بازگشت

القيمية في صنع المواقف


القِيَم السامية والاخلاق الجديدة التي قدّمها الثائرون الصادقون مع الحسين (ع) دفعت بالاُمّة إلي الحياة الحقيقية والعقلائية الإنسانية ، التي ينشدها الإسلام ، كما انها ادّت إلي تحطيم الإطار الديني المزيّف الذي تبرّقع به الاُمويون ؛ و هذا من اعظم إنجازات الثورة الحسينية فيما بعد.

فبعد ان توارد علي الحسين (ع) خبر مقتل مسلم بن عقيل و هاني بن عروة واخيه بالرضاعة عبدالله بن يقطر، قال (ع) لاصحابه : «... قد خذلتنا شيعتنا، فمن احب ّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام ». هنا سجّل اصحاب الحسين (ع) مواقف رائعة في الذود عن إمامهم و قضيّتهم العادلة ،حتّي انّه (ع) قال : «فإنّي لا اعلم اصحاباً اوفي و لا خيراً من اصحابي ...».

فخاطبه زهير بن القين : «سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك علي الإقامة فيها».

وقال له برير بن خضير: «يا ابن رسول الله، لقد مَن ّ الله بك علينا ان نقاتل بين يديك ، تُقطع فيك اعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة ».

وقال نافع بن هلال : «سر بنا راشداً معافي ، مشرّقاً إن شئت او مغرّباً،فوالله ما اشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا علي نياتنا وبصائرنا،نوالي مَن والاك ونعادي مَن عاداك ».

امّا الصحابي مسلم بن عوسجة ، فقال له : «نحن نخلّي عنك ، و لما نعذر إلي الله في اداء حقّك ؟ اما والله لا اُفارقك حتي اطعن في صدورهم برمحي و اضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتي اموت معك ».

وكذلك سعد بن عبدالله الحنفي قال : «والله لا نخلّيك حتي يعلم الله اناقد حفظنا غيبة رسول الله (ص) وآله فيك ، والله لو علمت اني اُقتل ثم احياثم اُحرق حيّاً ثم اُذرّي ، يفعل ذلك بي سبعين مرة ، ما فارقتك حتي القي حمامي دونك ، فكيف لا افعل ذلك و إنّما هي قتلة واحدة »؟

فالحسين (ع) كان متيقّناً من مواقف اصحابه رضوان الله تعالي عليهما،ولكنّهم ارادوا باقوالهم تلك ان يواسوا الإمام وان يُسمعوا اهل بيته من النساء والشبّان ، ولكن الإمام و رغم رسالته الاستشهادية وطموحه بالمزيد من رجالات الاُمّة ان تقف كموقف اصحابه ، إلاّ انه بين الحين و الآخر ينتهز فرصة إقناع بعض من اصحابه النجاة بنفسه ، فمرّة قال (ع) لنافع بن هلال في جوف الليل : «الا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ؟! فوقع نافع علي قدميه يقبّلها و يقول : ثكلتني اُمّي ، إن سيفي بالف ، وفرسي بمثله ، فوالله الذي مَن َّ علي ّ بك لا فارقتك حتّي يكلاّ عن فري و جري ».

هكذا كان مستوي السلوك الذي ارتقي له الثائرون القيِّميون ؛ فكان في موتهم الحياة الجديدة والانبعاث الخلقي الرفيع ، فاصبحوا مشاعل و رموزاً لمدرسة الحسين ، و نماذج يحتذي بها في كل ّ حركات التحرّرالدينية و الإنسانية ، ومن المشاهد المثيرة والرائعة في البطولة والشجاعة و الفداء والإخلاص المبدئي المنقطع النظير ينقل السيّد المقرّم في كتابه مقتل الحسين (ع)، صورة رائعة لاحد اصحاب الحسين (ع) قبل واقعة الطف عندما ارسله الإمام رسولاً له إلي الكوفة ـ وهو قيس بن مسهرالصيداوي ـ وبعد ان يقع اسيراً بيد عبيدالله بن زياد، اسرع الصيداوي في تمزيق الكتاب ، فقال له ابن زياد: لماذا مزّقت الكتاب ؟ يقول : لانّي لااُريد ان تطّلع عليه ، يقول له : وماذا كان فيه ؟ فيقول : لو كنت اُريد ان اخبرك لما مزّقت الكتاب ، يقول له : إنّي اقتلك إلاّ إذا صعدت علي هذاالمنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سب ّ علي ّ بن ابي طالب و الحسن و الحسين ، فالصيداوي الامين يغتنم هذه الفرصة و يصعد علي المنبر في هذه اللحظة الحاسمة ، في آخر لحظة من حياته ، و هنا يعقب السيّد الشهيد محمد باقر الصدر و هو يصوّر هذه الحالة قائلاً: في هذا الإطار العظيم من البطولة و الشجاعة و التضحية امام عبيدالله بن زياد و امام شرطته و جيشه يوجّه خطابه إلي اهل الكوفة و يقول : انا رسول الحسين إليكم ، إن ّ الحسين علي الابواب ، فيؤدّي هذه الرسالة بكل بطولة و بكل ّ شجاعة ، فيامرعبيدالله بن زياد به فيقتل ، ويستطرد السيّد الصدر (متسائلاً): ماذا يكون الصدي لمثل هذه الدفعة المثيرة القويّة ؛ حينما قتل الصيداوي اتي شخص من اهل الكوفة فقطع راسه ، فقيل لماذا قطعت راسه ؟ يقول : لكي اُريحه بذلك هذه الاُمة ـ و القول للسيّد الصدر ـ لا تفكّر إلاّ علي هذاالمستوفي من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها علي هذا المستوي ،اما الشفقة علي الوجود الكلّي ، الشفقة علي الكيان ، الشفقة علي العقيدة قد اُنتزعت من قلوبها؛ لانها تكلّف ثمناً غالياً، الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي ان تقطع رقبة هذا الشخص وان يريحه من هذه الحياة في ظل عبيدالله بن زياد.