بازگشت

حكمة زيارة القبور


إنّ الإسلام جاري في تشريعاته مقتضيات الفطرة السليمة، وهذا هو السرّ في كون الشريعة الإسلامية حيّةً ثرّةً مواكبةً لحاجات البشر في كلّ مصر وعصر، وجديرة بما جعل الله لها من الخاتمية والاستمرار إلي يوم القيامة، والقرآن والحديث الشريف: هما المصدران الوثيقان للشريعة الغرّاء، بهما يهتدي إلي الحقّ الصائب وينجو من الضلالة والردي، ونحن نتعبّد في التشريعات بالنصوص الواردة فيهما، ولا نتعدّاها إلي الاجتهاد الباطل في مقابل النصّ، لأنّ الدين هو ما جاء به الله والرسول، وما عدا ذلك في تشريع وبدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.

وقد كرّم الله تعالي في القرآن الكريم «بني آدم» فقال تعالي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...) [1] .

ومن تكريم الله لبني آدم أن حدّد له الحدود ووضع له الشريعة التي تسعده، وتسدّ الثغرات في حياته بكلّ المصالح وتدرء عنه المفاسد والأضرار والحرج.

وهذا التكريم الإلهي، هل ينقطع عند موت جسم الآدميّ، أو انّه مستمرٌّ له، لأنّ روح الإنسان لا تموتُ وهي خالدة؟!

إنّ الفقه الإسلامي يحتوي علي تشريعات هامّة، تؤدّي إلي القناعة التامّة بأنّ الإسلام يهتمّ بالإنسان ميّتاً، كما يهتمّ به حيّاً، ويكرّمه حتّي بعد خروج الروح من جسده، بدءاً بالغسل والتكفين والصلاة عليه، ثمّ التشييع، بما فيه من الثواب والأجر للمشيّعين، وحتّي الدفن والمواراة في القبر، بما لكلّ ذلك من الآداب والأحكام التي تنمّ عن احترام الميّت وتكريمه، وكذلك الدعاء له والترحّم عليه والإحسان إليه بالصلاة والدعاء، والعمل، كما دلّ علي ذلك ما ورد في الحديث الشريف: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٌ يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

والتركيز علي الدعاء للوالدين يتبلور في ما جاء عن الإمام السجّاد زين العابدين (عليه السلام)في الصحيفة السجّادية، وكان من دعائه لوالديه قوله: «اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد، واخصص أبويّ بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين واُمّهاتهم ياأرحم الراحمين، اللهمّ لا تُنسني ذكرهما في أدبار صلاتي وفي كلّ آناء ليلي، وفي كلّ ساعة من ساعات نهاري، واغفر لي بدعائي لهما».

إنّ هذا التكريم الإسلامي للإنسان بعد الموت ـ كما هو قبل الموت ـ يبتني علي التفسير الإسلامي للموت، بأنّه عارض يستوعب كلّ أجزاء البدن، دون الروح، لأنّ الروح لا تموت بل تنتقل من عالم الدنيا إلي عالم البرزخ الذي هو مرحلة متوسّطة بين الدار الدنيا، والدار الآخرة، وفي تلك المرحلة يتنعّم المحسنون، ويعذّب المسيئون.

وقد دلّت علي هذا التفسير نصوص عديدة:

قال تعالي: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [2] .

وفي السيرة النبوية: أنّ النبي (صلي الله عليه وآله)، بعد الانتهاء من معركة بدر، أمر بإلقاء جثث القتلي من المشركين في القليب[ البئر ]، ثمّ أخذ يناديهم: «ياأهل القليب، لقد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟».

فقد أثار خطاب النبي (صلي الله عليه وآله) لهؤلاء الموتي، بعض المسلمين ممّن لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فقالوا: يارسول الله، أتخاطب قوماً جيّفوا؟ فقال الرسول (صلي الله عليه وآله): «إنّهم أسمع منكم لكن لا يستطيعون جواباً».

وقال الأصبغ بن نُباتة: خرجت مع علي (عليه السلام) ومعنا حبَّة العُرني، فوقف الإمام (عليه السلام) علي القبور وسلّم قائلا: «السلام عليكم ياأهل الغربة، السلام عليكم ياأهل الوحشة» ثمّ طال وقوفه.

قال حبّة: فافترشتُ ردائي فجلستُ، ثمّ مللت الجلوس فنهضتُ ثمّ جلستُ، والإمام (عليه السلام) علي وقفة واحدة، فقلتُ: ياأبا الحسن، لقد تعبنا، وقد طالت مناجاتك، فمَنْ تُكلّمُ؟

فقال الإمام (عليه السلام): «اُكلّم هؤلاء، ولو كشفتهم لك لرأيتَهم حلقاً حلقاً علي منابر من نور...».

فالأرواح ـ إذن ـ باقيةٌ كما هي، وإنّما تتلفُ الأبدان، سوي أبدان الأنبياء والأئمّة والأولياء والصالحين، فإنّها تبقي علي حالها.

وقد تناقل شهود عيان صادقون أنْباءً عن وجود جُثث رجال من مشاهير الاُمّة طريّة بالرغم من مرور قرون وعشرات السنين، وأعوام مديدة علي دفنها.

ومن أهمّ آثار زيارة القبور: هي العبرة المستوحاة منها ممّا يخلّد في نفس الزائر آثاراً تربوية عظيمة، فإنّ مشاهدة المقبرة الوادي الذي يضمّ في ثراهُ هذه المجموعة الضخمة من البشر الذين عاشوا يوماً فوق أرضها، ودخلوا حلبة السباق في الحياة، ثمّ هم اليوم في رحلة طويلة إلي الآخرة، وإن فرّقت سابقاً بينهم مظاهر الحياة الدنيا، فهم الآن متساوون، في المسكن والملبس: الغني والفقير والقوي والضعيف، كلّهم سواء لا يملك أحدهم سوي أكفانه، وسوي ما قدّمه من عمل.

إنّ هذا المشهد يهزّ الإنسان المتأمّل من الأعماق، ويكبت جماح الطمع والحرص والشهوة في وجوده، ولو نظر بعين الاعتبار لغيّر سلوكه عندما يرجع إلي معترك الحياة وحلبة السباق، فيجد في نفسه: أنّ الحياة القصيرة التي يعيشها فوق الأرض لابدّ وأن تنتهي إلي هذا المصير العامّ الأبدي، تحت الأرض، حيث الحساب والثواب أو العقاب.

إنّ زيارة القبور للمعتبر تؤدّي بلا ريب إلي رقّة القلب مهما كان قاسياً، فلذلك قال الرسول (صلي الله عليه وآله): «زوروا القبور، فإنّها تذكّركم الآخرة» [3] .


پاورقي

[1] سورة الإسراء (17): الآية (70).

[2] سورة آل عمران (3): الآية (169).

[3] صحيح ابن ماجه (1/113).