بازگشت

يوم الفرقان 3


ومادمنا قد اشرنا إلي يومين من أيام الفرقان في التأريخ الإسلامي هما: «يوم بدر» و «يوم عاشوراء»؛ فلا نستطيع ان نتجاوز هذا الحديث دون ان نشير إلي اليوم الثالث من أيام الفرقان في التأريخ الاسلامي ،والذي يأتي امتداداً ليوم بدر و يوم عاشوراء.

و هو يوم انتصار الثورة الإسلامية المعاصرة من سنة 1399 ه والذي هو من ايام الله الكبري في التأريخ ، والذي سقط فيه نظام بهلوي ،و انتصرت فيه الثورة الإسلامية المعاصرة الكبري بقيادة الإمام الخميني ؛.

إن هذا اليوم لا يعني فقط سقوط نظام اُسرة بهلوي في تأريخ إيران ،و أنّما يعني إنتهاء مرحلة من تأريخ الإسلام ، وبداية مرحلة جديدة من التأريخ .

فإن ّ القيمة التأريخية لسقوط اُسرة بهلوي و قيام الجمهورية الإسلامية تكمن في كونها:

اوّلاً - نهاية لعصر من الخمول و الركود و الإستضعاف و اليأس والارتماء في احضان الغرب والشرق ، والتخلّف الفكري و السياسي و العسكري و الاقتصادي ، و الرضوخ لسيادة الاستكبار العالمي ، والهزيمة النفسية أمام موجة الحضارة الغربية .

ثانياً - بداية عصر جديد من التحرك باتجاه الإسلام و حاكمية دين الله علي وجه الارض ، و فك ّ القيود و الاغلال من الايدي و الاقدام ، و كسر الطوق السياسي و الاقتصادي و العسكري و العلمي و الحضاري الذي فرضه علينا الاستكبار الغربي و الشرقي ، و العودة إلي الله وإلي الإسلام ،وتعبيد الإنسان لله وتحكيم شريعة الله في حياة الإنسان ، و إعادة الاعراف و القيم والاخلاق والحدود الإسلامية إلي صلب الحياة من جديد.و بالإجمال فإنّه بداية لمرحلة جديدة للتأريخ .

فيوم 22 بهمن - إذن - هو امتداد حقيقي ليوم عاشوراء، كما كان يوم عاشوراء امتداداً واقعياً ليوم بدر.

وإن ّ هذا اليوم يوم مصيري في تأريخ الإسلام و للاجيال المقبلة ، كماكان يوم عاشوراء يوماً مصيرياً في تأريخ الإسلام .

ونُلخّص فيما يلي أبرز النقاط والعناصر التي تشكّل القيمة الحضارية للإنقلاب الإسلامي الشامل والكبير الذي تحقق في هذا اليوم ، و للثورة الإسلامية الكبري التي انتصرت في هذا اليوم علي الاستكبار العالمي :

1 ـ هذه الثورة ثورة مبدئية بكل معني الكلمة ، وهي نوع جديد من العمل و الحركة الثورية في تأريخنا المعاصر، وفي الاجواء السياسيّة المعاصرة التي لم نألف هذا النوع من العمل والحركة ، فهي ثورة التوحيدعلي الشرك ، بالمعني الذي فسّرناه في هذا الحديث و هو:

توحيد الولاء والشرك في الولاء؛ فهي تتجه بفك ارتباط الإنسان المسلم عن الطاغوت المتمثّل في الاستكبار الشرقي و الغربي وعملائهما في المنطقة . هذا الارتباط الذي يتمثّل في الطاعة والانقياد والاستسلام و الركون إلي الظالمين والحب ّ والنصرة . وفك ارتباطه بمحاور الولاء المصطنعة (القوميّة - الوطنيّة - العشائريّة الحزبيّة ...) وربط ولائه بالله تعالي و رسوله و اوليائه ، و توحيد الولاء لله تعالي ، و مقاطعة و محاربة كل ّالمحاور الاُخري التي تعمل لإنتزاع الولاء من الناس . تلك طبيعة الثورة و محتواها.

و من هنا فإنّها كانت ثورة العبوديّة لله علي عبودية الطاغوت .

وإن ّ من المهم ان نفهم نحن مسار الثورة الإسلامية المعاصرة و محتواها، ومن دون ذلك لا نستطيع ان نساهم في دعم و إسناد هذه الثورة .

إنّها ليست بثورة علي التخلّف العلمي و التقني ، ولا هي بثورة علي التخلّف الاقتصادي والفقر، ولا هي بثورة علي الاستعمار و الاستغلال ،ولا هي بثورة من اجل تحرير آبار النفط من قبضة ملوك النفط ، و لا هي بثورة طبقة علي طبقة اُخري (ثورة طبقية )، ولا هي بثورة المستضعفين علي المستكبرين ، كما حدث في ثورة الزنج في تأريخ الإسلام . و إن كانت تحتوي علي هذه الاُمور جيمعاً، وتحقّق هذه النتائج كلّها.

وإنّما هي في جوهرها شي ء آخر، إذ انّها ثورة الولاء لله علي المحاور المصطنعة للولاء، وانّها ثورة التوحيد علي الشرك ، و ثورة الإسلام علي الجاهليّة .

وهذه الثورة إذا حقّقت غايتها علي وجه الارض فلسوف تقضي علي التخلّف العلمي والثقافي والتقني ، وتقضي علي الفقر والتخلّف الاقتصادي ، و تقضي علي الاستغلال و الاستعمار.

وتقضي علي استثمار آبار النفط من قبل الشركات الاستعمارية .و تقضي علي التلاعب بأموال المسلمين و ثرواتهم ، و تقضي علي الاستضعاف و الاستكبار، وعلي استضعاف طبقة من قبل طبقة اخري و ممارسة السيادة لطبقة علي اُخري .

إن ّ هذه الثورة سوف تحقق كل ّ هذه الغايات ، و تحقّق غايات اُخري ابعد من هذه الاُمور و اسمي منها. ولكن علي ان تحافظ علي جوهرهاومحتواها الحقيقي ، فتبقي ثورة التوحيد علي الشرك ، ولا تندفع إلي الغايات الفرعية التي تتفرع عنها.

إن ّ السمة البارزة و الاُولي لهذه الثورة هي «الربّانيّة »، و هذه السمة هي التي تربطها ببدر وعاشوراء، و بحركة الانبياء: و بمسار الصالحين من اولياء الله. و متي أفُرغت الثورة من هذه السمة ، وتشبعت بالاهداف و الشعارات الجانبية فقدت كل ّ قيمتها و فقدت تأييد الله تعالي لها.

إن ّ هذه الثورة تختلف اختلافاً جوهرياً عن كل ّ الثورات المعاصرة لنا،كالثورة الفرنسية و ثورة اكتوبر والثورات التي قامت في القارة الافريقية وفي آسيا فيما بعد الحرب العالمية الثانية إلي اليوم الحاضر.

حيث إن ّ هذه الثورات - جميعاً - في افضل الفروض - كانت ذات صفة طبقيّة (ثورة طبقة علي طبقة ) او صفة تحررّية (التحرر من نفوذ و سيطرة الاستعمار الاجنبي او التحرر من سيطرة حاكم ظالم ). ولانستطيع ان نستثني ثورة معاصرة إلينا عن هذه المنطلقات . و اما الثورة الإسلامية فهي الثورة الوحيدة التي انطلقت من منطلق آخر يختلف اختلافاً نوعيّاً عنها جميعاً؛ فانطلقت باتجاه تحرير الإنسان من المحاور البشرية للولاء، مهما كان نوع هذا المحور - ان لم يكن مرتبطاً ولاؤه بالله تعالي -، وتعبيد الإنسان لله تعالي وتحكيم شريعته في حياة الإنسان ، و ترسيخ محور الولاية الإلهية بكل إمتداداتها في حياة الإنسان

2 - إن ّ هذه الثورة حصيلة جهود كثيرة وكبيرة من قبل كل ّ العاملين في سبيل الله و المجاهدين و طلائع العمل الإسلامي ، من الذين وعوا محنة تخلّف الاُمّة ، و تحمّلوا المسؤولية ونهضوا بأعباء المسؤولية ، و تقبّلوا كل ّ المتاعب التي واجهتهم علي طريق ذات الشوكة ؛ و هؤلاء العاملين في سبيل الله يشكّلون نسبة واسعة وكبيرة من العاملين في سبيل الله، في اقطارشتّي من اقاليم العالم الإسلامي ، وعلي مستويات مختلفة من الثقافة والعلم و النفوذ، وفي اختصاصات شتّي من عقول العمل الإسلامي ، إن ّ هؤلاء جميعاً و في عصرنا وقبل هذا العصر لهم دور في بناء قواعد هذه الثورة المباركة ، و في إنجاز هذه الحركة الربّانيّة علي وجه الارض ، وفي تحريك هذا السيل البشري الهادر الذي زعزع اركان الطاغوت .

إن ّ الطالب الذي كان يدعو إلي الله و رسوله و تحكيم شريعة الله بين زملائه الطلبة له دور في بناء الثورة ، والعامل له دور في هذه الثورة ،و الخطيب الذي كان يخطب في المساجد و الاجتماعات وينشر هدي الإسلام ووعيه له دور في هذه الثورة ، والعالم والكاتب والشاعر الاديب و المعلّم والنساء والرجال . وكل ّ حملة الرسالة ، والذين وضعوا حجراً في أساس هذه الثورة في مشارق الارض ومغاربها لهم دور وسهم في هذه الثورة المباركة .

إن ّ هذه الثورة الإسلامية العملاقة التي زلزلت الارض تحت اقدام الطغاة و هدّدت كيانهم ومصالحهم والتي قادها الإمام الخميني ؛، وتقدم في طليعتها الشعب الإيراني المسلم الابي الضيم ؛ هذه الثورة الجبارة لم تكن حصيلة فترة زمنيّة محدودة ، وجهد جماعة من العاملين و المجاهدين ، وإنّما حصيلة اجيال من العمل في سبيل الله من قبل كل ّالعاملين في حقول العمل الإسلامي ، كما كانت هذه الثورة حصيلة كل ّ الآلام و الحرمان والاضطهاد والعذاب والعناء الذي لاقاه المسلمون في مرحلة الركود والضعف . و ساهم في هذه الثورة كل ّ مَن اُضطهد في سبيل الله، كل ّ مَن إلتوت السياط علي جسمه في غياهب السجون و كل ّالدموع ، و كل ّ الدماء، وكل ّ الآهات ، و كل ّ الهجرات التي كانت في سبيل الله.

...أجل إن ّ هذه الثورة كانت إنفجاراً هائلاً لكل تلك الآلام و المحن ،ولو كان الامر في هذه الثورة الإسلامية يقتصر علي العامل الثاني (ركام الآلام والعذاب )؛ لكان من الممكن ان تغلب علي هذه الثورة صفة الغوغائية و التخريب و الإنفعال ؛ إلاّ ان ّ وجود العامل الاول (المبدئيّة ) وقوته و فاعليته في تحقيق هذه الثورة المباركة كان عاملاً قوياً في توجيه الثورة و تصحيح مسارها و المحافظة عليها من الانحراف .

لقد كان الفعل الهادف الذي تم خلال هذه المدّة من قبل العاملين في سبيل الله يصب ّ في مصب خط الإسلام النقي الخط الفقهي الذي تجسّد في قيادة الإمام الخميني ، والذي عُرف فيما بعد بخط الإمام . لقد كان هناك بالتأكيد خطوط انحرافية في العمل الإسلامي ، عن يمين ويسار، ولكن هذه الخطوط لم تكن تشكّل تيار الحركة الإسلامية القويّة .

إن ّ التيّار كان يجري في اتجاه الخط الإسلامي الاصيل ، ولقد كان للفقهاء والعلماء والمرجعيّة الإسلاميّة الرشيدة دور هام في توجيه هذاالتيار و تنظيم مساره و المحافظة عليه .

ومهما كان من امر فإن ّ هذه الثورة كانت حصيلة كل ّ هذه الجهود و الآلام ، ولقد ساهم في بنائها كل ّ اُولئك العاملين والمحرومين والمعذّبين في سبيل الله و لهذا السبب بالذات فإن ّ لهؤلاء العاملين والمعذّبين والمحرومين علاقة عضويّة قويّة بهذه الثورة ، سواء عاشوا في إيران أم في العراق أم في جزر اندونيسيا أم في أعماق افريقيا.

فإن ّ هذه الثورة لهؤلاء جميعاً، وعلي هؤلاء جميعاً المحافظة علي هذه الثورة وحمايتها ضدّ مخططات الإستكبار العالمي . فإن ّ هذه الثورة واجهت مخطّطات رهيبة من قبل الاستكبار العالمي الشرقي والغربي ،وسوف تستمر هذه المواجهة وتدوم . ومسؤولية المحافظة علي هذه الثورة لا تقتصر فقط علي الشعب الايراني الذي فجّر الثورة ، وإنّما تعم المسؤولية كل ّ ابناء هذه الثورة و بُناتها والمساهمين فيها؛ فليست هذه الثورة ثورة إقليم كما يحاول اعداء الإسلام ان يبرّزوها، وكما تنطلي احياناً علي بعض السذج من المسلمين ، وليست ثورة إسلاميّة ايرانيّة ، وإنّما هي ثورة إسلامية شاملة وعميقة ساهم فيها كل ّ العاملين و المعذبين من المسلمين ، وشاء الله تعالي ان تكون نقطة انفجارها في ارض إيران ،وان يكون الشعب الذي يفجّرها هو الشعب الإيراني المسلم . فأيّة ُ محاولة لاقلمة هذه الثورة و عزلها عن مشاعر واحاسيس وقلوب المسلمين هي خيانة لهذه الثورة ، ان كانت من قبل اعداء هذه الاُمّة والمتربّصين بهاالسوء، وهي سذاجة وجهل إن كانت من قبل هذه الاُمّة ، ومن وراء هذه السذاجة خيانة . والغاية من هذه الخيانة عزل الثورة الإسلامية عن مشاعر المسلمين . و عن الرأي العام الإسلامي و تطويقها مقدمة للإجهاز عليها.

و علينا نحن المسلمين ان نواجه هذه المؤامرة بوعي و إنتباه ، و بعيداً عن جو الحسّاسيّات ، وفي جو من المسؤولية الشرعية .

إن ّ هذه الثورة ليست ثورة إقليم ، ولا ثورة قوميّة . و إنّما هي ثورة المسلمين جميعاً في مقابل الكفر العالمي والشرك ، وإيران لا تزيد ان تكون نقطة بداية لانفجار هذه الثورة .

وإن ّ كل ّ الثورات التي تحدث فيما بعد في اقطار العالم الإسلامي ،و باتجاه هذا الخط الربّاني ، تُشكّل مراحل مختلفة لثورة واحدة و شاملة ،و هي ليست ثورات اُخري في مقابل هذه الثورة ، ولا امتدادات لهذه الثورة ، و إنّما هي مراحل مختلفة لثورة واحدة شاملة و قد شاء الله تعالي ان تتم ّ المرحلة الاُولي منها في إيران ، وفي احضان هذا الشعب المسلم المضحّي الشجاع .

أرأيت خط ّ الزلزال والهزّات الارضية التي تنطلق من نقطة ، و تمتد علي منطقة واسعة من الارض بفعل التفاعلات الجيولوجية غير المرئية لنافي عمق الارض ؟ كذلك كانت هذه الثورة ؛ لقد تم ّ في عمق هذه الاُمّة تفاعلات واسعة و كبيرة و قويّة بتأثير الفعل (العامل الاول ) والانفعالات (العامل الثاني ) في غياب من رصد الاستكبار العالمي ، وحيث كان الاستكبار العالمي يزهو بانتصاراته الكبيرة علي العالم الإسلامي ، و يعيش في نشوة سلطانه و سيطرته علي العالم الإسلامي ؛ جرت هذه الإنفعالات في أعماق الاُمة الإسلامية و تفاعلت و تفاقمت ، ثم كان الزلزال الذي هزالارض من تحت اقدام حكّام البيت الابيض و الكرملين و الاليزيه ، ولم ينتبه هؤلاء الطغاة من نشوة و سكر السلطان إلاّ بعد ان حدث الزلزال ،و كانت نقطة البداية للزلزال في إيران ، إلاّ ان خط الزلزال كان خطاً طويلاً و ممتداً، ولم ينقطع هذا الزلزال الحضاري الكبير، و إنّما يمتد خطه من طهران إلي بغداد إلي القدس .

إن ّ الذي حدث في إيران في 22 بهمن كان شيئاً أكبر بكثير من تصوراتنا السياسية المحدودة ، وكان تحقيقاً لوعد الله سبحانه و تعالي للصالحين المستضعفين من عباده في هذه الاُمة (ونُريد ان نمن ّ علي الذين استُضعفُوا في الارض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين .، ونمكّن لهم في الارض ).

وعلينا قبل كل ّ شي ء ان نعي بصورة جيدة الابعاد الحقيقية لهذه الثورة ، وان ننشر هذا الوعي في صفوف المسلمين ، لنحبط المؤامرات التي يحيكها أعداء الإسلام لتطويق ومحاصرة الثورة الإسلامية الكبري المعاصرة في دائرة الإقليم و القوميّة الفارسية لتنعزل الثورة - بعد ذلك -عن الرأي العام الإسلامي و عن مشاعر المسلمين .

إن ّ الذي يتابع كلام الإمام الخميني ؛ قائد الثورة ، يجد وعياً دقيقاً لهذه المؤامرة ، وسعياً وافراً لإحباطها.

و من هنا فإن ّ ربط مصير المسلمين جميعاً بهذه الثورة سنّة و شيعة و عرباً و فُرساً و اتراكاً و اكراداً، و إيرانيين و عراقيين و لبنانيين ، و علماء وساسة و عمالاً، و تعميم مسؤولية المحافظة علي هذه الثورة علي المسلمين جميعاً هو واجب علي كل ّ مسلم ؛ إذ ان هذه الثورة من عمل وجهد وعناء كل ّ المسلمين الصالحين ، و رسالة هذه الثورة فك الاغلال وكسر القيود عن ايدي و اقدام كل ّ المسلمين ، و مسؤولية المحافظة علي هذه الثورة من واجب كل ّ المسلمين كذلك ، و من أجل هذه الشموليّة الواسعة في هذه الثورة نجد ان ّ فكرة تصدير الثورة رافقت ولادة هذه الثورة ومن كلمات قائد الثورة بالذات .

إن ّ مَن يعرف طبيعة و جذور و اعماق هذه الثورة يعرف جيداً ان ّ هذه الثورة لا تعترف بالحدود الاقليمية والقومية ، وانّها لا تقف من وراء الحدود، تستأذن سدنة هذه الحدود ليفتحوا لها الطريق ، إنّها السيل ، لاتستأذن و لا تقف و لا تعترف بالحدود ولا تنتظر ولا تتردّد. ووعي هذه الحقائق ضروري في حماية ودعم الثورة ، كما ان ّ تضبيب اُفق الثورة بالحسّاسيّات يساعد في الخط العكسي الذي تعمل عليه العقول المخطّطة للإستكبار العالمي .

و نحن نضع هذه الحقائق عن هذه الثورة بين يدي هذه الاُمّة المؤمنة و مفكّريها وقادتها وعلمائها و العاملين في صفوفها و ضميرها الحرّ،الواعي ، المستنير؛ ليتحمّلوا مسؤوليتهم عن هذه الثورة بين يدي الله تعالي .

3 - إن ّ هذه الثورة من أيّام الفرقان في تأريخ الإسلام إذ انّها شطرت الناس تجاهها شطرين : شطر الموالين ، و شطر المعادين .

ولكن ، ليس للثورة ولاء جديد في قبال الولاء لله ولرسوله و لاوليائه ، و إنّما ولاؤها هو من امتداد الولاء لله. إن ّ هذه الثورة كانت من الاحداث القليلة النادرة في التأريخ التي لم تسمح لإنسان ان يقف فيها موقف المتفرّج و اللامبالاة ، و إنّما تطلب الموقف من كل ّ الناس ، وتفرض الموقف علي كل ّ الناس ، لها او عليها.

و منذ ايام بزوغ هذه الثورة ، ومنذ ان إندلع لهيبها من طهران وجدنا كل ّ القلوب المؤمنة و الضمائر الحيّة المؤمنة قد تجمّعت حول هذه الثورة و تعاطفت معها من اقصي الجنوب في جزر اندونيسيا إلي اقصي الشمال من الولايات الإسلامية التي يحتلّها الاتحاد السوفيتي ، و من أقصي شرقي آسيا إلي اقصي المغرب الافريقي .

لقد تجمّعت كل ّ العواطف والاحاسيس و المشاعر الصادقة المؤمنة في هذه الرقعة الواسعة من الارض حول هذه الثورة المباركة ، و كانت تعيش بإهتمام بالغ ساعات ميلاد هذه الدولة المباركة . وحبس التأريخ انفاسه ليتابع لحظات هذا الميلاد السعيد، لحظات (عودة الحضارة الربّانيّة ) و (عودة سيادة الإسلام علي وجه الارض ) و (حاكميّة الله في حياة الإنسان ) بعد تلك السنوات العجاف من الركود و الخمول و الضعف و الهزائم النفسية والإنصهار المذل ّ في حضارة الإستكبار الشرقي و الاستكبار الغربي الجاهلي ، و نفوذ و سيطرة الكفر العالمي علي اُمّتناوبلادنا وثرواتنا.

و في مقابل ذلك : فقد احس الظالمون والعتاة والجلاّدون و الذين باعوادينهم و ضمائرهم ، وكل ّ الطغاة و الجبّارين في الارض ؛ كل ّ اُولئك احسّوا بالشرّ، و أحسّوا بالخطر، و احسّوا بأن ّ هناك حدثاً جديداً، وميلاداً جديداًفي طهران ، و ان ّ الذي يجري في طهران ليس أمراً كسائر الامور التي تجري هنا وهناك ، إنّه نهاية لمرحلة و بداية لمرحلة ، ونهاية لحضارة وبداية لحضارة . لقد احس ّ هؤلاء بالشرّ، وبالخطر يفاجئهم علي حين غفلة ؛ فأعلنوا عداءهم تجاه الثورة منذ اللحظات الاُولي ، و لم يخفوا حسّاسيّتهم و تخوّفهم من هذه الثورة من ساعاتها الاُولي .

لقد استقبلت الثورة من قبل طائفتين من الناس : فطائفة استقبلتها بقلوب ملؤها العطف والحب ّ و الإقبال و الإندفاع لنصر الثورة ، والدعاء إلي الله بتأييد الثورة ، و طائفة اُخري استقبلتها بقلوب حاقدة متخوّفة و متحسّسة ، ولم تتمكن من إخفاء تخوّفاتها و حسّاسيّتها حتّي منذالساعات الاُولي لميلاد هذه الدولة المباركة و انتصار الثورة .

وهذا الإنشطار في الولاء و البراءة من خصائص ايّام الفرقان في التأريخ ، ولسوف تبقي هذه الثورة تحتفظ بهذه الخاصية المزدوجة في مراحلها المختلفة .

4 - ولقد كان من الطبيعي ان يكون ميلاد هذه الدولة المباركة و انتصار هذه الثورة إيذاناً بصراع ممتد طويل بين الإسلام و الجاهلية فلقد كانت هذه الثورة تمتد لإسقاط معاقل الجاهليّة و الاستكبار علي وجه الارض ، و إطلاق ايدي المستضعفين من العقال و القيود و فك ّ الاغلال عنهم ، وكسر هيبة القوي الكبري في نفوس المسلمين ؛ و لهذا فلا يمكن ان يسكت الاستكبار العالمي أمام هذه الموجة الربّانيّة دون إثارة الفتن و المتاعب في طريق الدعوة والثورة ، ودون ان يعمل علي تطويق و مصادرة هذه الثورة .

إن ّ الذي يتفهّم سنن الله تعالي في التأريخ يستطيع ان يفهم بوضوح حتميّة الصراع بين هاتين القوتين : القوة الإسلامية النامية و قوة الكفر العالمي ، وإن ّ هذا الصراع سوف يكون من اقسي انواع الصراع و اطوله و اكثره دواماً واستمرارية ؛ ذلك ان ّ هذا الصراع صراع علي البقاء كما قلنا،و الصراع علي البقاء يطول و يقسو و يستمر، فالصراع منّا صراع في العقيدة و الحضارة ، وليس صراعاً علي ماء و طين و علي نفط و صلب و نحاس حتّي يمكن التفاهم و اللقاء، فلا يمكن تجنّب هذا الصراع بحال من الاحوال .

إن ّ هذه الثورة والدولة قد كسرتا دائرة النفوذ الاستكباري (الشرقي و الغربي ) علي العالم الإسلامي ، وخرجت الدولة الإسلامية لاول مرّة عن منطقة نفوذ القوي الكبري بشكل كامل ، وتعمل الثورة الآن لفك ّ هذاالحصار عن كل ّ العالم الإسلامي . ومن الطبيعي ان يواجه الاستكبار هذه الثورة ودولتها الناشئة بكل انواع الضغوط و المؤامرات من الداخل و الخارج لتحجيمها واستهلاكها وتطويقها.

إن ّ الحرب العراقية الإيرانية جزء من هذا المخطّط الاستكباري الرهيب ، وجزء من هذا الصراع الحي الذي تحدثنا عنه . و النظام العراقي ليس هو الطرف في هذه الحرب ، وإنّما هو منفّذ لإرادة القوي الكبري ،و الطرف الحقيقي في هذا الصراع هي الدول الكبري التي تتقاسم فيمابينها الشعوب المستضعفة و المضطهدة علي وجه الارض .

إن ّ الثورة الإسلامية يجب ان تواجه الصراع الطويل و القاسي ، ويجب ان تستمر خلال حياتها في مواجهة الامر الواقع الذي لا يمكن تجنّبه ،و تعتبر ذلك ضريبة الثورة و الإنجازات الكبري التي تحققها هذه الثورة في حياة الإنسان ؛ علي ان الثورة لا تستطيع ان تحقق هذه الإنجازات الكبري ، ولا تستطيع ان تؤهّل أبناءها للقيام بأعمال كبيرة ، و مواجهة التحدّيات الصعبة ، من دون ان يتمرّسوا طويلاً في هذا الصراع .

5 - والعاقبة في هذا الصراع للمتقين . ومهما نشك ّ في شي ء فلا نشك ّ في هذه الحقيقة . إن ّ الاُمة المؤمنة لا تدافع عن نفسها، وإنّما تدافع عن دين الله و شريعة الله وحدوده ، ولا تواجه أعداءها وإنّما تواجه أعداء الله. ولاتحارب بحولها و قوّتها و إنّما تحارب بحول الله وقوّته .

فإذا استوفت هذه الاُمّة الشروط و وضعت ثقتها في الله، واعطت نفسها الله، وتخففت عن التعلّق بالدنيا وحبّها و تحصّنت عن اهوائها، وقامت لله تعالي مثني و فرادي ؛ فإن ّ الله تعالي ينصرها طال عليها الامر أم قصر.

فإن ّ ذلك وعد الله تعالي ، و لا يخلف الله وعده . فلنستمع إلي كتاب الله الكريم و آياته إلينا:

(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، إنّهم لهم المنصورون ، وإن ّ جندنا لهم الغالبون )

(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )

(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا)

(فإن ّ حزب الله هم الغالبون )

(وكفي بالله ولياً وكفي بالله نصيراً)

(وكفي بربّك هادياً ونصيراً)

(يا ايّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت اقدامكم )

إن ّ المعركة إذا طالت ، وإذا قست ، فلن يتركنا الله لاعدائنا، ولن يتخلّي الله تعالي عنا، ولن يخلف الله وعده ، تبارك و تعالي عن ذلك علوّاً كبيراً.

(هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله ورسوله )

وإن ّ محنة الصراع إن طالت فلكي يمتحن الله قلوب عباده ، ويعرف الثابتين منهم عن المهزومين - وهو العالم بخفايا القلوب -، ولكي يثبّت الله للمؤمنين قدم صدق علي ارض المعركة ، ولكي يتخفّف المؤمنين في هذا الصراع من حب ّ الدنيا و التعلّق بها. ولكي يزدادوا يقيناً بالله تعالي في خضّم هذا الصراع ؛ فإن ّ الإنسان لا يرزق اليقين في ايّام الراحة و العافية كمايناله في ساعات الإبتلاء.

ولكي يتمرّس المؤمنون علي مواجهة التحدّيات الكبيرة وتجاوز الصعاب في سبيل الله ويزدادوا بأساً وقوّة وشجاعة ولكي يقوي في قلوبهم الولاء و البراءة ، فإن ّ الولاء يقوي من خلال التضحية والعطاء، والبراءة تقوي من خلال المواجهة و القتال .

وليس هذا الصراع وما يستتبعه من آلام وعناء يخص ّ هذه الثورة اويخص ّ هذا الدين ، و إنّما هو سنّة الله تعالي في حياة الصالحين من عباده ،الذين يرتضيهم الله تعالي لرحمته ، و الذين يسكنهم الله تعالي في جنّته مع عباده الصادقين .

(ام حسبتم ان تُتركوا، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، و لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون )

(ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء)

إن ّ نفوسنا الضعيفة لتهوي ان تقتطف النصر من اقرب الطرق و بأيسر الاسباب ، وان لا يُكلّفها دينها شيئاً، وان نمدّ ايدينا فننال النصر و الإمامة والخلافة علي وجه الارض .

لكن الله الحكيم يعلم إن ّ النصر إذا جاء يسيراً وعلي غير طريق ذات الشوكة لا يؤهّل الإنسان للإمامة و خلافة الله علي وجه الارض ، فيريد الله تعالي لنا ان نتمرّس و نقوي ، و نحقّق حاكميّة دين الله في الحياة علي طريق ذات الشوكة .

(و تودون ان ّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، و يريد الله ان يحق ّ الحق ّ بكلماته و يقطع دابر الكافرين ، ليحق ّ الحق ّ و يبطل الباطل ولو كره المجرمون )

و لنستمع إلي هذه الآيات البيّنات من كتاب الله من سورة آل عمران تشرح سنن الله تعالي في الصراع ، و العناء و المحبّة ، و النصر و الفتح في تسلسل رائع جميل .

(وَلاَتَهِنُواْ وَلاَتَحْزَنُواْ وَأَنتُم ُ الاْعْلَوْن َ إِن ْ كُنتُم مُّؤْمِنِين َ - إِن ْ يَمْسَسْكُم ْ قَرْح ٌ فَقَدْمَس َّ الْقَوْم َ قَرْح ٌ مِّثْلُه ُ وَتِلْك َ الاْيَّام ُ نُدَاوِلُهَا بَيْن َ النَّاس ِ وَلِيَعْلَم َ اللَّه ُ الَّذِين َ آمَنُواْ وَ يَتَّخِذَمِنكُم ْ شُهَدَاءَ وَاللَّه ُ لاَيُحِب ُّ الظَّالِمِين َ - وَلِيُمَحِّص َ اللَّه ُ الَّذِين َ آمَنُواْ وَيَمْحَق َ الْكَـفِرِين َ - أَم ْ حَسِبْتُم ْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَم ِ اللَّه ُ الَّذِين َ جَاهَدُواْ مِنكُم ْ وَيَعْلَم َ الصَّـبِرِين َ).

وفي هذه الآيات المباركة من سورة آل عمران اجابات شافية علي كل الاسئلة التي تخطر علي باب المؤمنين في هذا الصراع الرهيب بين الإسلام و الكفر.

لقد كان المسلمون يظنّون بعد ان نصرهم الله تعالي ببدر.. ان النصرحليف الفئة المؤمنة دائماً، ولا يفارقهم ولا يعدوهم ، وانّهم إذا آمنوا بالله و رسوله و جاهدوا في سبيل الله فلن يتخلفوا عن النصر في حال من الاحوال . فلما اذاقهم الله مرّ الهزيمة في اُحد، و انتكس المسلمون في هذه المعركة عندما خالف الرماة امر رسول الله(ص) و تخلوا عن مواقعهم بحثاًعن الغنائم .. اهتزّت نفوس المسلمين واهتزّت الثقة في نفوسهم بالنصر،و عادوا يشكّون في ان تكون لهم عاقبة الامر، وغلب الضعف علي النفوس وتمكن الحزن من نفوسهم علي الذين استشهدوا في هذه المعركة من سراة المسلمين ، ومن الصفوة المؤمنة الذين صدقوا الله واخلصوا له في العمل و الجهاد.

فيعيد الله تعالي الي نفوسهم الثقة بالنصر اولاً و يطمئنهم بان العاقبة للمؤمنين ، منهما كانت القروح و الآلام و الانتكاسات والعناء خلال طريق ذات الشوكة ، و يمسح الضعف و الوهن و الحزن عن نفوسهم و يثبت افئدتهم و قلوبهم بالنصر و العلو (وَلاَتَهِنُواْ وَلاَتَحْزَنُواْ وَأَنتُم ُ الاْعْلَوْن َ إِن ْ كُنتُم مُّؤْمِنِين َ).

ثم يذكّرهم الله تعالي ان ما مسّهم من القرح في الحرب لم يخصّهم فقط ، و إنّما مس ّ اعداءهم ايضاً، وهذا القرح و ما يصيب المقاتلين من اذي و تعب و خسائر من متطلبات المعركة في كل ّ من الطرفين ، و لا يمكن ان تجري معركة من دون قروح وآلام : (إِن ْ يَمْسَسْكُم ْ قَرْح ٌ فَقَدْ مَس َّ الْقَوْم َ قَرْح ٌ مِّثْلُه ُ...).

و قد جرت سُنّة الله تعالي ان يداول الايام بين الناس فيجعل يوماً للمؤمنين علي الكافرين ، وآخر للكافرين علي المؤمنين ، وينصر هؤلاء في يوم و يذيقهم مرّ الانتكاسة في يوم آخر.. وهكذا يداول بينهم النصر...علي ان العاقبة للمؤمنين فقط . و هذه المداولة لا تغير مشيئة الله تعالي في ان العاقبة للمتقين .

و إنّما يداول الايام بين الناس ، ويذيق المؤمنين الشدّة و الرخاء،و نشوة النصر حيناً و مرارة الهزيمة حيناً آخر ليتميّز الذين آمنوا و صدقوا في إيمانهم و ثبتوا علي الإيمان عن المنافقين وضعّاف النفوس و اصحاب النفوس المهزومة .

فان ّ مسيرة الدعوة لو كانت محفوفة بالنصر و الغنائم دائماً، و مقرونة باليسر والرخاء لتراكمت عليها العناصر المنافقة والعناصر التي تحسن التسلق ، اُولئك الذين يغيبون حين الباس ، و يحضرون حين توزيع الغنائم ،وتطول السنتهم في المطالبة بالغنائم و الحصص .

(فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور اعينهم كالذي يُغشي عليه من الموت ).

إن ّ مسيرة الدعوة لو كانت تخلو من المكاره و مرارة الإنتكاسات لتجمّعت حولها هذه الطائفة من المنافقين ، و ضعفاء النفوس ، واحتلّوا منها المواقع الحسّاسّة . و اذا ما تولّت هذه الطائفة اُمور الدعوة و المسيرة تعطّل دورها القيادي في حياة الناس ، وفقدت الدعوة قدرتها علي التغيير و القيادة وتحوّلت الدعوة من طريق ذات الشوكة في مواجهة الطاغوت إلي مسيرة مترفة عامرة باللّذات و متع الحياة ، و فقدت كل ّ إمكاناتها علي العمل و التغيير و الحركة .

فلابدّ في هذه المسيرة بين حين وآخر من إنتفاضة قويّة تطرد المنافقين و ضعفاء النفوس عن موكب هذه الدعوة ، وتستخلص المؤمنين الاقوياء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، واخلصوا لله في عملهم .

فليست مسيرة هذه الدعوة كسائر ما يألفه الناس من مسيرات الانظمة والحكومات التي تطلب الحياة الوديعة المترفة و العافية والابتعاد عن المنغّصات حتّي تستطيع ان تعيش مع هؤلاء المنافقين ، و تحقّق غاياتها من خلالهم .

امّا عندما تتعرّض هذه المسيرة للآلام و المحن و المصائب و متاعب الطريق والدم والانتكاسات المرّة فإن ّ جوّ الدعوة يصفو للمؤمنين ،و تخلص هذه المسيرة للصفوة الصادقة من المؤمنين المجاهدين ، و يتميّز المؤمنون عن غيرهم (و ليعلم الله الذين آمنوا)، وليس هذا فقط فائدة تداول الايام وتناوب النصر و الهزيمة والشدّة والرخاء علي المؤمنين ،و إنّما لكي يتّخذ الله منهم شهداء و قدوات وأئمة في الارض أيضاً.

فمن خلال هذه المعاناة ، ومن خلال مرارة الانتكاسات و قروح الحروب ، و آلام المواجهة تتكون في هذه الاُمة شهداء (بمعني شهداء الاعمال من قبيل قوله تعالي : (و كذلك جعلناكم اُمّة وسطاً لتكونوا شهداء علي الناس )... و قدوات دائمة وامثلة في الثبات و الصبر و الإيمان .

إن ّ النماذج الإيمانية الفريدة في تأريخ البشرية لا تتكون في الحياة الهادئة الوديعة المترفة ، وإنّما تتكون في زحام متاعب الحياة ، و في وسط متاعب العمل ، و بين الدماء و الدموع .

و لابدّ للمسيرة من هذه النماذج الفريدة في الإيمان و الثبات ؛ و هذه النماذج يتّخذها الله تعالي ويختارها في ظروف المحنة والتداول (ويتّخذ منكم شهداء)، ثم لهذا التداول فائدة ثالثة في تكوين هذه الاُمة و تقويم شخصيّتها؛ وهي ان ّ هذه القروح و الآلام والمتاعب لتمحّص المؤمنين و تزكيهم وتطهّر قلوبهم من ريب الشك ّ، و من سلطان الاهواء و تخلّص نفوسهم من نقاط الضعف ، فلرب ّ إنسان مؤمن تخفي عليه نقاط الضعف و الوهن في نفسه في ايام اليسر و العافية ، فإذا جدّ الجدّ و اشتد اليأس اكتشف نقاط الضعف في نفسه ، فأعاد النظر في نفسه وأصلحها.

فلرب ّ ضعف في نفس الإنسان لا يستطيع ان يسدّه الإنسان و يصلحه في أيام العافية ، وإنّما تصلحه الشدة والمعاناة . فإن ّ المعاناة والشدّة كما تصفّي صفوف المؤمنين من المنافقين ، كذلك تصفّي نفوس المؤمنين من نقاط الضعف و الوهن و الشك ّ، وتمحّص المؤمنين .

امّا بالنسبة إلي الكافرين فإن ّ المعاناة والمحنة تمحقهم و تهلكهم و تبيدهم ، فلا يستطيع اُولئك ان يقاوموا المعاناة و المحنة .

(و ليمحص الله الذين آمنوا، و يمحق الكافرين )

وبعد: فليس من الصحيح ان نتصور ان ّ كل ّ مَن شهد هاتين الشهادتين و اسلم او آمن بالله ورسوله يدخل الجنة ، فإن ّ في الناس منافقين لا تتجاوز الشهادتان السنتهم ، ولا تستقرّ في قلوبهم .

و المؤمنون درجات و مراتب في إيمانهم ، فليس كلّهم بمستوي واحد من الإيمان والعمل الصالح .

فهناك المؤمنون الذين يؤثرون العافية علي الجهاد و القتال في سبيل الله.

و هناك المؤمنون المجاهدون .

و هناك المؤمنون المجاهدون الصابرون .

و من الخطأ ان نتصور ان ّ هؤلاء جميعاً في الجنة في درجة واحدة .فلكل درجته وبرتبته ومكانته عند الله. و هذه المرتبة والمكانة تتحدّد في ظروف المحنة فقط ؛ حيث يتميّز المؤمن عن المنافق ، و يتميّز المجاهدون عن غيرهم من المؤمنين ، و يتميّز الصابرون عن غيرهم من المجاهدين .

(ام حسبتم ان تدخلوا الجنّة ، و لمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، و يعلم الصابرين ).

6 - و هذه الثورة المباركة بداية انعطاف كبير في تأريخ و حضارة الإنسان ، و أمر ذو بال و ذو خطر كبير في حياة الإنسان ومستقبله . والذي يستقري الروايات الواردة عن رسول الله(ص) و عن اهل بيته لا يشك في ان ّهذه الثورة بخصائصها البارزة و قيادتها سوف تمهّد للانقلاب الكبير في تأريخ الإنسان ، و لظهور الإمام المهدي من آل محمّد عجّل الله فرجه .

و إن ّ اليوم الموعود الذي وعدنا الله تعالي به و رسوله بقيام دولة الإسلام الكبري ، وتمكين المستضعفين من الارض و قيام الإمام المهدي بثورته الكبري في الارض لقريب إن شاء الله، وان ّ هذه الثورة توطّي ء الارض لتلك الثورة الكبري ، و تمهّد الاُمة لظهور و قيام القائم من آل محمّد (ع)، وفيما يلي ننقل إضمامة من هذه الروايات :

«عن عبد الله بن مسعود قال : اتينا رسول الله(ص) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شي ء إلاّ أخبرنا به ، و لا سكتنا الاابتدأنا؛ حتّي مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلمّا رآهم إلتزمهم و انهملت عيناه فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نري في وجهك شيئاً نكرهه ؟ فقال :

«إنّا اهل بيت ، إختار الله لنا الآخرة علي الدنيا، و إنّه سيلقي اهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد حتّي ترتفع رايات سود في المشرق ، فيسألون الحق ّ فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه فيُقاتلون فيُنصرون ، فمن ادركه منكم او من اعقابكم فليأت إمام اهل بيتي ولو حبواً علي الثلج ، فإنها رايات هدي يدفعونها إلي رجل من اهل بيتي يواطي إسمه إسمي واسم ابيه اسم أبي فيملك الارض فيملاها قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً»

وروي المجلسي في بحار الانوار ج 51 ص 83 و ج 52 ص 43، عن الإمام الباقر (ع) قال : «كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه ثم يطلبونه ، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم علي عواتقهم فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه ،حتّي يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلي صاحبكم (اي المهدي (ع)) قتلاهم شهداء، امّا إنّي لو ادركت ذلك لابقيت نفسي لصاحب هذا الامر».

و روي في البحار ج 60 ص 216 عن بعض اصحابنا قال : كنت ُ عند ابي عبدالله (ع) جالساً إذ قرأ هذه الآية (فإذا جاء وعد اُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا اُولي باس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعداً مفعولاً) فقلنا: جُعلنا فداك !مَن هؤلاء؟ فقال ثلاث مرّات : هم و الله اهل قم ، هم و الله اهل قم ، هم و الله اهل قم .

و روي في البحار ج 60 ص 216 و 446 عن ابي الحسن الرضا (ع) قال : «رجل من اهل قم يدعو الناس إلي الحق يجتمع معه قوم كزبر الحديد لا تزلّهم الرياح العواصف ، ولا يملّون من الحرب ولا يجبنون ، و علي الله يتوكّلون ، والعاقبة للمتّقين »

و روي في البحار ج 60 ص 213 عن علي بن ميمون الصائغ عن الإمام الصادق (ع) قال : «وسيأتي زمان تكون بلدة قم و اهلها حُجّة علي اهل الخلائق و ذلك في زمان غيبة قائمنا إلي ظهوره ، ولولا ذلك لساخت الارض بأهلها».

و روي بأسانيد اُخري ايضاً عن الإمام الصادق (ع) انّه ذكر الكوفة و قال : «ستخلو الكوفة من المؤمنين ، و يأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة ، يظهر العلم ببلدة يقال لها قم ، وتصير معدناً للعلم و الفضل حتّي لا يبقي في الارض مستضعف في الدين حتّي المخدرات في الحجال ، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم و اهلها قائمين مقام الحجّة ، و لولا ذلك لساخت الارض بأهلها و لم يبق في الارض حجّة فيفيض العلم منها إلي سائر البلاد في المشرق و المغرب فتتم ّ حجّة الله علي الخلق حتّي لا يبقي احد علي الارض لم يبلغ إليه الدين و العلم ، ثم يظهر القائم و يصير سبباً لنقمة الله و سخطه علي العباد لان ّ الله لا ينتقم من العباد إلاّ بعد إنكارهم حجّته »

و قال صاحب تفسير الكشّاف ج 4 ص 331 في تفسير قوله تعالي :(و إن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ، ثم لا يكونوا امثالكم )، قال : وسئل رسول الله (ص) عن القوم ، و كان سلمان إلي جنبه فضرب علي فخذه ، وقال :هذا و قومه . والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من اهل فارس .

فهذه إضمامة من الروايات التي تشير إلي استمرارية هذه الثورة المباركة حتّي ظهور الإمام المهدي من آل محمّد (ع)، و إن ّ هذه الثورة المباركة ، و التي تتسع رقعتها إن شاء الله في اجزاء واسعة من المنطقة الإسلامية من الارض سوف تمهّد لظهور و قيام الإمام المهدي عجل ّ الله فرجه .