقر (ع) في وصاياه لابي النعمان :

«ولا تستاكل الناس بنا فتفتقر».

و رواه المفيد في اماليه هكذا: «يا ابا النعمان : لا تستاكل بنا الناس فلا يزيدك الله بذلك إلاّ فقراً» وما رواه الكليني في الكافي ايضاً عن الإمام الصادق (ع) انه قال :

«من اراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب ، ومن اراد به الاخرة اعطاه الله خير الدنيا والاخرة » وما رواه ابن شعبة الحرّاني في اخر كتابه تحف العقول في وصايا المفضل بن عمر لاصحابه :

(لا تاكلوا الناس بال محمّد:، فإني سمعت ابا عبدالله يقول : «افترق الناس فينا علي ثلاث فرق : فرقة احبّونا وانتظروا قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا و حفظوا كلامنا وقصّروا عن فعلنا فسيحشرهم الله إلي النار، و فرقة احبّونا و سمعوا كلامنا ولم يقصروا عن فعلنا، ولكن ليستاكلوا الناس بنا، فيملا الله بطونهم ناراً، يسلّط عليهم الجوع و العطش ، و فرقة احبّونا و حفظوا قولنا و اطاعوا امرنا و لم يخالفوا فعلنا فاُولئك منّا و نحن منهم »).

و من العجائب المضحكة ان هؤلاء مع هذه التجارة و معارضة الدنيا بالاخرة يفخرون علي منابرهم في محافلهم ومجالسهم فيعدّون انفسهم من خدّام سيّد الشهداء (ع)! و إنّما يدخل الخطيب في سلك خدّام ذلك الإمام (ع) فيما إذا كان ما يقوله لله عزّ وجل ّ ولاداء حق ّ اوليائه (ع)، و إلاّ فهو كاسب اتّخذ فضائلهم ومصائبهم راسمال لعمله .

ثم إن ّ المحدّث النوري (ره) عدّ بعض المهالك العظيمة المرتبة علي عدم إخلاص الخطيب فمنها:

اوّلاً: حرمانه من الثواب المعدّ للإخلاص في هذه العباده .

ثانياً: دخوله في مصداق من جعلوا آل محمّد (ع) راسمال لعملهم و تجارتهم وكسب معايشهم كما ذكر.

ثالثاً: دخوله فيمن باع اخرته بدنياه .

رابعاً: دخول كثير منهم في مصداق من يصف معروفاً و لا يعمل به ،فيقول : سيما اُولئك الذين يذكرون الخطب البليغة لاميرالمؤمنين (ع) و موعظه الشافية وقوله وفعله ، فيحذرون النسا حب الدنيا و افاتهاو مهلكاتها و بليّاتها، و يحثونهم علي بغض الدنيا والزهد فيها،و يستشهدون لذلك باحوال ائمة الدين و خواص اصحابهم و العلماء العاملين ، و يذكرون الايات و الاحاديث المناسبة مرتبة ومنتظمة .. بينماهم معجبون بجيفة الدنيا، مغرمون بها، متلوثون بخبائثها ورذائلها، بحيث إذا غفل صاحب المجلس في حين دخولهم او خروجهم فلم يعمل بلوازم تكريمهم و توقيرهم كما يتوقعون ، او قلل من اجرتهم شيئاً اهتموا و عتبوا و اعترضوا و ردّوا الاُجرة ولم يعودوا لذلك المجلس ، وهو مع هذه الحالة الذميمة و الافعال القبيحة يعيبون علي اهل الدنيا و يحسبون انفسهم من اهل الاخرة !

ثم ينبّه علي عدّة اُمور يحتوي اوّلها علي بيان حقيقة الزهد فيقول :

إن ّ حقيقة الزهد: هو إعراض القلب بصدق عن الدنيا و عدم تعلّقه بها، و عدم الاعتناء بها كشي ء ينبغي ان يتعلق قلبه بها، ويحبّه ، بحيث لا يفرح بها إذا اقبلت عليه ولا يغتم ّ إذا ولّت عنه : (لكي لا تاسوا علي ما فاتكم و لاتفرحوا بما اتاكم ).

فمن بلغ إلي هذه الرتبة لم تكن له رغبة حريصة علي تحصيلهاوجمعها، ولا يبدي السرور لإقبالها ولا يضطرب لإدبارها وهان عليه امتثال الامر الإلهي في انفاق المال الواجب منه كالزكاة و الخمس و امثالهما، والمستحب كسائر الصدقات ، بل تنشط للطاعة ، إذ يتساوي لديه الذهب والفضة مع الحجر والتراب .. بهذا واشباهه من العلائم والآثاربامكاننا ان نعلم انه صاحب زهد حقيقي .

و قد تبدو هذه العلائم والآثار من احد دون ان يحس في نفسه بحقيقة الزهد، بل هو يحب الدنيا وقلبه متعلّق بها، ولكنه متنفّر من ذلك ولا يرضي لنفسه بتلك العلاقة ، فهنا عليه ان يحاول الحصول علي العلائم والآثار والاستمرار عليها املاً في الوصول إلي الحالة النفسانية ، كما جاء في الحلم عن اميرالمؤمنين (ع) إذ روي الامدي في (الغرر والدرر) انه قال : «إن لم تكن حليماً فتحلّم ، فإنه قل ّ من تشبّه بقوم إلاّ اوشك ان يكون منهم ».

و ايضاً عنه (ع): «من لم يتحلّم لم يحلم ».

و في التنبيه الثاني ينبّه المؤلف علي عدد من المحرّمات الضمنية منها:

الترويج للباطل في المحافل او في الدعاء في نهاية المجلاس و المدح لمن لا يستحق ذلك ، والإهانة إلي عظماء الدين ، و إفشاء اسرار آل محمد (ع)، و إعانة الظالمين ، وتعزيز المجرمين ، وإثارة جراة الفاسقين ، وتفسير القران ، والحديث بالراي والمعاني الفاسدة ، و الفتوي بغير علم و تنقيص مقام الانبياء لتعظيم مقام الائمة (ع).

و تقيطع الاخبار و حذف ما لا يتلاءم منها مع الافكار الخاصة .

و الإكثار من القصص والاكتفاء بها و بالمضحكات منها بالخصوص .

و طرح الشبهات بقوّة مع الضعف في ردّها وجوابها.

و ذكر ما ينافي عصمة اهل البيت (ع).

فالخطب بهذه وامثالها لا يفقد الإخلاص فحسب بل يرتكب كبائرالذنوب و المعاصي .

و بهذا ينتهي خلاصة الفصل الاوّل من الكتاب .

و في الفصل الثاني من الكتاب ، يبيّن الشرط الثاني من الشرطين الاساسيين للخطابة و هو الصدق ، و يوضّحه ضمن مقامات خمسة :

الاوّل : في مرتبة الصدق والثناء عليه .

و الثالث : في تعظيم إثم الكذب علي الله و رسوله و الائمة الطاهرين (ع).

و الرابع : في اقسام الكذب واحكامها.

و الخامس : في بيان المراد من الصدق في الخطابة .

و في المقام الرابع حيث يقسّم الكذب يذكر منه الكذب علي المعصومين في اُمور الدنيا و معاشرة الناس و يمثل لذلك بما يقراه جماعة من الخطباء: ان ّ زينب (س) جاءت إلي اخيها الحسين (ع) وهو في حالة الاحتضار فيروون عنها كلمات ثم يقولون : فرمقها الحسين بطرفه و قال لها: اُخيّه ارجعي إلي الخيمة فقد كسرت قلبي وزدت كربي .

و في القسم الثاني عشر منه يذكر الكذب المعمول المتعارف في الكتب والمقالات والمقامات شعراً و نثراً شبيهاً بالنظم كمقامات الهمداني و الحريري و امثالهما، فينقل عن المحقّق النراقي في كتابه (مستند الاحكام ) في فروع الكذب علي الله والرسول والائمة (ع) في يوم الصيام انّه قال :

«وما ينسب إليهم من القول في المراثي و نحوها ممّا نقطع انهم لم يقولوه ، فإن كان بما يعلم ان نسبة هذا المقال إليهم إنّما هو من مبالغات الشعر المتعارف عليها في الاشعار، فالظاهر انه لا باس به ، و إلاّ بطل الصوم بنسبة تلك الكذبة و الاحوط تركهما».

ثم يقول المؤلف : يظهر من عمل العلماء والسيرة المستمرة و بعض القرائن الاُخري : ان هناك تساهلاً شرعياً في الشعر، و في النثر المتشابه للشعر من حيث الصدق و الكذب وانهم لم يجروا علي ظاهره حكم الكذب ، و الوجه فيه هو ما اشار إليه النراقي في مستنده ، فإن كثيراً ممّايقولونه في هذه المقامات و نحوها فينسبون به قولاً او فعلاً إلي احد، إنّما هو مبني علي المبالغة و الاستعارة و التشبيه لا يقصد به معني اخر يتنزّه الكلام بملاحظته عن لوث الكذب القبيح ، بل يعد بملاحظة ذلك المعني ذامزايا من الفصاحة و البلاغة وفي عداد المختار من المقالات . وهذا باب نجد منه حتّي في كلام الله تبارك و تعالي ، وهو كلام صدق وليس كذباً، فقد يكون الإنسان او الحيوان او النبات او الجماد علي حالة بإمكاننا بعد الاطلاع علي حاله هذا ان ننتقل و نصل إلي اُمور اُخري ، بحيث لو كان صاحب تلك الصفة او الحالة ذا لسان ناطق وكان حياً حاضراً و يريد ان يخبرنا عن حاله لكان يخبرنا بما ينقله لنا الان هذا الناقل عن لسانه و يقول : قال فلان كذا، فهذا كلام صادق غير كاذب ، إذ غرض قائله ، ان فلاناً علي صفة كذا، فهذا كلام صادق غير كاذب ، إذ غرض قائله ، ان فلاناً علي صفة كذا، وهذا هو الذي يقال له ، لسان الحال و منه ما يقولونه و في كل شي ء له اية تشهد له علي وجوده وقدرته وعلمه و حكمته و رزقه .

و بهذا اوّل السيّد المرتضي وجمع من المتكلمين غير القائلين بالشعور للحيوانات ، اوّلوا الايات والاخبار الدالة بظاهرها علي وجود الشعور فيهم ، ففي رسالة في (المسائل الطرابلسيات ) في بيان قصة النملة مع سليمان (ع) التي نقلها الله في قرانه المجيد، بعد ان تبيّن ان النملة الاُولي إذ رات سليمان وجنوده خافت وزمزمت بما كان شارة خوفها و إخطارها لسائر النمل ، قال : (وتلك الحكاية البليغة الطويلة لا تجب ان تكون النملة قائلة لها ولا ذاهبة إليها، و إنّما لما خافت من الضرر الذي اشرف النمل عليه جاز ان يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة المرتبة ، لانها لوكانت قائلة ناطفة و مخوفة ، بلسان و بيان ، لما قالت إلاّ مثل ذلك ».

ثم قال المحدّث النوري : لا زال العلماء الاخيار يسطّرون هكذا كلمات في النظم و النثر، بل يزينون بها مقالاتهم و كلماتهم ، و يتوصلون بها إلي منصّة القبول ، و بما انه كثير في النظم فهم يتجاوزون ذكر القرينة علي ذلك من صدر كلامهم بان يقولوا: بان مرادهم بقول من ينسبون إليه إنّما هو القول بلسان الحال لا الواقع ، خلافاً للمنثور من الكلام إذ لابد فيه من التنبيه علي ذلك ، كما هو مقتضي التقوي ، لكيلا يؤخذ كلامه بظاهره فينتسب الكذب إلي المعصومين (ع) او غيرهم .

ثم روي كمثال علي ذلك ما نقله الشريف الرضي في (نهج البلاغة ) ان اميرالمؤمنين (ع) بعد ان قرا (سورة التكاثر) قال في بيان حال الاموات :

«ولئن عميت آثارهم وانقطعت اخبارهم ، لقد رجعت فيهم ابصار العبر، و سمعت عنهم اذان العقول ، و تكلموا من غير جهات النطق ، فقالوا: كلحت الوجوه النواظر و خوت الاجساد النواعم و لبسنا هدام البلي و تكادنا ضيق المضجع ، و توارثنا الوحشة و تهكمت علينا الربوع الصموت ، فانمحت محاسن اجسادنا، و تنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا، فلم نجد من كرب فرجاً، ولا من ضيق مخرجاً».

ثم يدخل المؤلف في المقام الخامس : في بيان المراد من الصدق في مقام نقل الاخبار والقصص والسيرة الذي يجب ان يعلم به الخطيب و يرعاه في مقام العمل فيعرف بذلك ما عليه من التكاليف في كيفية نقل الاخبار و القص ، فيقول في توضيح المراد:

إن ّ الناقل إذا نقل الخبر والقصة بالواسطة وهو عن غره حتّي يصل إلي اصل الخبر و القصة ، لم يكن غالباً ما ينقله النقّال قطعياً لديه ، فضلاًعمّن يسمع منه ، بل يحتمل فيه الصدق و الكذب كليهما. نعم قد يظن الناقل والسامع في بعض القصص والاخبار بطرف من الطرفين ، الصدق و الكذب ، ولكن لا عبرة بهذا الظن ّ، إلاّ ما كان منه من طريق خاص ، او بالغاً إلي درجة معينة ، قد ذكر ذلك كلّه في محلّه من علم الاُصول . وبما ان كثيراً من اُمور معاش بني ادم بل كثير من اُمور معادهم يصلهم بطريق النقل ورواية الرواة ، فقد قُرّر لذلك الشرع الحنيف موازين معينة ، كيي يتبعها المتشرّعون و لا يتجاوزونها، فإذا تجاوزنها احدهم عدّ في الشرع كاذباً.

فالكذب هنا هو ما يخالف الحق و رضا الله و قانون الشرع ، في قبال المعني العربي اللغوي له وهو ما يخالف الواقع الخارجي . بل قد يكون مايقوله صدقاً و إنّما يقول او ينقل الناقل ما راه بعينه ، ولكنه قد تقرّر في الشرع شروط لو لم تتحقق لم يجز نقله ، فإذا نقله كان كاذباً، مع ان ما يقوله صدق في الواقع ، كما يكون ذلك في توجيه نسبة الزنا إلي الزوجة التي راها عليه ، فإنّه لا يجوز له نقله إلاّ باربعة شهود قد شهدوا ما شهد هووراي ، فإن فعل جري عليه حد القذف (إلاّمع اللعان ) و قد قال تعالي :(وَ الَّذِين َ يَرْمُون َ الْمُـحَصَنَات ِ ثُم َّ لَم ْ يَأْتُوا بِاَرْبَعَة ِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ْ ثَمَانِين َ جَلْدَة ً وَ لاَتَقْبَلُوا لَهُم ْ شَهَادَة ً أَبَداً وَاُولئِك َ هُم ُ الْفَاسِقُون َ).

اما الحكم العام : فتكليف الناقل ان ينقل ما ينقل عن ثقة يطمئن إلي ما ينقله له ، ولا يكون كذلك حتّي يكون ذلك متحرزاً عن قول الكذب ،بل يكون بناؤه علي قول الصدق ، بل يكون ذلك قد اصبح عادة و ملكة له معروفاً بذلك عند مَن يعرفه و يعاشره ولا يكون كثير النسيان و السهو،بصيراً بما ينقله و لو إجمالاً، فإذا كان كذلك اطمان ّ السامع إلي نقله .

هذا هو الحكم السائد لدي جميع العقلاء في جميع العصور و القرون ، انهم إنّما ينقلون الاخبار عن هؤلاء الثقاة ، و بدون النظر إلي مذهب الراوي هل هو علي حق ّ او علي باطل ، و لا فرق في هذا المقام في نقله و روايته بلسانه او كتابه .

اما إذا كان الناقل ينقل الخبر عن غير الثقة ، فهو ايضاً في حكم الكاذب في الشرع ! ويدل علي هذه الدعوي كلام الإمام اميرالمؤمنين (ع) في وصاياه إلي ابنه الحسن او الحسين (ع) التي نقلها الشريف الرضي في (نهج البلاغة ) و السيّد ابن طاووس في كتابه (كشف المحجة لثمرة المهجة ) عن (رسائل الشيخ الكليني ) بسنده عن الإمام الباقر (ع) و قد جاء فيها قوله (ع): «و لا تحدّث إلاّ عن ثقة فتكون كذّاباً».

و قريب من هذا ما رواه ايضاً في (نهج البلاغة ) عن الإمام اميرالمؤمنين (ع) انه كتب إلي الحارث بن الاعور الهمداني يقول له : «و لا تحدّث الناس بكل ما سمعت وكفي بذلك كذّاباً».

وحاصل جميع هذه الاخبار المعتبرة هو: ان المكلف في مقام نقله لخبر ديني او دنيوي لإفادة امر واقعي إلي غيره ، فحينما ينقل ذلك عن واسطة او وسائط او كتاب ، يجب عليه ان ينقل ذلك عن ثقة يطمئن إلي نقله فإن ظهر بعد امتثاله لهذا الامر خطا و لم يكن الواقع كما سمعه او راه في كتاب و ترتب علي ذلك مفسدة فلا يكون ذلك سبباً لمؤاخذته في الاخرة و لا موجباً لندم الناقل علي نقله لذلك الخبر عن الثقة ، إذ ه معذور في نقله عند الخالق جل ّ و علا إذ اذِن َ له في النقل عن الثقة ، و كذلك عند الخلق إذ مدار اُمور حياتهم علي النقل عن الثقاة و الاعتماد علي اخبارهم ،فإذا ترتب فساد علي هذا النقل لم يندم علي ذلك .

اما إذا تساهل في مقام النقل فلم يفرّق بين الثقة و غيره ، و نقل كل ّ ماسمعه من اي ِّ ناقل وما راه في اي ّ كتاب ، وظهر انه كذب ٌ بل ترتب عليه مفسدة ، لم يكن معذوراً عند الله و الناس ، بل شمله ما ورد بشان الكذّابين من الذم و اللوم ، وما اعدّ لهم من النكال و النقمة ، و لا يحق له ان يعتذر بعدم علمه بكذبه و انه احتمل صدقه ؛ إذ يقول الله له : لقد حذّرناك ان لا تنقل كل ّ ما سمعته من كل ّ احد، وان لا تروي كل ّ ما رايته ، فيعذّب بعقاب الكذب و يؤاخذ علي المفاسد المترتّبة علي ذلك ، و إن لم يعلم بكذبه حين نقله .

فناقل الحديث حيث لا علم له بصدقه ولم يبلغه من الشرع امر بالعمل بذلك الخبر تصديقاً به ، فاعتماده علي غير الثقة في النقل عمل بجهالة ، والتعليل المذكور في آية النبا: (يَا أَيُّهَا الَّذِين َ امَنُوا إِن جَاءَكُم ْ فَاسِق ٌبِنَبَاءٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُوا عَلَي مَا فَعَلْتُم ْ نَادِمِين ). يثبت لنا ان العمل بجهالة مذموم و ممنوع عقلاً و شرعاً، وان كل ّ ما يترتب عليه من نتائج السوء، فسوف يؤاخذ به العامل بجهالة و سوف يندم علي عمله هذا، بخلاف من ينقل عن الثقة ، فإنّه و إن ْ كان غير مطلع علي صدق ذلك الخبر، لكنّه حيث كان له إذن بل امر من الشارع بالاخذ بنقل الثقاة و تصديقهم والبناء علي واقعية ما اخبروا به ، فكلّما عمل علي امر الشارع هذا فنقل عن الثقة ، لم يكن عاملاً بجهالة ، فإذا فرض ان كان قول الثقة خلافاً للواقع ، و ترتب علي ما نقله ذلك الثقة مفسدة او مفاسد، فبما ان ذلك كان بامر الشارع لم تتبعه تبعات عمله و لا يندم علي ذلك ، و كان معذوراً عند الله والناس .

ومن هنا قال امير المؤمنين (ع) كما في الكافي : «إذا حدّثتم بحديث فاسندوه إلي الذي حدّثكم ، فإن كان حقّاً فلكم ، و إن كان كذباً فعليه ».

ثم يذكر المؤلف عدّة تنبيهات في المقام ، فيقول في التنبيه الاوّل :حيث علمت ان تكليف الناقل في نقله لاُمور الدين والدنيا وللاخرين ،هو ان ينقل ذلك من لسانه او مؤلفاته ، او في هذه العصور منحصر غالباًفي النقل عن الكتب ، و عرفت ان المحذور في النقل عن الثقات و ان نقله لو كان خلاف الواقع لم يكن علي هذا الناقل حرج وملامة ، فيعلم ان الثقة ايضاً كثيراً ما ينقل خبراً، ولكن الثقاة الاخرين ينقلون ما يخالفه ،وقد يكون ما نقله منافياً لبعض القواعد و اُصول المذهب ، و لا ينافي نقل الثقة بل المؤمن العادل لخبر كهذا، لا ينافي وثاقته وعدالته ، فإن لإختلاف الحديث و الاخبار و القصص و الحكايات اسباباً و عوامل كثيرة .

و الذي يهمّنا هنا هو تنبيه الخطيب المؤمن المتّقي البصير علي انه إذا راي رواية في كتاب عالم ، فهو و ان لم يكن عليه محذور في نقله ،لكنه عليه ان يتامّل و يلتفت بل يفحص كيلا يكون ذلك مخالفاً لما ذكره سائر العلماء و يظهر منه ان ّ الخبر الاوّل خلاف الواقع ، بحيث لا يبقي بدّمن تاويله من ظاهره ، وعليه قبل ذلك ان يذكر المصدر مستنداً عليه ، و لايخبر بالخبر بصورة قطعية بان يقول : كان الإمام او قال او عمل الإمام كذا،ثم عليه ان يشير إلي الخلاف في المسالة و مخالفة الاخرين من العلماء، اوالمحدثين لهذا الراوي ، كيلا يغرّر بالمستعمين ، ولا سيّما فيما إذا كان الناقل من كبار العلماء.

ثم يذكر المؤلف لتوضيح الموضوع مثالين فيقول :

الاوّل : ما قاله العالم الجليل عديم المثيل الشيخ المفيد (ره) في كتابه (الإرشاد) في سياق ذكره لمعاجز الإمام امير المؤمنين (ع)، قال :

«و من آيات الله الخارقة للعادة في اميرالمؤمنين (ع): انّه لم يعهد لاحد من مبارزة الاقران ومنازلة الابطال مثلما عرف له (ع) من كثره ذلك علي مرّ الزمان ، ثم إنّه لم يوجد في ممارسي الحروب إلاّ من عرفته بشرونيل منه بجراح او شين ، إلاّ اميرالمؤمنين (ع) فإنه لم ينله مع طول مدة زمان حروبه جراح من عدوّه ولا شين ، ولا وصل إليه احد منهم بسوء،حتّي كان من امره مع ابن ملجم علي اغتياله ما كان .

هذه اُعجوبة افرده الله تعالي بالاية فيها، وخصّه بالعلم الباهر في معناها، فدل ّ بذلك علي مكانه منه و تخصّصه بكرامته التي بان بفضلها من كافه الانام .

ثم ّ قال الشيخ النوري (ره): و ليس بالإمكان الإذعان بكلام هذا الشيخ العظيم و تركه علي ظهره إذ هو ينافي اخباراً كثيره روي بعضها هذا الشيخ العظيم نفسه . ثم سرد خمسة عشر خبراً معتبراً مخالفاً لما افاده .

ثم انتقل إلي المثال الثاني : فذكر خبر السيّد ابن طاووس في اواخر كتابه (الملهوف في قتلي الطفوف ) في اربعين الإمام الحسين (ع)، ثم ذكر ما ينافي فذكر اُموراً سبعة يستبعد معها التصديق بخبر الاربعين الاوّل ،والذي تكفّل بردّه مشروحاً مفصّلاً الشهيد السيّد القاضي الطباطبائي في كتابه (تحقيق الاربعين ) (بالفارسية ).

و في التنبيه الثاني ، يقول الشيخ النوري (ره): إن ّ غاية ما يحصل السامع من خبر الثقة ونقله ، بل نقل المؤمن العادل ، إنّما هو الظن ّ او الاطمئنان بصدق الخبر إذ ان الناقل العادل او الموثق لا يكذب عمداً، و يستبعد احتمال النسيان و الخطا في الاُمور المحسوسة التي يخبر عنها فلا عبرة به .هذه إذا لم تكن بعده إلينا واسطة و كانت السلسلة طويلة و النقل من كتاب عن كتاب ، وهو بدوره عن كتاب اخر، وهكذا فيكثر اسباب سلب الطمانينة إليه في اخباره ، و ذلك لكثرة وجود الخطا و النسيان و السقط في النسخ ، و كثرة التحريف و التصحيف من الكتّاب و النسّاخ ، و عدم العلم بان ّ هذا الكتاب هو من مؤلفات من ينسب إليه ، و ظهور عدم وثاقة صاحب الكتاب السابق الذي اطمان ّ إليه الناقل الثقة لعدم خبرته و بصيرته و غيرذلك من العلل و العوامل . و لهذا فإن الناقل المتدين المستقيم الطريقة ، لاينبغي له ان يقطع بمجرد وقوفه علي خبر في كتاب منسوب إلي احد العلماء، فلربّما كان قد كتبه في اوائل عمره و هو بعد لم يبلغ مقام التمييز للخبر السليم عن السقيم و الراوي الثقة عن غيره ، ولهذا توجد في كتابه اخبار موهونة مخالفة لرواية الثقات ، بل اخبار كاذبة باليقين ، مثل : كتاب (محرق القلوب ) للعامل الجليل المولي محمّد مهدي النراقي من اعيان علماء الدهر واحد الخمسة من المهديين في عصره ، مع ذلك يوجد في كتابه هذا مطالب منكرة يعجب الناظر البصير فيها، كيف كتب ذلك العالم هكذا اخبار في كتابه كارسال المسلّمات ، من دون ان ينسب ذلك الي عالم معيّن او كتاب ...

فمن ذلك : ان يوم عاشوراء ظهر في الميدان رجل جاول و طارد، ثم وقف وعرّف نفسه انه هو هاشم بن عتبة بن ابي وقاص ابن عم ّ عمر بن سعد! ثم بارز و قاتل بين يدي الحسين (ع) حتّي قتل ! هذا وقد قتل هاشم المرقال في صفين مع اميرالمؤمنين (ع) في يوم مقتل عمار بن ياسر، و قد ورد هذا قبله في كتاب (روضة الشهداء) للكاشفي .

و قد يكون مؤلف الكتاب من كثرة اخلاصه واشتياقه لنشر مناقب و مصائب اهل البيت (ع)، مع ما له من قوّة تبيين السليم عن السقيم ، لايلتفت إلي ذلك ولا يفرّق بينهما، إذ يجعل همه تعظيم تلك المصائب فيستقبل كل ّ سبب لذلك ، بل يصل به الامر إلي ان يقوّي بزعمه الاخبار الواهية و القصص الكاذبة باعتبارات ضعيفة ونكات سخيفة و استحسانات باردة .

اتذكّر انه في ايام مجاورتي لمرقد الإمام الحسين (ع) بكربلاء المقدسة و استفادتي من علاّمة عصره الشيخ عبدالحسين الطهراني (طاب ثراه ) جاءه سيّد قاري من اهالي مدينة الحلّة حاملاً معه إليه عدة اجزاء عتيقة من ميراث والده وكان قارئاً معروفاً، يقصد استعلام اعتباراو عدم اعتبار تلك المجاميع المخطوطة ، ولم يكن لها اوّل ولا اخر وكان مكتوباً في حاشية اوائلها: هذا من تاليف فلان من تلامذة المحقّق صاحب المعالم ، ولم يكن في مؤلفاته مقتل الحسين (ع)، و لما قرا الشيخ بعض الاجزاء علم انها ليست من مؤلفاته و لا يحتمل ان تكون من مؤلفات عالم ، و ذلك لكثرة اشتمالها علي الاكاذيب الواضحة و الاخبار الواهية ، فنهي الشيخ ذلك السيّد عن نقل ما فيها ونشره .

ثم اتفق ان اطلع عليها احد معارف الفضلاء فاخذها من ذلك السيّد القاري ، و كان مشتغلاً بتاليف كتابه (اسرار الشهادة ) فروي مرويات تلك الاجزاء في كتابه بتصرف فيها فاضاف بها علي عدد الاخبار الواهية الموضوعة فيه ، و فتح بذلك ابواب الطعن و الاستهزاء للمخالفين .

ثم يستنتج المحدّث النوري (ره) من ذكر هذه الامثلة قائلاً: فإذا كان الخطيب القاري بانياً علي العمل الصحيح وقاصداً ان يحشر نفسه في سلك خواص خدّامهم :، ولا يري في نفسه قوّة تمييز الكتاب المعتمدعن الكتاب غير المعتمد، و لو كان الاوّل من غير عالم والثاني من عالم فليسال ذلك من اساتذة اهل الفن ، و لا يتعدّي مقالهم .

جاء رجل من مدينة (كرمانشاه ) إلي العالم الكامل الفريد الشيخ محمّد علي صاحب المقامع (ره) فعرض عليه : انّه راي في الرؤيا انّه يقطع باسنانه من لحم جسم الإمام الحسين (ع) فاطرق الشيخ يفكّر ولم يكن يعرفه ، ثم رفع راسه يساله لعلّه يقرا علي الحسين (ع)؟ قال : نعم ، فقال الشيخ : لا ينقل شيئاً من غير الكتب المعتبرة وإلاّ فاترك القراءة عليه مطلقاً.

و في التنبيه الثالث يقص الشيخ عن علماء اليهود قصة (المسنا) في شرح التوراة الذي الفه يهودا ابن شمعون بعد عهد عيسي (ع) في مدة اربعين سنة ، ثم تاليف التفسير الاوّل له القرن الثالث في مدينة اورشليم يعرف فيهم باسم بجمرا اُورشليم ، والتفسير الثاني في القرن السادس في مدينة بابل العراق يعرف فيهم باسم كمرا بال ، او تلمود اورشليم و تلمود بابل ثم يشبه بذلك ما يتداوله القرّاء نقلاً عمّا سمعوه من القرّاء قبلهم اوما راوه في مجاميع مخطوطة ، او عن محفوظات الصدور، فإن هذا يشبه المسنا المكتوب بعد عدة قرون من عهد موسي بل و بعد عيسي (ع) نقلاً عن محفوظات صدور شيوخ اليهود بادّعاء انها من الوحي لموسي غير المكتوب علاوة علي ما في التوراة .

و للمثال يذكر قطعاً منها:

اوّلاً: ما ينقلونه عن حبيب بن عمرو: انه اتي اميرالمؤمنين (ع) بعد الضربة علي راسه الشريف ، وحوله رؤساء القبائل و شرطه الخميس و الاشراف ، وما منهم احد إلاّ ودمع عينيه يترقرق علي سوادها حزناً علي اميرالمؤمنين (ع)، فنظرت إلي ابناء علي (ع) و قد اطرقوا برؤوسهم و ما تنفس منهم متنفس إلاّ و ظننت ان شظايا قلبه تخرج من انفاسه .

ثم جمعوا له الاطباء فاخرج اثير بن عمرو رية الخروف و ادخله (هكذا) في الجرح ثم اخرجه قراه ملطّخاً بمخ راسه فساله الحاضرون فخرس اثير و تلجلج لسانه ففهم الناس وايسوا من امير المؤمنين (ع)،فاطرقوا برؤوسهم يبكون صامتين مخافة ان يسمع النساء ذلك ، إلاّ اصبغ بن نباتة فإنه لم يطق ولم يتمالك نفسه دون ان شرق بعبرته ففتح امير المؤمنين عينه .. إلي ان يقول : فقال حبيب : فقلت : يا ابا الحسن ! الصل يقوي إذا ارتعش ، والليث يضري إذا خدش ! فاجابه اميرالمؤمنين بجواب ٍ سمعته اُم كلثوم فبكت ، فطلبها ابوها فجاءت إليه حتّي دخلت عليه فقالت له : انت شمس الطالبيين وقمر الهاشميين دسّاس كثبها المترصد، وارقم اجمتها المتفقد، عزّنا إذا شاهت الوجوه ذلاً، وجمعها إذا الركب الكثيرقلا.. إلي اخر الخبر.. و قد نقل الخبر ابو الفرج في (مقاتل الطالبيين ) و ليست فيه هذه التفاصيل وجاء من اُصولنا في (اصل عاصم بن حميد)كذلك من دون هذه التفاصيل .

ثانياً: ما نقله الدربندي في كتابه نقلاً عن مجموعة منسوبة لبعض القرّاء، عن عبدالله بن سنان ، عن ابيه عن جدّه ، انه كان رسول اهل الكوفة بكتابهم إلي الإمام الحسين (ع) ثم يروي تفاصيل خروجه (ع) و عياله ثم تفاصيل حمل عياله من كربلاء اُساري فيبكي لهم ! ثم يقول : و هذا مخالف لما رواه المفيد في (الإرشاد) في كيفية خروج الإمام (ع) و مخالف لزيّه بل ان تلك التفاصيل من زي ّ الجبابرة ! والملوك لا ائمة اهل البيت (ع).

ثالثاً: ما رواه الدربندي ايضاً من جمع حبيب اصحابه وجمع ابي الفضل بني هاشم و خطابهما في اصحابهما يتواطاون علي السبق إلي القتال وان زينب (س) سمعت ذلك واخبرت اخاها إلي اخره .

رابعاً: ما يروونه ان الإمام الحسين (ع) اتي إلي ابنه الإمام السجاد (ع) بعد مقتل انصاره وبني هاشم فساله عنهم فاخبره بهم . و هو صريح في عدم علمه حتّي ساله و هو باطل .

خامساً: خبر طلبه (ع) فرسه للركوب و مجي ء زينب به له وحديثها له بوصية اُمّها الزهراء (س). وقد جاء في المقاتل المعتمدة : انّه (ع) في صباح يوم عاشوراء طلب فرس رسول الله المرتجز فركبه بعد خطبته علي ظهر بعير، فلماذا يطلب بعده فرساً غيره ؟ وقد امر عمر بن سعد بطلبه قائلاً لهم :اطلبوه فإنّه من جياد خيل رسول الله (ص).

سادساً: ما يذكرون من ان زينب (س) راته يجود بنفسه فرمت بنفسها عليه و هي تقول : انت اخي ، انت رجاؤنا، انت كهفنا، انت حمانا؛ فرمقها بطرفه وقال لها: اُخيّه ارجعي إلي الخيمة فقد كسرت قلبي وزدت كربي .(و يعلم منه انه لم يعدّ هذا ممّا يجوز من لسان الحال ) و لعلّه لما فيه من مجيئها إليه وهو يجود بنفسه و وقوعها عليه وامره لها بالرجوع إلي الخيمة ، و هذا ليس من لسان الحال ، بل هو إخبار عنهما بفعل لم يفعلاه و لم يكن من المناسب ان يقولاه .

سابعاً: ما يروونه عن ابي حمزة الثمالي انّه اتي دار الإمام السجاد (ع)،و طرق الباب فخرجت إليه جارية فلمّا علمت انه ابوحمزة حمدت الله لوصوله لعلّه يسلّي علي بن الحسين (ع)، إذ انه اُغمي عليه اليوم مرّتين ،فدخل و صبّره بقوله : سيّدي ان القتل لكم عادة و كرامتكم من الله الشهادة و لقد قتل جدّك و عمّك و ابوك ! فصدّقه الإمام وقال : لكن لم يكن فينا الاسر، ثم نقل له تفاصيل من كيفية سبيهم و اسرهم ولا اصل له .

ثامناً: ما يرسلونه عن هشام بن الحكم انه لما كان الإمام الصادق (ع) ببغداد كان علي ّ ان احضر كل ّ يوم لديه وإلاّ كان يسالني عن غيابي عنه ،فدعاني يوماً بعض الشيعة إلي مجلس عزاء جدّه الحسين (ع) فاعتذرت بضرورة الحضور لدي الإمام إلي ان يقول : فحضرت المجلس و لم اذهب إلي الإمام إلاّ غداً، فسالني واصرّ و كرّر فاخبرته فقال : اتزعم اني ما حضرت عندكم ؟ قلت : لم اشاهدكم هناك ، فقال : حينما خرجت من الحجرة الم تر شيئاً او ثوباً عند الاحذية ؟ قلت : نعم ثوباً مطروحاً هناك ،قال : انا كنت ذلك الثوب ، الخ .

و في التنبيه الرابع تعرض المحدث النوري (ره) إلي بعض ما يجرّي هؤلاء علي هذه المسامحة ، ومنه اخبار التسامح التي تؤدي ما معناه : من بلغه شي ء من الثواب فعمل به كان له اجره ، ولهذا فقد جرت سيرة العلماء في مؤلفاتهم علي نقل الاخبار الضعيفة وتاليف الروايات غير الصحيحة في ابواب الفضائل و القصص و المصائب ، والمسامحة في هكذا اُمور و لاسيما المصائب ، فمهما كان الخبر فيها ضعيفاً، لكن ّ بمقتضي تلك الاخبار المعتبرة وسيرة العلماء المعلومة يجوز التسامح في نقلها ولا حرج فيها علي القاري و السامع بل يبلغ به الثواب المذخور له .

ثم يقول : و هذا الكلام إن تم ّ فإنّما يتم في موارد سيرة العلماء لا علي وجه الكُليّة ، حتّي يشفع لحال هؤلاء القرّاء الذين نحن بذكرهم ، فلا يصح لهم ان يتمسكوا به ، إذ ان هذا الكلام بهذا البيان مبني ّ علي مغالطة سنكشف عنها القناع فلا تعالج داء هؤلاء ولا تصلح ما افسدوه ،و لتوضيح ذلك يقول :

لما بعد عهد العلماء العظام عن عصر الائمة الكرام و الرواة المحدثين القريبين منهم :، وتلاشت الإشارات التي كان يتميّز بهاالحديث السليم ، عن السقيم و الراوي الصادق عن الكاذب ، اضطرّوا ان يضعوا ممّا بقي من تلك المقاييس ميزاناً بقدر الميسور فنوّعوا الاحاديث به إلي انواع .

الاوّل : الصحيح ، وهو الخبر الذي يكون كل ّ رواته عدول الإمامية الاثني عشرية .

الثاني : الحسن ، وهو الخبر الذي يكون كل ّ او بعض رواته شيعة ممدوحين غير مصرّح بعدالتهم .

الثالث : الموثق ، وهو الخبر الذي يكون كل ّ او بعض رواته عدولاً غير إماميين من اهل الخلاف والزيديّة و الكيسانية و الواقفية و الفطحية و الناووسية .

الرابع : الضعيف ، وهو الخبر الذي يكون كل ّ او بعض رواته من الفسقة او مجهولي الحال او غير مذكورين في كتب التراجم و الرجال ، او يكون الخبر مرسلاً بلا سند او ناقصاً من اوّله او وسطه او اخره .

فبعض العلماء اقتصر في الدليل لإثبات الواجب و الحرام في احكام الإسلام علي الصحيح فحسب ، و اضاف بعضهم إليه الحسن ، و بعضهم اضالف إليهما الموثق ، و بعضهم اضاف إليها القسم الرابع شريطة ، ان يكون العلماء قد عملوا به فيقوي ضعفه بعملهم و يجبر كسره بموافقتهم له .

و اما في غير الواجب والحرام : فمشهور العلماء علي العمل بالصنف الضعيف ، حتّي لو لم يكن له جابر من عمل العلماء الاقدمين ، فهم يسيرون علي هذا في المستحبات والمكروهات ، وكذلك في ابواب الفضائل و المصائب و القصص .

ولكنّا إذا تاملنا في سيرتهم ونظرنا في موارد عملهم علمنا ان مانُسب إليهم منه صحيح قد صرّحوا هم به ، ولكنه ليس علي إطلاقه و عمومه المتوهم من كلامهم في بادي النظر: بان ينقلوا ويعملوا باخباراي كتاب يصلهم ، سواء عرفوا صاحبه او لا، وكان مؤلفه ممّن يكتب من الضعفاء او لا، وراوا فيه الكذب الواضح او لا، فحاشاهم ان يكون لهذا عندهم هكذا إطلاق او عموم قولاً او عملاً.

بل إن ّ بناءهم و سيرتهم إنّما هو علي القانون العملي الذي وصلنا من الشارع المقدس وهو: انّه لا يجوز النقل إلاّ عن ثقة ، سواء كان نقلاً قولياًاو كتابياً، و المراد من الثقة هو المتحرّز عن الكذب ، بل الحائز علي ملكة الصدق ، ولا يكون مخلطاً كثير النسيان و السهو غير ضابط لما يرويه . فإذاسمعوا او راوا حديثاً في كتاب فان كان كل ّ رواته متصفين بالاوصاف المذكورة كان حجّة شرعية و دليلاً فقهياً يعملون به في جميع الموارد. اما إن كان كل ّ رواته او بعضهم مجهولين او مهملين او غير متّصفين بتلك الاوصاف فكل ّ هذا من الضعف ، و هذا هو مورد إذنهم في العمل به ابواب الفضائل والمصائب .

فعُلم : إن ّ العلماء لم يكونوا ينقلون خبراً إلاّ عمّن اطمانوا إلي صدقه ، ولم ياخذوا خبراً إلاّ من كتاب هكذا رجل ، و هذا هو الضعيف الذي يقال إنّهم يتسامحون فيه في المستحبّات والمكروهات .

والحاصل : ان العلماء لم يكونوا ياخذون او ينقلون او يستكتبون خبراً من كتاب او راوٍ إلاّ بعد ان يطمئنوا الي وثاقته ، و ان لا يكون الخبرمن جهته مردوداً، و من هنا لم يكن العلماء الصالحون العدول لينقلوا خبراًمن كتاب لا يعرفون صاحبه ، و كذلك لا يستخرجون خبراً من كتاب يعرفون مؤلفه بعدم المبالاة بالتفريق بين الخبر الموهون و غيره .

وبالجملة : فهناك فرق ظاهر بين الاخبار الموهونة و بين الضعيفة منها، فرب ّ خبر ضعيف لا يكون موهوناً، بل هو في غاية الاعتبار بلحاظ بعض قرائن الصدق و الصحة ، كاكثر مرسلات (الكافي ) وكثير من مرسلات اخبار (كتاب من لا يحضره الفقيه ) للصدوق (و النهاية ) للشيخ الطوسي (ره) والتي هي في عداد الاخبار الضعيفة وكذلك اخبار كتب كثيرمن المشايخ المعتمدين كابن شهرآشوب و القطب الراوندي و ابن طاووس و اضرابهم ، التي هي من قسم الضعاف ايضاً و لكنها ليست من الموهون ، والنقل عنها جائز ياذن فيه الفقهاء ولا كلام في ذلك .

وإنّما الكلام في الاخبار الموهونة والكتب غير المعتمدة التي لم يعتمد عليها العلماء السابقون ، حتي مثل العلاّمة المجلسي (ره) ككتاب (روضة الشهداء) للكاشفي (و المنتخب ) للشيخ الطريحي المشتملين علي الاخبار الموهونة كقتل عبدالعظيم الحسني ، وعرس القاسم ، وقصة زعفرالجني ، و قصة زبيدة ، و شهربانويه ، و القاسم المثني بن القاسم بالري مع اتفاق المؤرخين علي انه غلام لم يبلغ الحلم وانه لم يعقب .و يزيد في وهن الخبر خلافه للاخبار المعتبرة او العادة المعقولة .

ومن ذلك خبر حضور ابي الفضل (ع) في وقعة صفين مع انه لم يكن حاضراً فيها ابداً إلاّ ما رواه الخوارزمي من قصة الدرع ، واعجب من ذلك ما ينقلونه من استسقاء الحسين (ع) في مسجد الكوفة واميرالمؤمنين (ع)يخطب فجاء إليه ابوالفضل بالماء مع ان ّ الحسين (ع) إذ ذاك كان عمره اكثرمن ثلاثين عاماً. ومن ذلك قصة فاطمة بنت الحسين بالمدينة حيث بقيت هناك لمرضها.

ثم يقول المؤلف : ونحن نختم هذا الفصل بذكر فروع :

الفرع الاوّل : روي الشيخ ابوعلي ابن الشيخ الطوسي في اماليه مرسلاً عن رسول الله (ص) انه قال ، ما معناه : (من روي عني حديثاً وهو يعلم انه حديث كذب فهو احد الكذّابين ).

و روي المجلسي هذا في بحاره ، ثم علّق عليه يقول : يدل هذا الخبر علي عدم جواز نقل خبر يعلم بكذبه ، وإن كان يسنده الي راويه .

و قال الشيخ الانصاري في رسالة في قاعدة التسامح في الفرع : ولايبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة .

و كذلك قال الشيخ النوري : الظاهر ان حكم هذا هي الحرمة ، إذ لا فرق في حكم العقل بقبح الكذب بين ذلك وبين الكذب الذي يفتريه هو و يختلقه .

اما لو كان يبيّن كذبه ، او كان معلوماً للسامعين ، فظاهر الشيخ الانصاري في رسالة في قاعدة التسامح جوازه ، و إن كان مذموماً بل فيه شبهة حرمة كما قال به الشيخ المجلسي في كتابه (عين الحياة في النصائح و الموعظات ) في شرح وصايا النبي لابي ذر و مال إليه الشيخ النوري .

الفرع الثاني : عندما تجب إقامة او قراءة تعزية الإمام الحسين (ع)، فعلي المكلف (صاحب المجلس ) ان يلتفت الي تكليفه ، بكون العمل له موافقاً لقانون الشرع الشريف ، فلا يدعو قارئاً معروفاً بالكذب عند اهل الدين والخبرة ليقرا اخباراً كاذبة فيبدل الطاعة بالمعصية والثواب بالعقاب . وقديكون بعض القراءات من المصاديق المتشابهة ، فعلي المتدين ان يعمل بالاحتياط ، ولا سيما إذا كان ذلك نذراً او وقفاً او وصية .


پاورقي




محمد هادي يوسفي الغروي