بازگشت

تراب القارورة والدم العبيط


ذكرت الروايات الواردة في كتبنا المعتبرة وغيرها «أن َّ جبرئيل جاء إلي النبي ِّ (ص) بالتربة الّتي يقتل عليها الحسين (ع)، قال أبو جعفر (ع): فهي عندنا».

وحسب ما وصلنا أن ّ هذه التربة وضعها رسول الله (ص) في قارورة ٍخاصة وأودعها عند اُم ّ سلمة ، فقد ورد عن ابن عباس قوله : «بينا أناراقد في منزلي إذ سمعت صُراخاً عظيماً عالياً من بيت اُم ِّ سلمة زوج النبي (ص) فخرجت يتوجّه بي قائدي إلي منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها من الرِّجال والنساء.

فلمّا انتهيت إليها قلت : يا اُم َّ المؤمنين ، مالَك ِ تصرخين و تستغيثين ؟ فلم تجبني ، وأقبلت علي النسوة الهاشميّات وقالت : يا بنات عبدالمطّلب ،اسعدين َ وابكين معي ؛ فقد قُتل واللهِ سيّدُكُن َّ وسيد شباب أهل الجنة ، قدوالله قتل سبط رسول الله و ريحانته الحسين ، فقلت : يا اُم َّ المؤمنين ، ومن أين علمت ذلك ؟ قالت : رأيت رسول الله (ص) في المنام السّاعة شَعثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك ؟ فقال : قتل ابني الحسين (ع) و أهل بيته اليوم ، فدفنتهم ، و السّاعة فرغت من دفنهم .

قالت : فقمت حتّي دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أغفل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين الّتي أتي بها جبرئيل من كربلاء فقال : إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك و أعطانيها النبي ُّ فقال : اجعلي هذه التربة في زجاجة ٍ، أوقال في قارورة ٍ ولتكن عندك ، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين ،فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.

قال : فأخذت اُم ُّ سلمة من ذلك الدَّم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً و مناحة ً علي الحسين (ع)، فجاءت الركبان بخبره و أنّه قتل في ذلك اليوم ».

وفي اُسد الغابة جاءت الرواية بصورة ٍ مختلفة ٍ عن الاولي ، حيث ورد عن ابن عباس قوله : «رأيت رسول الله فيما يري النائم نصف النهار و هو قائم أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله،ما هذا الدم ؟ قال : هذا دم الحسين ، لم أَزل أَلتقطه منذ اليوم ، فَوُجدِ قد قتل في ذلك اليوم ».

علي أي ّ حال ٍ كيفما كانت الرواية ـ رغم اعتقادنا بصحة الاُولي ـ حيث جاء في الادعية الواردة عن الائمة الاطهار: التي ذكروا أنّها تُقرأمع طلب الاستشفاء بالتربة الطاهرة ، عبارة [و بحق ِّ الملك الذي أخذها] أوفي عبارة ٍ اُخري [بحق ِّ الملك الذي قبضها]، والملك المقصود هو جبرائيل .

فالثابت هنا أن ّ هناك قارورة أودعها النبي (ص) عند اُم سلمة ، فيها تراب من كربلاء، والحقيقة أن ّ التراب هو جزء من التراب الذي ذبح عليه الحسين الشهيد (ع)، و قد جلبه جبرائيل للرسول الكريم (ص)، وأخبره عن الله سبحانه وتعالي بماهيته و مقتل الإمام الحسين (ع) عليه .

والشي ء الملفت للنظر والمحيّر للعقل هو الارتباط بين تراب كربلاء و الدم .

والمثير هنا لماذا تحوّل ما في القارورة إلي دم يفور بعد أن كان تراباً بخصائصه الطبيعية ؟

الحقيقة أن ّ الارض هي مصدر الحياة الاساسية ؛ حيث أودع الله تعالي فيها من خزائنه المتنوّعة ما لا يُعدّ و لا يُحصي .

أمّا الدم فهو الاصل الذي يُديم حياة الإنسان ، فالإثنان يرتبطان فيما بينهما بخصوصية إدامة الحياة ، إن لم يُصبْهما شي ء ما يغير من تكوينتهماالخاصة .

فكثيراً ما سالت الدماء علي الارض دفاعاً عنها ضد معتدٍ أثيم يريد أن يعبث بها، أو يستثمرها بطريق ٍ غير مشروع ، أو يستعبد ساكنيها.

فالحرية والكرامة والمبادي لا تصان إلاّ بالتضحية ، و هذه التضحية مهما كانت صورتها فهي لا تصل إلي الجود بالنفس ، وما أكثر الارواح التي اُزهقت من أجل الحفاظ علي الارض وما عليها!

فاكتسبت الارض بذلك قدسية ً ممّيزة ً في نفوس الكثير، فأصبح الإنسان يجاهد وتسيل دماؤه ويموت وهو مرتاح الضمير، لكي تبقي أرضه منيعة ً بوجه المعتدي الغادر، ولا يسمح لاي ِّ معتدٍ أن يُسي ء إلي قدسية أرضه في نظره .

فهو يشم ّ رائحتها، ويرويها إن ظمئت ، ويقلّب تُرابها لزيادة خصوبتها، و تهيئتها للزرع ، ويجني ثمارها وينتفع به فينفع به .

وتفتخر التربة التي تروي بالدماء علي غيرها؛ بأنّها اكتسبت شرفاً رفيعاً وقيمة ً معنوية ً لا تقدَّر بثمن ، فما بالك بالتربة التي تروي بدم الحسين بن علي بن أبي طالب و فاطمة بنت محمد رسول الله صلوات اللهعليهم ، وهو «أبو عبدالله ريحانة النبي (ص)، و شبْهُه من الصدر الي ماأسفل منه ؟ فإنّه ولمّا ولد أَذّن النبي في اُذنه ، و هو سيّد شباب أهل الجنّة ،وخامس أهل الكساء»، ورافع راية الإسلام الحقيقي ، والمضحِّي بكل ّشي ءٍ حتي طفله الرضيع من أجل أن تبقي كلمة الله هي العليا، والإسلام محفوظاً من التحريف الاُموي البغيض ، مستقيماً في نهجه .

لكل ّ هذا وغيره جعل الله لتربة كربلاء المروية بدم الحسين (ع) وأهل بيته كرامة ً عظيمة ، وقدسية ً كريمة ، ولتبقي هذه التربة الطاهرة رمزاً حيّاً لقُوي الحق ّ و العدل من المسلمين وغيرهم أمام قُوي الظلم والشرِّوالانحراف ، ولتكون أيضاً محرّكاً عملاقاً لدماء أبناء الإسلام عامة ،و أتباع أهل البيت (ع) خاصة ، ورموز الخير في العالم ضد كل ِّ بغي ٍ و استعباد، و من يحاول دَرْس َ هذا الدين علي مدي التاريخ .