بازگشت

في تحقيق الأربعين و ما يلائمه و رجوع سبايا البتول الي مدينة الرسول


روي السيد في كتاب الاقبال باسناده الي الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة احدي و خمسين، و زيارة الأربعين، و التختم في اليمين، و تعفير الجبين، و الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

ثم اعترض علي نفسه بأنه كيف يكون يوم العشرين من صفر يوم الأربعين و قد قتل يوم عاشوراء، بل يصير أحدا و أربعين بدخوله؟ و أجاب بجوابين: الأول:


أن شهر محرم كان ناقصا، و يكون يوم العشرين تمام الأربعين. و حاصل الثاني: أن قتله عليه السلام لما كان في آخر العاشر لم يحسب يوم قتله عليه السلام من جملة الأربعين [1] .

أقول: البيان الأوفي في الجواب: أن الروايات الواردة في زيارته عليه السلام: بعضها واردة بلفظ الأربعين، و بعضها بلفظ يوم العشرين من صفر، و الظاهر كونهما واحدا لاتفاقهما معا غالبا، لكن قد يتفارقان، فينبغي أن يكون ابهامهم عليهم السلام الأمر، و عدم بيانهم في موضع الحاجة للمسامحة و البناء علي الغالب، و هو اكمال محرم و عدم حسبان العاشر من جملة الأربعين.

أما اكمال محرم غالبا، فلما روي في الكافي و التهذيب و غيرهما في كتاب الصوم، عن أبي عبدالله عليه السلام ما حاصله: أن شعبان لا يتم أبدا، و رمضان لا ينقص أبدا، الي أن قال: و المحرم ثلاثون يوما [2] .

و أما عدم حسبان العاشر، فلكون شهادته عليه السلام في آخر اليوم بعد مضي عامته، و ببيان آخر: أنهم لما نهونا عما سكتوا عن بيانه بقولهم عليه السلام «اسكتوا عما سكت الله و رسوله عنه» ينبغي الاقتصار فيما سكتوا علي العمل بالشائع الكثير الوقوع، و هو هنا يوم العشرين من صفر، لما عرفت من أن الغالب كمال المحرم و عدم احتساب يوم القتل، و لهذا شاع العمل بزيارة الأربعين فيه.

ثم قال رحمه الله في الكتاب المزبور: وجدت في المصباح أن حرم الحسين عليه السلام و صلوا المدينة مع مولانا علي بن الحسين عليهماالسلام يوم العشرين من صفر، و في غير المصباح أنهم وصلوا كربلاء أيضا في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر.

و كلاهما مستبعدان؛ لأن عبيدالله بن زياد كتب الي يزيد يعرفه ما جري، و يستأذنه في حملهم، و لم يحملهم حتي عاد الجواب اليه، و هذا يحتاج الي نحو عشرين يوما و أكثر منها.

و لأنه لما حملهم الي الشام، روي أنهم أقاموا فيها شهرا في موضع لا يكنهم


من حر و لا برد، و صورة الحال يقتضي أنهم تأخروا أكثر من أربعين يوما من يوم قتله عليه السلام، الي أن وصلوا العراق أو المدينة.

و أما جوازهم في عودهم علي كربلا، فيمكن ذلك، و لكنه ما يكون وصولهم اليها يوم العشرين من صفر؛ لأنهم اجتمعوا علي ما روي مع جابر بن عبدالله الأنصاري، فان كان جابر وصل زائرا من الحجاز، فيحتاج وصول الخبر اليه و مجيئه الي أكثر من أربعين يوما، أو علي أن يكون وصل جابر من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها [3] .

أقول: غاية ما قال رحمه الله بعد تسليمه محض استبعاد: و لا ينبغي بمحضه انكار الروايات، فانا سمعنا من الموثقين قرب الكوفة من دمشق بما قد يتيسر للبريد أن يسير بثلاثة أيام، و لا سيما للولاة و الحكام بالجور، و سيما مثل هذا الخبر الميشوم الذي هو عيد للشاميين، و مدة مقامهم في دمشق علي ما في المنتخب لا يعلم كونها زائدة علي ثمانية أيام تقريبا، و لم نظفر علي رواية دلت علي مقامهم فيها مدة شهر والله يعلم، و أيضا قد يذهب الحمام بالمكاتيب بأسرع من ذلك.

و استبعاد مجي ء جابر من أرض الحجاز أبعد من هذا، لما روي أن أباحنيفة [4] رأي هلال ذي الحجة بالكوفة أو بغداد و ورد مكة و حج في تلك السنة، و لأن أخبار نواعيه عليه السلام من الجن و الطير و انقلاب التربة دما و غير ذلك أكثر من أن يخفي علي أمثال جابر، كما مضي بعضه، والله أعلم بحقيقة الحال، و التسليم لنا خير للمآل.

في المنتخب: لما كان اليوم الثامن - أي: من الأيام التي ناحوا فيها علي الحسين عليه السلام - دعاهن يزيد، و عرض عليهن المقام، فأبين و أردن الرجوع الي المدينة، فأحضر لهم المحامل و زينها، و أمر بانطاع الأبريسم و صبت عليها الأموال، و قال: يا ام كلثوم خذوا هذا المال عوض ما أصابكم، فقالت ام كلثوم: يا يزيد ما أقل حياءك، و أصلف وجهك، تقتل أخي و أهل بيتي، و تعطيني عوضهم مالا، والله


لا كان ذلك أبدا [5] .

أقول: عند عرفت مما في الفصل السابق و مما ذكر هنا، أن علة الأمر بالزيارة في الأربعين: اما وصول رأس الحسين عليه السلام الي جسده الشريف فيه، أو وصولهم مع من كان مع جابر الي زيارته عليه السلام فيه، و لو لم يكن ما ذكر علة تامة فلا ضير لأمرهم عليهم السلام بالزيارة، و ان لم يكن سر الأمر و علته معلوما، و انما نحن من المسلمين هذا.

و لكن لشيخنا البهائي قول بزيارة الحسين عليه السلام في تاسع عشر صفر، و فيه غرابة، فقال في رسالة له في معرفة شهور السنة ما هذه عبارته: التاسع عشر فيه زيارة الأربعين لأبي عبدالله الحسين عليه السلام، و هي مروية عن الصادق عليه السلام، و وقتها عند ارتفاع النهار، و في هذا اليوم و هو يوم الأربعين من شهادته عليه السلام كان قدوم جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه لزيارته عليه السلام، و اتفق في ذلك اليوم ورود حرمه عليه السلام من الشام الي كربلا قاصدين المدينة علي ساكنها السلام و التحية [6] . انتهي.

و في كتاب بشارة المصطفي لشيعة المرتضي، تأليف محمد بن أبي القاسم الطبري، عن الأعمش، عن عطية العوفي، قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري زائرا قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلا دنا جابر من شاطي ء الفرات، فاغتسل ثم اتزر بازار، و ارتدي بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها علي بدنه، ثم لم يخط خطوة الا ذكر الله، حتي اذا دنا من القبر، قال: ألمسنية، فألمسته، فخر علي القبر مغشيا عليه، فرششت عليه شيئا من الماء، فلما، أفاق، قال: يا حسين ثلاثا، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيه.

ثم قال: و أني لك بالجواب، و قد شحطت أوداجك علي أثباجك، و فرق بين بدنك و رأسك، فاشهد أنك ابن خير النبيين، و ابن سيد المؤمنين، و ابن حليف التقوي، و سليل الهدي، و خامس أصحاب الكساء، و ابن سيد النقباء، و ابن فاطمة


سيدة النساء، و مالك لا تكون هكذا؟ و قد غذتك كف سيد المرسلين، و ربيت في حجر المتقين، و رضعت من ثدي الايمان، و فطمت بالاسلام، فطبت حيا و طبت ميتا، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، و لا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله و رضوانه، و أشهد أنك مضيت علي ما مضي عليه أخوك يحيي بن زكريا.

ثم جال ببصره حول القبر، و قال: السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء قبر الحسين، و أناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، و آتيتم الزكاة، و أمرتم بالمعروف، و نهيتم عن المنكر، و جاهدتم الملحدين، و عبدتم الله حتي أتاكم اليقين، والذي بعث محمدا بالحق نبيا لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطية: فقلت لجابر: فكيف؟ و لم نهبط واديا، و لم نعل جبلا، و لم نضرب بسيف، و القوم قد فرق بين رؤوسهم و أبدانهم، و اوتمت أولادهم، و أرملت الأزواج؟

فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: من أحب قوما حشر معهم، و من أحب عمل قوم اشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق ان نيتي و نية أصحابي جميعا علي ما مضي عليه الحسين عليه السلام و أصحابه الحديث [7] .

قال السيد في اللهوف: و لما رجعت نساء الحسين عليه السلام و عياله من الشام، و بلغوا الي العراق، قالوا للدليل: مر بنا علي طريق كربلا، فوصلوا الي موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبدالله الأنصاري، و جماعة من بني هاشم، و رجالا من آل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فتوافوا في وقت واحد، و لاقوا بالبكاء و الحزن و اللطم، و أقاموا المآتم المقرحة للأكباد، و اجتمعت اليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا عيل ذلك أياما.

فروي عن أبي حباب الكلبي، قال: حدثنا الجصاصون، قالوا: كنا نخرج الي الجبانة في الليل عند مقتل الحسين عليه السلام، فنسمع الجن ينوحون عليه، فيقولون:



مسح الرسول جبينه

فله بريق في الخدود



أبواه من عليا قريش

و جده خير الجدود




قال: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة، قال بشير بن جذلم: فلما قربنا المدينة، نزل علي بن الحسين عليهماالسلام، فحط رحله، و ضرب فسطاطه، و أنزل نساءه، و قال: يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعرا، فهل تقدر علي شي ء منه، فقلت: بلي يابن رسول الله اني لشاعر، قال: فادخل المدينة وانع أباعبدالله عليه السلام، قال بشير فركبت فرسي، و ركضت حتي دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي صلي الله عليه و آله و سلم رفعت صوتي بالبكاء، و أنشأت أقول:



يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار



الجسم منه بكربلاء مضرج

و الرأس منه علي القناة يدار



قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين عليه السلام مع عماته و أخواته، قد حلوا بساحتكم، و نزلوا بفنائكم، و أنا رسوله اليكم، اعرفكم مكانه، قال: فما بقيت بالمدينة مخدرة و لا محجبة الا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعين بالويل و الثبور، فلم أر باكيا و لا باكية أكثر من ذلك اليوم، و لا يوما أمر علي المسلمين منه، و سمعت جارية تنوح علي الحسين عليه السلام فتقول:



نعي سيدي ناع نعاه فأوجعا

و أمرضني ناع نعاه فأفجعا



فعيني جودا بالدموع و أسكبا

وجودا بدمع بعد دمعكما معا



علي من دهي عرش الجليل فزعزعا

فأصبح هذا المجد و الدين اجدعا



علي ابن نبي الله و ابن وصيه

و ان كان عنا شاخص الدار أشسعا



ثم قالت: أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبدالله عليه السلام، و خدشت منا قروحا لما تندمل، فمن أنت يرحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن جذلم، و جهني مولاي علي ابن الحسين عليه السلام و هو نازل من موضع كذا و كذا مع عيال أبي عبدالله الحسين عليه السلام و نسائه.

قال: فتركوني مكاني و بادروا، فضربت فرسي حتي رجعت اليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطريق و المواضع، فنزلت عن فرسي و تخطأت رقاب الناس، حتي قربت من باب الفسطاط، و كان علي بن الحسين عليه السلام داخلا، فخرج و معه خرقة يمسح بها دموعه، و خلفه خادم و معه كرسي، فوضعه له و جلس عليه، و هو


لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء، و حنين النسوان و الجواري، و الناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم.

فقال عليه السلام: الحمدلله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، باري ء الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السماوات العلي، و قرب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الامور، و فجائع الدهور، و ألم الفجائع، و مضاضة اللواذع، و جليل الرزء، و عظيم المصائب الفاظعة، الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم ان الله و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، و ثلمة في الاسلام عظيمة، قتل أبوعبدالله عليه السلام و عترته، و سبي نساؤه و صبيته، و داروا برأسه في البلدان من فوق عالي [8] السنان، و هذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها و تضن عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، و بكت البحار بأمواجها و السماوات بأركانها، و الأرض بأرجائها، و الأشجار بأغصانها، و الحيتان في لجج البحار، و الملائكة المقربون و أهل السماوات أجمعون.

أيها الناس أي قلب لا يتصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن اليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام.

أيها الناس أصبحنا مطردين، مشردين، مذودين، شاسعين عن الأمصار، كأنا أولاد ترك و كابل، من غير جرم اجترمناه، و لا مكروه ارتكبناه، و لا ثلمة في الاسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، ان هذا الا اختلاق.

فو الله لو أن النبي تقدم اليهم في قتالنا، كما تقدم اليهم في الوصاءة بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا، فانا لله و انا اليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، و أوجعها و أفجعها، و أكظها و أفظعها، و أمرها و أفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا و بلغ بنا، انه عزيز ذو انتقام.

قال: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان، و كان زمنا فاعتذر اليه بما عنده


من زمانة رجليه، فأجابه بقبول معذرته، و حسن الظن فيه، و شكر له، و ترحم علي أبيه [9] .

أقول: ثم انه عليه السلام رحل الي المدينة، ثم الي الروضة البهية، فلو نظرت الي انكساره و ملالته، و رأيت اكتيابه في جلالته، شاكيا في حضرة جده موجدته، ناعيا أباه و سليلته، ساكبا دموعه و عبرته، شاقا رثه و طمرته [10] ، باثا حزنه و زفرته، فكانت تبكي عليه محاريب المساجد، و تندب لديه مباني القواعد، لشجاك سماع تلك الواعية، و دهاك رزؤتيك الداهية.

فكأني بالنبي الرؤوف و الوالد العطوف، لصوته راحما، و لتضرعه سامعا، و لزفرته حزينا، و لدعوته مجيبا: يا مهجة قلبي، و يا لحمة صدري، ما فعل بأبيك فرخ المرتضي؟ ما صنع بوالدك بضعة الزهراء؟ أين خامس آل العباء؟ أين باقي أصحاب الكساء؟ أين ابن مكة و مني؟ أين ابن زمزم و الصفا؟

عزيز علي جده أن يري الوري و لا يسمع له حسيس و لا نجوي، عزيز علي جده أن يكون عطشانا فلا يروي، و يحيط به من كل جهة البلوي، عزيز علي امه نظرت بالحسرة الي بناته العطشي، و سكب دمعته علي ذراريه القتلي، عزيز علي امه التفاته يمينا و شمالا لا يري الا العدي، و رمقه بعينه الي عترته بلا حمي، عزيز علي أبيه أن يلحظ ذريته الضاجين بالشكوي، و يرمق عشيرته العاجين للداهية الدهماء.

عزيز علي أبيه أن يكون وحيدا في العري، و يستغيث و يخذله الوري، عزيز علي أبيه أن يستعين و لا يعينه الملأ، و لا يكون له اليه سبيل ينتهي، عزيز علي أبيه أن تنكسر سفينته في الدهماء، و يسيل من أعضائه الدماء، و يكون جريحا لا يتداوي.

فلما رجعوا الي بيوتهم الخاوية، و دورهم الخالية، و مساكنهم النادبة، فكأني بالدور تندب بلسان الحال، و تنوح بتسكاب الدموع علي الارتحال، و تتأوه


كالثواكل، و تتحنن علي المصائب و النوازل، و تصرخ كالصوائح، و تضج علي فقد النوازح، و تعج لمصارع الحاميات، و تأن علي طموس آثار الكافلات، و كأنها تقول: واحزناه علي شماته ما يحسدني من الديار، و واقلقاه، علي اضمحلال ما بي من الشرف علي الكوكب السيار، و يا شوقاه الي سرج أنور من الصباح، و يا حباه الي أضواء أغنت من المصباح.

كم أناروا باشراق مآثرهم ظلمتي، و كم آنسوا باسماع دعواتهم وحشتي، كم رتقوا بلطيف مواساتهم فتقي، و كم ألتذ بلذيذ مناجاتهم سمعي، و ليس هذا بأعجب العجاب، لافتقادها لب اللباب، بل التعجب منعكس من أنه كيف هدأت عن العويل و البكاء؟ و قد عزت عليه فقدان الأعزاء، و كيف صبرت علي القذي و الشجي؟ و قد غاب عنها سلطان كربلا.

و كما أنه تنوح عليه بقاع الأرض، تبكي عليه عيون الفرض، الصلاة تعانق الزكاة بالبكاء، و الصوم يوافق الحج في النداء، و كلها تنادي الاخري بالعويلاء، و تتحنن عيونها الي البكاء، و تجود متشربه بالماء، و تنتحب كالثاكلات لفقد العزاء، و تتلظي لعطشان ذابلة الشفاة، و تأن علي افتقاده كالأيامي.

و هكذا الحال الي أن مضي الضجيج من المحاريب، و سال ماء العيون من الموازيب، الي أن وصل ماء الأجيج الي مني، ثم الي زمزم و الصفا، فساعدها كل علي النوح و البكاء، و لان من رنينهم أهل الأرض و السماء، فبثوا بثهم و حزنهم الي الاله، و غشي الرنة و الضجة سدرة المنتهي، و ثارت الوحشة في الجنة المأوي، و زاغ البصر و قد طغي، لما رأي تيك الرزية الكبري، و نتاج ما أحبله اللات و العزي و مناة الثالثة الاخري، ثم اختطاف الأشقي الذي كذب و تولي فذهب الي أهله يتمطي، أولي له فأولي، ثم أولي له فأولي أيحسب الانسان أن يترك سدي، أم للانسان ما تمني، فله الحسني، و لله السوءآي، تلك اذا قسمة ضيزي، بل لله الآخرة و الاولي، و سيصليه نارا تلظي، و لله در من قال:



وقفت علي دار النبي محمد

فألفيتها قد أقفرت عرصاتها



و أمست خلاء من تلاوة قاري ء

و عطل منها صومها و صلاتها






و كانت ملاذا للأنام و جنة

من الخطب يغشي المعتفين صلاتها [11] .



فأقوت من السادات من آل هاشم

و لم يجتمع بعد الحسين شتاتها



فعيني لقتل السبط عبري ولوعتي

علي فقدهم ما تنقضي زفراتها



فيا كبدي كم تصبرين علي الأذي

أما آن تفني اذا حسراتها



في كامل الزيارات: أبي و جماعة من مشايخي، عن سعد، عن ابن أبي الخطاب، عن أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال بكي علي بن الحسين علي الحسين بن علي عليهماالسلام عشرين سنة، أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام الا بكي، حتي قال مولي له: جعلت فداك اني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: انما أشكو بثي و حزني الي الله، و أعلم من الله ما لا تعلمون، اني لم أذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني العبرة لذلك [12] .

و فيه محمد بن جعفر، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن اسماعيل بن منصور، عن بعض أصحابنا، قال: أشرف مولي لعلي بن الحسين عليهماالسلام و هو في سقيفة له ساجد يبكي، فقاله له: يا علي بن الحسين أما آن لحزنك ان ينقضي؟ فرفع رأسه اليه، فقال: ويلك أو ثكلتك امك، والله لقد شكي يعقوب الي ربه في أقل مما رأيت حين قال: (يا أسفي علي يوسف) [13] و انه فقد ابنا واحدا، و أنا رأيت أبي و جماعة أهل بيتي يذبحون حولي.

قال: و كان علي بن الحسين عليهماالسلام يميل الي ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل الي بني عمك هؤلاء دون آل جعفر؟ فقال: اني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين ابن علي عليهماالسلام فأرق لهم [14] .

قال السيد و الشيخ في المنتخب و ملخصهما: أنه روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ان زين العابدين عليه السلام كان مع علمه و صبره شديد الجزع و الشكوي لهذه


المصيبة و البلوي، و أنه عليه السلام بكي علي أبيه أربعين سنة بدمع مسفوح، و قلب مقروح، صائما نهاره، قائما ليله، فاذا حضر الافطار جاء غلامه بطعامه و شرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول: واأباه أآكل و قتل ابن رسول الله جائعا، أأشرب و قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك و يبكي حتي يبتل طعامه من دموعه، و يمزج شرابه بدموعه، فاذا أفاق أكل قليلا، و حمد الله كثيرا، و قام الي عبادة ربه، و أصبح صائما، و لم يزل هكذا حتي لحق بالله عزوجل.

قال: و حدث مولي له عليه السلام أنه بزر يوما الي الصحراء، قال: فتبعته فوجدته قد سجد علي حجارة خشنة، فوقفت و أنا أسمع شهيقه و بكاءه، و أحصيت عليه ألف مرة و هو يقول: لا اله الا الله حقا حقا، لا اله الا الله تعبدا و رقا، لا اله الا الله ايمانا و صدقا، ثم رفع رأسه من سجوده، و ان لحيته و وجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه.

فقلت: يا سيدي ما آن لحزنك أن ينقضي، و لبكائك أن يقل؟

فقال لي: ويحك ان يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليه السلام كان نبيا ابن نبي له اثنا عشر ابنا، فغيب الله واحدا منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، و ذهب بصره من البكاء، و ابنه حي في دار الدنيا، و أنا رأيت أبي و أخي و سبعة عشر من أهل بيتي مصرعين مقتولين، فكيف ينقضي حزني و يقل بكائي [15] .

قال الفاضل: و في مصباح المتهجد: كان له خريطة فيها تربة الحسين عليه السلام و كان لا يسجد الا علي التراب [16] .

و فيه: و من ندبه ما روي الزهري: يا نفس حتام الي الحياة سكونك، والي الدنيا و عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضي من أسلافك، و من وارته الأرض من الافك، و من فجعت به من اخوانك:



فهم في بطون الأرض بعد ظهورها

محاسنهم فيها بوال دواثر



خلت دورهم منهم و أقوت عراصهم

و ساقتهم نحو المنايا المقادر






و خلوا عن الدنيا و ما جمعوا لها

و ضمتهم تحت التراب الحفائر [17] .



أقول: و قد روي أنه عليه السلام اعتزل الناس و بني بالبادية مدة من الدهر، و كان يرحل أحيانا الي زيارة جده أميرالمؤمنين و أبيه عليهم السلام.

و في المنتخب: و أما ام كلثوم، فحين توجهت الي المدينة، جعلت تبكي و تقول بحزن و بكاء و ثبور:



مدينة جدنا لا تقبلينا

فبالحسرات و الأحزان جئنا



ألا فاخبر رسول الله عنا

بأنا قد فجعنا في أخينا



و أخبر جدنا انا اسرنا

و بعد الأسر يا جدا سبينا



و رهطك يا رسول الله أضحوا

عرايا بالطفوف مسلبينا



و قد ذبحوا الحسين و لم يراعوا

جنابك يا رسول الله فينا



فلو نظرت عيونك للاساري

علي أقتاب الجمال محملينا



رسول الله بعد الصون صارت

عيون الناس ناظرة الينا



و كنت تحوطنا حتي تولت

عيونك ثارت الأعداء علينا



أفاطم لو نظرت الي السبايا

بناتك في البلاد مشتتينا



أفاطم لو نظرت الي الحياري

و لو أبصرت زين العابدينا



أفاطم لا لقيت من عداك

و لا قيراط مما قد لقينا



فلو دامت حياتك لم تزالي

الي يوم القيامة تندبينا



و عرج بالبقيع وقف و ناد

أأين حبيب رب العالمينا



و قل يا عم يا الحسن الزكي

عيال أخيك أضحوا ضائعينا



أيا عماه ان أخاك أضحي

بعيدا عنك بالرمضاء رهينا



بلا رأس تنوح عليه جهرا

طيور و الوحوش الموحشينا



و لو عاينت يا مولاي ساقوا

حريما لا يجدن لهم معينا



علي متن النياق بلا وطاء

و شاهدت العيال مكشفينا



مدينة جدنا لا تقبلينا

فبالحسرات و الأحزان جئنا






خرجنا منك بالأهلين جمعا

رجعنا لا رجال و لا بنينا



و كنا في الخروج بجمع شمل

رجعنا حاسرين مسلبينا



و كنا في أمان الله جهرا

رجعنا بالقطيعة خائفينا



و مولانا الحسين لنا أنيس

رجعنا و الحسين به رهينا



فنحن الضائعات بلا كفيل

و نحن النائحات علي أخينا



و نحن السائرات علي المطايا

نشال علي جمال المبغضينا



و نحن بنات يس و طه

و نحن الباكيات علي أبينا



و نحن الطاهرات بلا خفاء

و نحن المخلصون المصطفونا



و نحن الصابرات علي البلايا

و نحن الصادقون الناصحونا



ألا يا جدنا قتلوا حسينا

و لم يرعوا جناب الله فينا



ألا يا جدنا بلغت عدانا

مناها و اشتفي الأعداء فينا



لقد هتكوا النساء و حملوها

علي الأقتاب قهرا أجمعينا



و زينب أخرجوها من خباها

و فاطم واله تبدي الأنينا



سكينة تشتكي من حر و جد

تنادي الغوث رب العالمينا



و زين العابدين بقيد ذل

و راموا قتله أهل الخؤونا



فبعدهم علي الدنيا تراب

فكأس الموت فيها قد سقينا



و هذا قصتي مع شرح حالي

ألا يا سامعون ابكوا علينا



قال الراوي: و أما زينب: فأخذت بعضادتي باب المسجد و نادت: يا جداه اني ناعية اليك أخي الحسين عليه السلام، و هي مع ذلك لا تجف لها عبرة من البكاء، و لا تفتر من البكاء و النحيب، و كلما نظرت الي علي بن الحسين تجدد حزنها، و زاد وجدها [18] .



پاورقي

[1] الاقبال ص 589، و البحار 335: 101.

[2] فروع الکافي 78: 4 ح 2، و التهذيب 172: 4.

[3] الاقبال ص 589، و البحار 336 -335: 101 عنه.

[4] هو السائق للحاج لا الذي هو أحد الأئمة الأربعة «منه».

[5] المنتخب ص 483 -482.

[6] توضيح المقاصد للشيخ البهائي ص 519 -518.

[7] بشارة المصطفي لشيعة المرتضي ص 75 -74.

[8] في اللهوف: عامل.

[9] اللهوف ص 89 -86، و البحار 149 -146: 45.

[10] الطمر بالکسر: الثوب الخلق أو الکساء البالي من غير صوف. القاموس.

[11] قوله «المعتفين» أي الطالبين للعفو و الصلة، کما في قوله تعالي «خذ العفو» و العافي کل طالب خير أو رزق کالمعتفي «منه».

[12] کامل الزيارات ص 107، و البحار 110 -109:46 ح 3 عنه.

[13] يوسف: 84.

[14] کامل الزيارات ص 107، و البحار 110: 46 ح 4 عنه.

[15] اللهوف ص 93 - 92، و البحار 149: 45، و المنتخب ص 487.

[16] البحار 79: 46 عنه.

[17] البحار 83 -82: 46.

[18] المنتخب للطريحي ص 486 -484.