بازگشت

فلسفة البكاء


ولو قيل: إنّ الحسين (عليه السلام) قد حقّق الأهداف العظيمة في نهضته، وإحياء ذكراه والتمجيد بذكره أمر ضروري، وهذا ما تؤدّيه المجالس الحسينيّة الفاخرة والزاخرة بكلّ معاني العزّ والتكريم، بل هي مدرسة سيّارة تعلّم المجد والجهاد والكرامة، لكن لماذا هذا البكاء وذرف الدموع، وإظهار الأسي، ومظاهر الحزن والحداد؟ وفي كلّ عام، وعلي مستويً عامّ؟

نقول: إنّ البكاء علي الفقيد، وخاصّة الشهيد، المظلوم، المقتول عطشاً، إنّما هو أمر طبيعي، لمن يملك العواطف، وبالأخصّ لمن يعرف الحسين (عليه السلام)و يكنّ له الحبّ والولاء لأنّه من آل محمّد (عليهم السلام).

وإذا اُصيب إنسان بما اُصيب به الحسين (عليه السلام) حَقَّ للواقف علي أمره أن يحزن له ويتأثّر ويعطف عليه، والبكاء نوعٌ من العطف.

فكيف بالحسين (عليه السلام) و هو سبط الرسول (صلي الله عليه وآله) وابن أمير المؤمنين (عليه السلام)وفلذة كبد الزهراء فاطمة، وهو من قد عرفت حقّه علي الاُمّة.

ثمّ إنّ البكاء أمرٌ له أسبابه ومرجّحات، من وجوه كما يلي:

الوجه الأوّل: وجود الثواب العظيم للبكاء علي الحسين (عليه السلام) ومن معه، تأسّياً، وقد وردت الآثار العديدة عن الرسول والأئمّة (عليهم السلام) تؤكّد قيامهم بالبكاء علي الحسين (عليه السلام) وهي سنّة عملية، تكون للاُمّة قدوة، ولها بهم الاُسوة.

قال علي (عليه السلام) دخلت علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعيناه تفيضان، فقلت: بأبي أنت واُمّي، يارسول الله، ما لعينيك تفضيان، أغضبك أحد؟

قال: لا، ولكن أخبرني جبرئيل: أنّ ولدي الحسين يقتل في أرض كربلاء، وأشمّني من تربته، ولم أملك عينيّ أن فاضتا» [1] .

وكلّما ذكر الرسول (صلي الله عليه وآله) مصيبة الحسين (عليه السلام) بكي، وأبكي من حوله، وهكذا بقي الرسول طول حياته، حتّي الاحتضار، فقد كان مجلس حزن وأسيً ـ لا لقرب وفاة النبي (صلي الله عليه وآله)حسب ـ بل لمصيبة الحسين (عليه السلام)، فلمّا دنت وفاته، واشتدّ به المرض، ضمّ الحسين (عليه السلام) إلي صدره، فكان يسيل من عرقه عليه و هو يجود بنفسه، ويقول: «ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، اللهمّ العن يزيد» ثمّ غُشيَ عليه وأفاق وجعل يقبّل الحسين (عليه السلام) و عيناه تذرفان ويقول: «ألا إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله».

كذلك الزهراء وأمير المؤمنين، والحسن (عليهم السلام)، فإنّهم بكوا علي مصاب أبي عبدالله الحسين.

بل قد عبّر الحسين (عليه السلام) نفسه عن إرتباط قتله بالبكاء والعبرة، فقال: «أنا قتيل العبرة، ما ذكرت عند مؤمن إلاّ استعبر» [2] .

وأمّا بكاء سائر المعصومين (عليهم السلام) لمصاب الحسين (عليه السلام) فقد اشتهر و عرف للجمع، وتحدّثت به الروايات المتظافرة.

ففي الحديث عن زين العابدين السجّاد (عليه السلام) أنّه عاش بعد أبيه الحسين (عليه السلام)أكثر من ثلاثين سنة، وما قدّم بين يديه ـ خلال تلك الفترة الطويلة ـ طعام ولا شراب، إلاّ وتذكّر أباه الحسين (عليه السلام) وبكي، وقال: كيف آكل و قد قتل أبي جائعاً، وكيف أشرب وقد قتل أبي عطشاناً [3] .

وعن الإمام موسي الكاظم (عليه السلام): كان إذا أهلّ عليه شهر المحرّم لا يُري ضاحكاً حتّي تُوَفَّي منه تسعة أيّام، فإذا كان اليوم العاشر منه[ عاشوراء ]كان يوم بكائه ومصيبته وحزنه.

وقال دعبل الخزاعي الشاعر: أنشدت الإمام الرضا (عليه السلام) فبكي، حتّي اُغمي عليه، فأمسكت حتّي أفاق فقال: أنشد يادعبل، فأنشدته فبكي حتّي اُغمي عليه ثانية، وهكذا إلي ثلاث مرّات.

فهؤلاء الأئمّة الأطهار لنا اُسوة حسنة تبعاً لأمر الله تعالي في القرآن.

فالبكاء علي الحسين (عليه السلام) أمر محبوب ومرغّب فيه.

كما أنّ المعصومين (عليهم السلام)رغّبوا في البكاء علي الحسين (عليه السلام) وأمروا شيعتهم بذلك:

فعن الإمام السجّاد (عليه السلام): من قطرت عيناه قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة بَوَّأهُ الله بها في الجنّة غرفاً ـ يسكنها أحقاباً.

وعن مسمع قال لي أبو عبدالله الصادق (عليه السلام): يامسمع، أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟ قلت: لا، أنا رجلٌ مشهور عند أهل البصرة ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند الخليفة.

قال (عليه السلام): أما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم.

قال (عليه السلام): فتجزع؟ قلت: إي ـ والله ـ وأستعبر لذلك، حتّي يري أهلي أثر ذلك، فأمتنع من الطعام حتّي يتبيّن ذلك في وجهي.

قال (عليه السلام): رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعدّون في أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، أما إنّك ستري عند موتك حضور آبائي لك، ووصيّتهم ملك الموت بك ما تقرّ به عينك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الاُمّ الشفيقة علي ولدها.

الوجه الثاني: تعظيم الشعائر الحسينية وتكريم مقامه (عليه السلام) وتعريفه للملأ العامّ، بإظهار الحزن، والتباكي والبكاء بشدّة وبقوّة، هو من تعظيم الحسين (عليه السلام)نفسه.

قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «ميّت لا بواكي عليه، لا إعزاز له» [4] .

وهذا أمر طبيعي، فإنّه يكشف عن مقام الفقيد، وأثره الحسن في المجتمع الذي سوف يفقد ذلك الأثر بفقدان ذلك الشخص، وكلّما عظم الفقيد أثراً في مجتمعه عظم مقامه عند الناس، وعظم تأثّرهم بفقدانه.

ولذا غضب النبي (صلي الله عليه وآله) لمّا سمع الأنصار يبكون علي قتلاهم من الصحابة، ولم يسمع لعمّه حمزة من ينعاه، وكان ذلك بعد رجوع المسلمين من معركة «اُحد» فقال النبي (صلي الله عليه وآله)متأثّراً: «ولكن حمزة لا بواكي له» فلمّا سمع الصحابة من الأنصار قوله (صلي الله عليه وآله) بعثوا إلي دار حمزة من ينعاه ويبكي عليه، وكانوا إذا ذكروا قتلاهم، قدّموا ذكر حمزة ونعيه، فلمّا بلغ هذا رسول الله (صلي الله عليه وآله) فرح شديداً وقال: «علي مثل حمزة فلتبك البواكي» [5] .

وقد أوحي الله أنّ مَنْ لا قيمة معنوية له لا يبكي عليه، في قوله تعالي: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون - وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم - وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [6] .

إنّ موتهم لم يخلّف حزناً ولا أثّر في قلب أحد ممّن حولهم، ولا أوجد فقدهم فراغاً في الحياة بعدهم، وهذا دليل علي هوانهم وحقارتهم وانعدام شخصيتهم بين الناس، رغم ملكهم وسطوتهم وقوّتهم، وسيطرتهم علي رقاب الناس.

فمثل هؤلاء: لا يبكي عليهم.

وقد سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): ما هو حسن الخُلُق ياأمير المؤمنين؟

فقال: هو أن تُعاشروا الناس معاشرة، إن عشتم حنّوا إليكم وإن مُتم بكوا عليكم».

فظاهرة البكاء، إنّما هو تعبير طبيعي عن مكارم الفقيد وأثره المرفوع بفقده، وحسناته التي أصبحت لا تُنال اليوم بعد موته.


پاورقي

[1] خصائص الحسين (ص152).

[2] فضل زيارة الحسين (عليه السلام) للعلوي.

[3] بحار الأنوار (ج46 ص108).

[4] خصائص الحسين (ص128).

[5] لاحظ السيرة النبوية.

[6] سورة الدخان (44): الآيات (25 ـ 29).