بازگشت

عاشوراء


وهذا الاسم له شأنٌ قديم في حضارة الأديان، حيث أنّ له أصلا دينيّاً، فقد كان العرب في الجاهليّة يقدّسونه ويعظّمونه ويتّخذونه يوم صوم وعبادة.

وجاء الإسلام ليقرّر قدسيّته، فأوجب فيه الصيام في بدء الدعوة، ثمَّ نسخ صومه بصيام شهر رمضان.

ولكن بقي عاشوراء يوماً معظّماً [1] ، ويُنظر إليه بعين الحُرْمة، مضافاً إلي ما لشهر المحرّم من الحرمة السابقة التي أقرّها الإسلام في آية الأشهر الحُرُم.

ونظرة إلي الحديث الشريف [2] الوارد في شأن «عاشوراء» تُعطينا القناعة التامّة بعظمة هذا اليوم في ثقافة المتديّنين بمختلف الديانات الإلهيّة، وكذلك في ثقافة العرب الجاهليّين قبل الإسلام، والتي أقرّها الإسلام كذلك.

وعن الرُبيّع بنت معوّذ قالت: أرسل النبي (صلي الله عليه وآله) غداة عاشوراء إلي قري الأنصار: «من أصبح مفطراً فليتمّ يومه، ومن أصبح صائماً فليصم» قالت: فكنّا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة... حتّي يكون الإفطار [3] .

هذه بعض معالم «عاشوراء» في تاريخ الأنبياء، وفي التراث الإسلامي ولو أضفنا إلي ذلك ما ورد عن الحسين (عليه السلام) ويوم كربلاء من أخبار السماء، ودلائل نبوّة خاتم الأنبياء [4] ، لارتبط ماضي هذا اليوم بمستقبله، حيث كان في مثل هذا اليوم من عام (61) للهجرة، وقعة الطفّ الرهيبة، علي يَد بني اُميّة وعمّالهم، وهم الذين ارتدّوا علي أعقابهم، وتجاوزوا حتّي سنن الجاهليّة، فاعتدوا علي حرمة الشهر الحرام المحرّم، وعلي حرمة عاشوراء، وانتهكوا فيه حرمة الأعراف والأديان، وحرمة القرآن والرسول، بقتلهم الحسين (عليه السلام)، فظهرت «عاشوراء» بوجهها الحقيقي يوماً علي آل الرسول عظيماً، وانكشفت أسراره التي عظّمه الأنبياء من أجلها، وهو مصاب الحسين (عليه السلام) الذي أبكاهم من آدم أبي البشر، وحتّي النبي الخاتم (صلي الله عليه وآله).

وتوغّل آل اُميّة في العدوان علي هذا اليوم، فقلبوه من يوم عبادة وخشية، ومن أيّام الله المقدّسة، إلي يوم عيد وفرح وسرور. لقتلهم الحسين (عليه السلام)فيه.

وتعدّوا علي الشريعة، حيث وضعوا أحاديث في استحباب صومه فرحاً، وجعلوا «عاشوراء» عيداً، لم ينزل الله به من سلطان إلاّ رغبة اليهود، في التشفّي بقتل سبط رسول الإسلام.

والصومُ عبادة إلهيّة تدلّ علي الإيمان والخشية والشكر علي النعم، ومقتضاها التوجّه التامّ والإخلاص، وقد رفع الله الصوم عن أيّام العيد وحرّمه فيها، لأنّ العيد يوم فرح وأكل وسرور، والصوم يتنافي مع هذه الأحوال.

وقال المجد اللغوي: ما يروي في فضل يوم عاشوراء والصلاة فيه والإنفاق والخضاب والادّهان والاكتحال، بدعة ابتدعها قتلة الحسين (رضي الله عنه). وفي الغنية للحنفيّ: الاكتحال يوم عاشوراء لمّا صار علامة لبغض أهل البيت وجب تركه.

وقال العجلوني: من الأحاديث الموضوعة: أحاديث الاكتحال والادّهان والتطيّب، يوم عاشوراء، فمن فعل ذلك فيه معتقداً السُنّة، مظهراً للفرح والسُرور، فهو مُبتدعٌ.

والمؤمنون، الذين قرأوا في القرآن عن حرمة الشهر، وفي السنّة عن حرمة عاشوراء، ووجدوا أعمال بني اُميّة يندي لها الجبينُ، حيث قاموا بأبشع جريمة عرفها التاريخ البشري، وسفكوا فيه أقدس الدماء الطاهرة، وقتلوا فيه «الحسين (عليه السلام)» أشرف الذوات، وذبحوا فيه حتّي الأطفال، ومثّلوا بجثث الشهداء، وأحرقوا الخيام علي أهلها، وداسوا الجثث الطواهر بحوافر الخيول.

هؤلاء المؤمنون، لمّا قارنوا بين تلك النصوص، وبين تلك الردّة، واجهوها بالالتزام بقدسيّة «عاشوراء» وأنّه يومٌ عظيم قتل فيه الحسين (عليه السلام)بأبشع شكل، وبأيدي مَنْ يزعم أنّه من العرب المسلمين، وهو يقتل سيّد العرب والمسلمين في عصره.

فالتزموا بيوم عاشوراء يوم حداد وأسيً وجعلوا لذكري عاشوراء مناسبة دينيّة عميقة التأثير في النفوس، يُكرّمون فيه الأبطال الذين أقدموا علي صُنع أقسي ملحمة في التاريخ، وتحمّلوا أشدّ الآلام من أجل أهدافهم السامية في الدفاع عن الحقّ والصبر علي حفظه، والتواصي به.

فكانت المجالس الحسينيّة الكريمة التي تقام باسم «عاشوراء» وصانعي ذكراها، من أهمّ النتائج المستوحاة منها، وأوضح الآثار القيّمة لها.

فإذا كانت الشعوب إنّما تحتفل بذكري ثوراتهم الوطنية، وتفتخر بأمجاد أبطالهم الثوّار والعظماء والقادة المخلصين، وينصبون لهم التماثيل، ويرفعون لهم الصور، تخليداً لذكراهم وأداءً لحقّ ما قدّموه للوطن والاُمّة، من خدمات وتضحيّات، ولولا هذه الإشادات والخدمات: لماتت روح التضحية والعمل والجدّ في نفوس الناس، ولسادت روح الأنانية والفردية.

فإذا كانت الشعوب تقوم هكذا، فإنّ الحسين (عليه السلام) أولي وأجدرُ وأحقُّ بأن يعلن عن مواقفه يوم عاشوراء، في كلّ زمان ومكان، بإقامة المجالس الحسينية، وبزيارة الحسين (عليه السلام)يوم عاشوراء، وفي كلّ يوم ومقام ومنقلب ومثوي.

وقد أكّد الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) علي إقامة المجالس الحسينية، وإليك بعض نصوصهم:

فعن الصادق (عليه السلام) «من جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».

وعن جعفر بن عفّان قال: قال لي الإمام الصادق (عليه السلام): «بلغني أنّك تقول في الحسين (عليه السلام) وتُجيد؟ قلت: نعم.

قال: قل، فأنشدته، فبكي ومَنْ حوله حتّي صارت الدموع علي وجهه ولحيته، ثمّ قال (عليه السلام) «ياجعفر، والله، لقد شهدت ملائكة الله المقرّبين هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام)ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله تعالي لك، ياجعفر، في ساعته الجنّة بأسرها، غفر الله لك.

فقال: ياجعفر ألا اُزيدك.

قلتُ: نعم، ياسيّدي.

قال: ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) فبكي أو أبكي إلاّ وأوجب الله له الجنّة وغفر له».


پاورقي

[1] نعم يستحب صومه علي وجه الحزن والمصيبة کما عن الشيخ في المبسوط (1/282)، والمحقّق في المختصر النافع (ص71)، والعلاّمة في القواعد (1/68).

[2] ألّف ابن شاهين کتاباً في فضائل يوم (عاشوراء) نقل عنه القرطبي في تفسيره.

[3] أخرجه البخاري، کتاب الصوم، باب (46) صوم الصبيان، رقم 1859، وأخرجه مسلم في الصيام، باب من أکل في عاشوراء رقم: 1136.

[4] راجع دلائل النبوّة للبيهقي.