بازگشت

في شهادة مسلم بن عقيل و ولديه و ما سنح في تلك الحال


روي المفيد أنه لما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية، فأرجفوا بيزيد، و عرفوا خبر الحسين عليه السلام، و امتناعه من بيعته، و ما كان من أمر ابن الزبير في ذلك، و خروجهما الي مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد، فذكروا هلاك معاوية، فحمدوا الله و أثنوا عليه، فقال سليمان: ان معاوية قد هلك، و ان حسينا قد نقض [1] علي القوم بيعته، و قد خرج الي مكة، و أنتم شيعته و شيعة أبيه، فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه و مجاهدوا عدوه، فاكتبوا اليه و اعلموه، و ان خفتم الفشل و الوهن، فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه، و نقتل أنفسنا دونه.

قال: فاكتبوا اليه، فكتبوا اليه: بسم الله الرحمن الرحيم، الي الحسين [2] بن علي عليهماالسلام من سليمان بن صرد، و المسيب بن نجية، و رفاعة بن شداد البجلي، و حبيب بن مظاهر، و شيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك، فانا نحمد اليك الله الذي لا اله الا هو، أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي ابتز [3] علي هذه الامة فابتزها أمرها، و غصبها فيئها، و تأمر عليها بغير رضي منها، ثم قتل خيارها، و استبقي شرارها، و جعل مال الله دولا بين جبابرتها


و أغنيائها، فبعدا له كما بعدت ثمود.

ثم انه ليس علينا امام غيرك، فاقبل علينا لعل الله أن يجمعنا بك علي الحق، و ان النعمان بن بشير في قصر الامارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، و لا نخرج معه الي عيد، و لو قد بلغنا أنك قد أقبلت الينا أخرجناه، حتي نلحقه بالشام انشاء الله.

ثم سرحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني، و عبدالله بن وأل، و أمروهما بالنجاء [4] ، فخرجا مسرعين حتي قدما علي الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان.

ثم لبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، و أنفدوا قيس بن مصهر الصيداوي، و عبدالله بن شداد بن عبدالله الأرحبي [5] ، و عمارة بن عبدالله السلولي، الي الحسين عليه السلام، و معهم نحو من مائة و خمسين صحيفة من الرجل و الاثنين و الأربعة.

و قال السيد: و هو مع ذلك يتأبي و لا يجيبهم، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب، و توالت [6] الكتب حتي اجتمعت عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب.

و قال المفيد: ثم لبثوا يومين آخرين، و سرحوا اليه هاني بن هاني السبيعي، و سعيد بن عبدالله الحنفي، و كتبوا اليه: بسم الله الرحمن الرحيم، الي الحسين بن علي، من شيعته، أما بعد: فحي هلا [7] فان الناس ينتظرون لا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل والسلام.

ثم كتب شبث بن ربعي، و حجار بن أبجر، و يزيد بن الحارث بن رويم،


و عروة بن قيس، و عمرو بن حجاج الزبيدي، و محمد بن عمرو التميمي [8] : أما بعد، فقد اخضر الجناب، و أينعت الثمار، و أعشبت الأرض، و أورقت الأشجار، فاذا شئت فأقبل علينا، فانما تقدم علي جند لك مجندة والسلام.

و تلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، و سأل الرسل عن أمر الناس، ثم كتب عليه السلام مع هاني بن هاني، و سعيد بن عبدالله، و كانا آخر الرسل: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي الي الملأ من المؤمنين و المسلمين، أما بعد، فان هانيا و سعيدا قدما علي بكتبكم، و كانا آخر من قدم علي من رسلكم، و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم، و مقالة جلكم أنه ليس علينا امام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك علي الحق و الهدي، و أنا باعث اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب الي أنه قد اجتمع رأي ملأكم، و ذوي الحجي و الفضل منكم، علي مثل ما قدمت به رسلكم و قرأت في كتبكم، فاني أقدم اليكم و شيكا انشاء الله، فلعمري ما الامام الا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه علي ذات الله تعالي والسلام.

و دعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل، فسرحه مع قيس بن مصهر الصيداوي، و عمارة بن عبدالله السلولي، و عبدالرحمن بن عبدالله الأزدي، و أمره بالتقوي، و كتمان أمره و اللطف، فان رأي الناس مجتمعين مستوثقين، عجل اليه بذلك.

فأقبل مسلم حتي أتي المدينة، فصلي في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ودع من أحب من أهله، و استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به يتنكبان الطريق، فضلا عن الطريق، و أصابهما عطش شديد، فعجزا عن السير، فأومأ اليه [9] الي سنن الطريق [10] ، بعد أن لاح لهم ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن، و مات الدليلان عطشا.

فكتب مسلم بن عقيل رحمه الله من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر: أما بعد، فاني أقبلت من المدينة مع دليلين لي فحادا [11] عن الطريق فضلا، و اشتد


عليهما العطش، فلم يلبثا أن ماتا، و أقبلنا حتي انتهينا الي الماء، فلم ننج الا بحشاشة أنفسنا، و ذلك الماء بمكان يدعي بالمضيق من بطن الخبت، و قد تطيرت من توجهي هذا، فان رأيت أعفيتني منه و بعثت غيري، والسلام.

فكتب اليه الحسين: أما بعد، فقد خشيت [12] أن لا يكون حملك علي الكتاب الي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك الا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهتك فيه والسلام.

فلما قرأ مسلم الكتاب، قال: أما هذا فلست أتخوفه علي نفسي، فأقبل حتي مر بماء لطي، فنزل ثم ارتحل عنه، فاذا رجل يرمي الصيد، فنظر اليه قد رمي ظبيا حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم بن عقيل: نقتل أعداءنا انشاء الله.

ثم أقبل حتي دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد، و هي التي تدعي اليوم دار مسلم بن المسيب، و أقبلت الشيعة تختلف اليه، فكلما اجتمع اليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام و هم يبكون، و بايعه الناس، حتي بايعه منهم ثمانية عشر ألفا.

فكتب مسلم الي الحسين عليه السلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا، و يأمره بالقدوم، و جعلت الشيعة تختلف الي مسلم بن عقيل، حتي علم بمكانه.

فبلغ النعمان بن بشير ذلك، و كان واليا علي الكوفة من قبل معاوية، فأقره يزيد عليها، فصعد المنبر فحمد الله و أثني عليه، ثم قال: أما بعد، فاتقوا الله عباد الله و لا تسارعوا الي الفتنة والفرقة، فان فيها تهلك الرجال و تسفك الدماء، و تغصب الأموال، اني لا اقاتل من لا يقاتلي، و لا آت علي من لم يأت علي، و لا انبه نائمكم، و لا أتحرش بكم، و لا آخذ بالقرف، و لا أسب من لم يسب الي بالظنة [13] ، و لا التهمة، و لكنكم ان أبديتم صفحتكم لي، و نكثتم لي بيعتكم، و خالفتم امامكم، فوالله الذي لا اله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، و لو لم يكن لي منكم ناصر، أما اني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.


فقام اليه عبدالله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني امية، فقال: انه لا يصلح ما تري الا الغشم، و هذا الذي أنت عليه فيما بينك و بين عدوك رأي المستضعفين، فقال له النعمان: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب الي من أن أكون من الغاوين في معصية الله ثم نزل.

و خرج عبدالله بن مسلم، و كتب الي يزيد بن معاوية كتابا: أما بعد، فان مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، و بايعه الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب، فان يكن لك في الكوفة حاجة، فابعث اليها رجلا قويا ينفذ أمرك، و يعمل مثل عملك في عدوك، فان النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف [14] .

ثم كتب اليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه، ثم كتب اليه عمر بن سعد بن أبي وقاص مثل ذلك، فلما وصلت الكتب الي يزيد، دعا سرحون مولي معاوية، فقال: ما رأيك؟ ان الحسين قد نفذ الي الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سي ء، فمن تري أن استعمل علي الكوفة؟ و كان يزيد عاتبا علي عبيدالله بن زياد، فقال له سرحون: أرأيت لو نشر لك معاوية حيا ما كنت آخذا برأيه؟ قال: بلي، فأخرج سرحون عهد عبيدالله علي الكوفة، و قال: هذا رأي معاوية مات، و قد أمر بهذا الكتاب، فضم المصرين الي عبيدالله، فقال له يزيد: أفعل، ابعث بعهد عبيدالله بن زياد اليه.

ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي، و كتب الي عبيدالله: أما بعد، فانه كتب الي شيعتي من أهل الكوفة، يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع، ليشق عصا المسلمين، فسرحين تقرأ كتابي هذا، حتي تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتي تثقفه فتوثقه أو تقتله، أو تنفيه، والسلام، و سلم اليه عهده علي الكوفة، فخرج مسلم بن عمرو حتي قدم علي عبيدالله البصرة، و أوصل اليه العهد و الكتاب، فأمر عبيدالله بالجهاز من وقته، و المسير و التهي ء الي الكوفة من الغد [15] .

أقول: روي السيد في اللهوف ما ملخصه: أن الحسين عليه السلام قد كتب الي


جماعة من أشراف البصرة كتابا مع بعض مواليه يدعوهم فيه الي نصرته، و لزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشلي، و المنذر بن الجارود، أما يزيد بن مسعود، فانه جمع بني تميم و بني حنظلة و بني سعد، فوعظهم و حثهم علي الجهاد في خدمة سلطان المعاد عليه السلام. فأما بنوتميم و بني حنظلة، فلبوه بالاجابة، و أنعموا بحسن الاطاعة. و أما بنوسعد، فاستمهلوا حتي يتشاوروا.

فكتب الي الحسين عليه السلام بالواقعة، و تجهزوا للخروج اليه عليه السلام، فلم يتيسر لهم الوصول الا بعد السانحة، فلما سمعوا الواعية جزعوا من انقطاعهم عنه صلوات الله عليه.

و أما المنذر بن الجارود فانه جاء بالكتاب و الرسول الي ابن زياد مخافة أن يكون الكتاب دسيسا منه أخزاه الله، و كانت بنته زوجة لعبيد الله، فأخذ الرسول فصلبه، ثم صعد المنبر، فخطب و توعد أهل البصرة علي الخلاف و اثارة الأرجاف، ثم بات الليلة، فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد و أسرع هو الي الكوفة، فلما قاربها نزل حتي أمسي، ثم دخلها ليلا، فظن أهلها أنه الحسين عليه السلام، فتباشروا بقدومه و دنوا منه، فلما عرفوا أنه ابن زياد تفرقوا عنه، فدخل قصر الامارة و بات فيه الي الغداة، ثم خرج و صعد المنبر و خطبهم و توعدهم علي معصية السلطان، و وعدهم مع الطاعة الاحسان، فلما سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف من الاشتهار، فخرج من دار المختار و قصد دار هاني بن عروة، فآواه و كثر اختلاف الشيعة اليه [16] .

أقول: روي ابن شهرآشوب أنه دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب - أو مسلم بن المسيب، و قد مضي أن هذه الدار هي دار المختار، فلا تغفل - فبايعه اثنا عشر ألف رجل، فلما دخل ابن زياد، انتقل من دار سالم الي دار هاني في جوف الليل، و دخل في أمانه، و كان يبايعه الناس حتي بايعه خمس و عشرون ألف رجل، فعزم علي الخروج، فقال هاني: لا تعجل.

ثم قال: و كان شريك بن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيدالله بن


زياد، فمرض و نزل دار هاني أياما، ثم قال لمسلم: ان عبيدالله يعودني، و اني مطاوله الحديث، فاخرج اليه بسيفك فاقتله، و علامتك أن أقول اسقوني ماء، و نهاه هاني عن ذلك، فلما دخل عبيدالله علي شريك، و سأله عن وجعه، و طال سؤاله، و رأي أن أحدا لا يخرج، فخشي أن يفوته، فأخذ يقول:



ما الانتظار بسلمي أن تحييها

كأس المنية بالتعجيل اسقوها



فتوهم ابن زياد و خرج [17] .

قال الشيخ ابن نما: فجعل يقول: «ما الانتظار بسلمي لا يحييها» يكرر ذلك، فأنكر عبيدالله القول، و التفت الي هاني بن عروة، و قال: ان ابن عمك يخلط في علته، و هاني قد ارتعد و تغير وجهه، فقال هاني: ان شريكا يهجر منذ وقع في المرض، يتكلم بما لا يعلم فسار عبيدالله الخ [18] .

قال أيضا ابن نما: فخرج مسلم و السيف في كفه، قال له شريك: ما منعك من الأمر؟ قال مسلم: لما هممت بالخروج تعلقت بي زوجة هاني، و قالت: نشدتك الله ان قتلت ابن زياد في دارنا، و بكت في وجهي، فرميت السيف و جلست، قال هاني: يا ويلها قتلتني و قتلت نفسها، والذي فررت منه وقعت فيه [19] .

قال الفاضل: قال أبوالفرج في المقاتل: فلما خرج مسلم، قال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان: أما احداهما فكراهية هاني أن يقتل في داره، و أما الاخري فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم: أن الايمان قيد لفتك مؤمن، فقال لها هاني: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا [20] انتهي.

أقول: لعل اضافة الفتك الي المؤمن اضافة الي الفاعل، و حينئذ لا مجال لا يراد هاني علي مسلم.

قال السيد: و كان عبيدالله قد وضع المراصد [21] عليه، فلما علم أنه في دار


هاني، دعا محمد بن الاشعث، و أسماء بن خارجة، و عمرو بن الحجاج، و قال: ما يمنع هاني بن عروة من اتياننا، فقالوا: ما ندري، و قد قيل: انه يشتكي، فقال: بلغني أنه قد برء، و أنه يجلس كل عشية علي باب داره، و لو أعلم أنه شاك لعدته، فالقوه و مروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقنا، فاني لا احب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب، فأتوه حتي وقفوا عليه عشية علي بابه، فقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير فانه قد ذكرك، و قال: لو أعلم أنه شاك لعدته، فقال لهم: الشكوي تمنعني، فقالوا له: قد بلغه أنك تجلس كل عشية علي باب دارك، و قد استبطأك، و الابطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان من مثلك، لأنك سيد في قومك، و نحن نقسم عليك الا ما ركبت معنا، فدعا بثيابه فلبسها.

ثم دعا ببغلته، فركبها حتي اذا دنا من القصر، كأن نفسه أحست ببعض الذي كان، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة: يابن أخي اني والله لهذا الرجل لخائف فما تري؟ قال: يا عم والله ما أتخوف عليك شيئا، و لم تجعل علي نفسك سبيلا، و لم يكن حسان يعلم في أي شي ء بعث اليه عبيدالله.

فجاء هاني و القوم معه، حتي دخلوا جميعا علي عبيدالله، فلما رأي هانيا، قال: أتتك بحائن [22] رجلاه تسعي، ثم التفت الي شريح القاضي و كان جالسا عنده، و أشار الي هاني، و أنشد بيت عمرو بن معدي كرب الزبيدي:



اريد حياته و يريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد



فقال له هاني: و ما ذاك أيها الأمير؟ فقال: ايه [23] يا هاني ما هذه الامور التي تتربص في دارك لأمير المؤمنين و عامة المسلمين، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، فجمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك، و ظننت أن ذلك يخفي علي،


فقال: ما فعلت؟ فقال ابن زياد: بلي قد فعلت، فقال: ما فعلت أصلح الله الأمير، فقال ابن زياد: علي بمعقل مولاي، و كان معقل عينه علي أخبارهم، و قد عرف كثيرا من أسرارهم.

فجاء معقل حتي وقف بين يديه، فلما رآه هاني عرف أنه كان عينا عليه، فقال: أصلح الله الأمير والله ما بعثت الي مسلم بن عقيل و لا دعوته، و لكن جاءني مستجيرا، فاستحييت من رده، و دخلني من ذلك ذمام فضيفته، فأما اذ قد علمت فخل سبيلي حتي أرجع اليه و آمره بالخروج من داري الي حيث شاء من الأرض، لأخرج بذلك من ذمامه و جواره.

فقال له ابن زياد: و الله لا تفارقني أبدا حتي تأتيني به، فقال: والله لا أجيئك به أبدا، أجيئك بضيفي حتي تقتله؟ قال: والله لتأتيني به، فقال: لا والله لا آتيك به، فلما كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهلي، فقال: أصلح الله الأمير خلني و اياه حتي اكلمه، فقام فخلا به ناحية، و هما بحيث يراهما ابن زياد و يسمع كلامهما، اذا رفعا أصواتهما، فقال له مسلم: يا هاني انشدك الله أن لا تقتل نفسك، و أن لا تدخل البلاء علي عشيرتك، فو الله اني لأنفس بك عن القتل، ان هذا الرجل ابن عم القوم، و ليسوا قاتليه، و لا ضائريه، فادفعه اليه، فانه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة، و انما تدفعه الي السلطان.

فقال هاني: والله ان علي في ذلك الخزي و العار، أنا أدفع جاري و ضيفي، و رسول ابن رسول الله الي عدوه، و أنا صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن الا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتي أموت دونه، فأخذ يناشده و هو يقول: والله لا أدفعه أبدا اليه.

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: ادنوه مني، فادني منه، فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك، فقال هاني: اذن تكثر البارقة حول دارك، فقال ابن زياد: والهفاه عليك أبالبارقة تخوفني، و هاني يظن أن عشيرته يسمعونه، ثم قال: ادنوه مني، فادني منه، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه و جبينه و خده حتي كسر أنفه، و سيل الدماء علي ثيابه، و نثر لحم خده و جبينه علي لحيته، فانكسر القضيب، فضرب هاني يده الي قائم سيف شرطي، فجاذبه ذلك الرجل عليه،


فصاح ابن زياد خذوه فجروه حتي القوه في بيت من بيوت الدار، و اغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك به [24] .

و في المنتخب: غضب ابن زياد، فضرب وجهه بقضيب عنده، فضرب هاني بسيف كان عنده، فقطع أطماره، و جرحه جرحا منكرا، فاعترضه معقل، فقطع وجهه بالسيف، فجعل هاني يضرب يمينا و شمالا، حتي قتل من القوم رجالا، و هو يقول: والله لو كانت رجلي علي طفل من أطفال أهل البيت عليهم السلام ما رفعتها حتي تقطع، فتكاثروا [25] عليه فأخذوه [26] .

ثم قال السيد: فقام أسماء بن خارجة الي عبيدالله بن زياد، و قيل: ان القائم حسان بن أسماء فقال: أرسل غدر سائر اليوم أيها الأمير؟!، أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتي اذا جئناك به هشمت وجهه، و سيلت دماءه علي لحيته، و زعمت أنك تقتله، فغضب ابن زياد من كلامه، و قال: أنت هاهنا، ثم أمر به فضرب حتي ترك و قيد و احبس في ناحية من القصر، فقال: انا لله و انا اليه راجعون، الي نفسي أنعاك يا هاني [27] .

و في رواية المفيد: فلهز به و تعتع [28] .

قال المفيد: قال محمد بن الأشعث: قد رضينا بما رأي الأمير، لنا كان أم علينا، انما الأمير مؤدب [29] .

ثم قال السيد: قال: و بلغ عمرو بن الحجاج أن هانيا قد قتل، و كانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هاني بن عروة، فأقبل عمرو في مذحج كافة حتي أحاط بالقصر، و نادي أنا عمرو بن الحجاج، و هذه فرسان مذحج و وجوهها، لم نخلع طاعة، و لم نفارق جماعة، و قد بلغنا أن صاحبنا هانيا قد قتل، فعلم عبيدالله باجتماعهم و كلامهم، فأمر شريحا القاضي أن يدخل علي هاني، فيشاهده و يخبر


قومه بسلامته من القتل، ففعل ذلك و أخبرهم، فرضوا بقوله و انصرفوا، و بلغ الخبر الي مسلم بن عقيل فخرج بمن بايعه الي حرب عبيدالله بن زياد، فتحصن منه الشام بقصر دار الامارة، و اقتتل أصحابه و أصحاب مسلم [30] .

أقول: أخزي الله مثل هذا القاضي، و أصلاه جهنم، حيث رأي هانيا مستغيثا، و الدماء تسيل علي لحيته، قائلا: لو دخل الي عشرة نفر أنقذوني، فبعد ما لقي القوم وري في كلامه، فأوهمهم أن هانيا هو الذي أخبرهم بسلامته و حياته، فاطمأنوا راجعين علي ما يفهم من الارشاد [31] .

و في روضة الواعظين: ليس مع ابن زياد في القصر الا ثلاثون رجلا من الشرط، و عشرون رجلا من أشراف الناس، و أهل بيته و خاصته، حتي كادت الشمس أن تجب [32] .

ثم قال السيد: و جعل أصحاب عبيدالله الذين معه في القصر يتشرفون منه، و يحذرون أصحاب مسلم، و يتوعدونهم بأجناد الشام، فلم يزالوا كذلك حتي جاء الليل، فجعل أصحاب مسلم يتفرقون عنه، و يقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، و ينبغي أن نقعد في منازلنا، و ندع هؤلاء القوم حتي يصلح الله ذات بينهم [33] .

و في رواية المفيد: كانت المرأة تأتي ابنها و أخاها فتقول: انصرف الناس يكفونك، و يجي ء الرجل الي أخيه و ابنه، فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب و الشر؟ انصرف، فيذهب به فينصرف [34] .

ثم قال السيد: فلم يبق معه سوي عشرة أنفس، فدخل مسلم المسجد ليصلي المغرب، فتفرق العشرة عنه، فلما رأي ذلك خرج وحيدا في دروب الكوفة، حتي وقف علي باب امرأة، يقال لها: طوعة، فطلب منها ماء فأسقته [35] .

أقول: و في روضة الواعظين بعد ما ذكر مثله، قال: ثم أدخلت الاناء ثم


خرجت، فقالت: يا عبدالله ألم تشرب؟ قال: بلي، قالت: فاذهب الي أهلك، فسكت، ثم أعادت مثل ذلك فسكت، ثم قالت له في الثالثة: سبحان الله قم يا عبدالله عافاك الله الي أهلك، فانه لا يصلح لك الجلوس علي بابي و لا أحله لك، فقام و قال: يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل و لا عشيرة، فهل لك في أجر و معروف؟ و لعلي مكافيك، قالت: يا عبدالله و ما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم و غروني و أخرجوني، قالت: ادخل، فدخل بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه، ففرشت له، و عرضت له العشاء، فلم يتعش، و لم يكن بأسرع أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت [36] .

و في المنتخب: أنكر الولد شأن امه، و سألها عن ذلك، فنهرته، فألح عليها في المسألة، فأخذت عليه العهد فأخبرته، فأمسك عنها و أسره في نفسه، الي أن طلع الفجر، و اذا بالمرأة قد جاءت الي مسلم بماء ليتوضأ، و قالت: يا مولاي ما رأيتك رقدت في هذه الليلة؟ فقال لها: اعلمي اني رقدت رقدة، فرأيت في منامي عمي أميرالمؤمنين عليه السلام، و هو يقول: الوحا الوحا العجل العجل، و ما أظن الا أنه آخر أيامي من الدنيا [37] .

قال الشيخ المفيد: لما تفرق الناس عن مسلم بن عقيل، طال علي ابن زياد، و جعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا، كما كان يسمع قبل ذلك، فقال لأصحابه: أشرفوا، فانظروا اهل ترون منهم أحدا؟ فأشرفوا، فلم يروا أحدا، قال: فانظروهم لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم فنزعوا تخاتج [38] المسجد، و جعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم، و ينظرون و كانت أحيانا تضي ء لهم، و تارة لا تضي ء لهم كما يريدون، فدلوا القناديل و أطنان القصب تشد بالحبال، ثم تجعل فيها النيران، ثم تدلي حتي تنتهي الي الأرض، ففعلوا ذلك في أقصي الظلال و أدناها و أوسطها، حتي فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر.


فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد بتفرق القوم، ففتح باب السدة التي في المسجد، ثم خرج فصعد المنبر، و خرج أصحابه معه، و أمرهم فجلسوا قبيل العتمة و أمر عمرو بن نافع، فنادي: ألا برئت الذمة من رجل من الشرط، أو العرفاء و المناكب، أو المقاتلة صلي العتمة الا في المسجد، فلم يكن الا ساعة حتي امتلأ المسجد من الناس، ثم أمر مناديه، فأقام الصلاة، و أقام الحرس خلفه، و أمرهم بحراسته من أن يدخل اليه [39] من يغتاله، و صلي بالناس.

ثم صعد المنبر، فحمد الله و أثني عليه، ثم قال: أما بعد، فان ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتي ما رأيتم من الخلاف و الشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره؛ و من جاء به فله ديته، اتقوا الله عباد الله، و الزموا الطاعة و بيعتكم، و لا تجعلوا علي أنفسكم سبيلا يا حصين بن نمير ثكلتك امك ان ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل و لم تأتني به، و قد سلطتك علي دور أهل الكوفة، فابعث مراصد علي الكوفة و دورهم، و أصبح غدا، و استبر [40] الدور، و جس خلالها، حتي تأتيني بهذا الرجل، و كان الحصين بن نمير علي شرطة و هو من بني تميم.

ثم دخل ابن زياد القصر، و قد عقد لعمرو بن حريث راية، و أمره علي الناس، فلما أصبح جلس مجلسه، و أذن للناس فدخلوا عليه، و أقبل محمد بن الأشعث، فقال: مرحبا بمن لا يستغش و لا يتهم، ثم أقعده الي جنبه.

و أصبح ابن تلك العجوز، فغدا الي عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل من امه، فأقبل عبدالرحمن حتي أتي أباه و هو عند ابن زياد، فساره، فعرف ابن زياد سراره، فقال له ابن زياد في جنبه بالقضيب: قم فأتني به الساعة، فقام و بعث معه قومه؛ لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل، فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس، حتي أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل [41] .


مديحة:

لا بأس بايراد نبذة من فضائل مسلم و مدائحه، و ان كانت معترضة.

في مجالس ابن بابويه باسناده، عن ابن عباس، قال: قال علي عليه السلام لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: يا رسول الله انك لتحب عقيلا؟ قال: اي والله اني لاحبه حبين: حبا له، و حبا لحب أبي طالب له، و ان ولده المقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، و تصلي عليه الملائكة المقربون، ثم بكي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حتي جرت دموعه الي صدره، ثم قال: الي الله أشكو ما تلقي عترتي من بعدي [42] .

و قال الفاضل المتبحر في البحار: روي في بعض كتب المناقب، عن علي بن أحمد العاصمي، عن اسماعيل بن أحمد البيهقي، عن والده، عن أبي الحسين بن بشران، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل بن اسحاق، عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عمرو بن دينار، قال: أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل الي الكوفة، و كان مثل الأسد، قال عمرو و غيره: لقد كان من قوته انه يأخذ الرجل بيده، فيرمي به فوق البيت [43] .

أقول: فلنرجع الي رواية المفيد، قال: فلما سمع وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال، علم أنه قد اتي، فخرج اليهم بسيفه، و اقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه، حتي أخرجهم من الدار، ثم عادوا اليه، فشد عليهم كذلك، فاختلف هو و بكر بن حمران الأحمري، فضرب بكر فم مسلم، فقطع شفته العليا، و أسرع السيف في السفلي، و نصلت له ثنيتاه، فضرب مسلم رأسه ضربة منكرة و ثناه باخري علي حبل العاتق، و كادت تطلع الي جوفه.

فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت، و أخذوا يرمونه بالحجارة، و يلهبون النار في أطنان القصب، ثم يرمونها عليه من فوق البيت، فلما رأي ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة [44] .

و في المنتخب: فقتل منهم خلقا كثيرا، حتي نقل أنه قتل منهم مائة و خمسين


رجلا، فلما نظر ابن الأشعث الي ذلك، أنفذ الي ابن زياد يستمده بالخيل و الرجال، فأنفذ اليه ابن زياد يقول: ثكلتك امك رجل واحد يقتل منكم هذه المقتلة العظيمة، فكيف لو أرسلتك الي من هو أشد منه قوة و بأسا يعني الحسين عليه السلام.

فبعث اليه بالجواب: عساك أرسلتني الي بقال من بقاقيل الكوفة، أو الي جرمقاني [45] من جرامقة الحيرة [46] ، و انما أرسلتني الي سيف من أسياف محمد بن عبدالله، فأمده بعساكر كثيرة.

فلما رأي مسلم ذلك، رجع الي الدار و تهيأ و حمل عليهم حتي قتل كثيرا منهم، و صار جلده كالقنفذ من كثرة النبل، فاستمد ثانيا من ابن زياد، فأمده بالخيل و الرجال و قال لهم: ويلكم اعطوه الأمان و الا أفناكم عن آخركم [47] .

قال المفيد: فقال محمد بن الأشعث: لك الأمان، لا تقتل نفسك، و هو يقاتلهم و يقول:



أقسمت لا اقتل الا حرا

و ان رأيت الموت شيئا نكرا



و يخلط البارد سخنا مرا

رد شعاع الشمس فاستقرا



كل امرء يوما ملاق شرا

أخاف أن اكذب أو اغرا



فقال محمد بن الأشعث: انك لا تكذب، و لا تغر، و لا تخدع، ان القوم بنو عمك، و ليسوا بقاتليك، و لا ضائريك، و كان قد اثخن بالحجارة، و عجز عن القتال، فانبهر [48] و أسند ظهره الي جنب تلك الدار، فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان، فقال آمن أنا؟ قال: نعم، فقال للقوم الذين معه: ألي الأمان؟ قال القوم له: نعم الا عبيدالله بن العباس السلمي، قال: لا ناقة لي في هذا و لا جمل، ثم تنحي، فقال مسلم: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم [49] .

و في المنتخب: قال لهم: لا أمان لكم يا أعداء الله و أعداء رسوله، ثم انهم


احتالوا عليه و حفروا له حفيرة عميقة، و أخفوا رأسها بالدخل و التراب، ثم انطردوا بين يديه فوقع فيها، و أحاطوا به، فضربه ابن الأشعث علي محاسن وجهه، فأوثقوه أسيرا [50] .

قال المفيد: فاتي ببغلة فحمل عليها، و اجتمعوا حوله و نزعوا سيفه، فكان عند ذلك يئس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أول الغدر، فقال له محمد بن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس، فقال: و ما هو الا الرجاء، فأين أمانكم؟ انا لله و انا اليه راجعون و بكي، فقال له: عبيدالله بن عباس: ان من يطلب مثل الذي طلبت [51] اذا ينزل به مثل ما نزل بك، لم تبك؟، قال: والله اني ما لنفسي بكيت، و لا لها من القتل أرثي، و ان كنت لا احب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين الي، أبكي للحسين و آل الحسين.

ثم أقبل علي محمد بن الأشعث، فقال: يا عبدالله اني أراك والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث رجلا من عندك علي لساني أن يبلغ حسينا ما جري، فاني لا أراه الا و قد خرج اليكم اليوم أو خارج غدا و أهل بيته، و يقول له: ان ابن عقيل بعثني اليك و هو أسير في أيدي القوم، لا يري أنه يمسي حتي يقتل، و هو يقول لك: ارجع فداك أبي و امي بأهل بيتك، و لا يغررك أهل الكوفة، فانهم أصحاب أبيك الذي كان يتمني فراقهم بالموت أو القتل، ان أهل الكوفة قد كذبوك و ليس لمكذوب رأي، فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن، و لأعلمن أني قد أمنتك.

و أقبل ابن الأشعث بابن عقيل الي باب القصر، فاستأذن، فأذن له، فدخل علي عبيدالله بن زياد، فأخبره خبر ابن عقيل، و ضرب بكر اياه، و ما كان من أمانه له، فقال له عبيدالله: و ما أنت و الأمان، كأنا أرسلناك لتؤمنه، انما أرسلناك لتأتينا به، فسكت ابن الأشعث، و انتهي بابن عقيل الي باب القصر، و قد اشتد به العطش، و علي باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن، فاذا قلة باردة موضوعة علي


الباب.

فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها، لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتي تذوق الحميم في نار جهنم، فقال له ابن عقيل: ويحك من أنت؟ قال: أنا من عرف الحق اذا نكرته، و نصح لامامه اذ غششته، و أطاعه اذ عصيته و خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي، فقال له ابن عقيل: لامك الثكل، ما أجفاك و أفظك و أقسي قلبك، أنت يابن باهلة أولي بالحميم و الخلود في نار جهنم مني.

ثم جلس، فتساند الي حائط، و بعث عمرو بن حريث غلاما له، فأتاه بقلة عليها منديل و قدح، فصب فيه ماء، فقال له: اشرب فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما من فمه، و لا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرتين، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه [52] في القدح، فقال: الحمد لله لو كان من الرزق المقسوم لشربته.

فخرج رسول ابن زياد، فأمر بادخاله اليه، فلما دخل لم يسلم عليه بالامرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم علي الأمير؟ فقال: ان كان يريد قتلي فما سلامي عليه، و ان كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه، فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن، قال: كذلك؟ قال: نعم، قال: فدعني اوصي الي بعض قومي، قال: افعل.

قال: فنظر مسلم الي جلساء عبيدالله بن زياد، و فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: يا عمر ان بيني و بينك قرابة، ولي اليك حاجة، و قد يجب لي عليك نجح حاجتي، و هي سر، فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيدالله بن زياد: لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك؟

فقام مع، فجلس حيث ينظر اليهما ابن زياد، فقال له [53] : ان علي بالكوفة دينا، استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم، فبع سيفي و درعي فاقضها عني، و اذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، و ابعث الي الحسين من يرده، فاني قد كتبت اليه أعلمه أن الناس معه و لا أراه الا مقبلا.


فقال عمر لابن زياد: أتدري أيها الأمير ما قال؟ انه ذكر كذا و كذا، فقال ابن زياد: انه لا يخونك الأمين، و لكن قد يؤتمن الخائن، أما ما لك فهو لك، و لسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، و أما جثته فانا لا نبالي اذا قتلناه ما صنع بها، و أما حسين فان هو لم يردنا لم نرده.

ثم قال: ابن زياد: ايه يابن عقيل أتيت الناس و هم جمع، فشتت بينهم، و فرقت كلمتهم، و حملت بعضهم علي بعض، قال: كلا لست لذلك أتيت، و لكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، و سفك دماءهم، و عمل فيهم أعمال كسري و قيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، و ندعو الي حكم الكتاب، فقال له ابن زياد: و ما أنت و ذاك يا فاسق؟ لم لم تعمل فيهم بذلك اذ أنت بالمدينة تشرب الخمر.

قال مسلم: أنا أشرب الخمر؟ أما والله ان الله ليعلم أنك غير صادق، و أنك قد قلت بغير علم، و أني لست كما ذكرت، و أنك أحق بشرب الخمر مني، و أولي بها من يلغ في دماء المسلمين و لغا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، و يسفك الدم الذي حرم الله [54] علي الغصب و العداوة و سوء الظن، و هو يلهو و يلعب كأن لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد: يا فاسق ان نفسك منتك [55] ما حال الله دونه، و لم يرك الله له أهلا، فقال مسلم: فمن أهله اذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أميرالمؤمنين يزيد، فقال مسلم: الحمد لله علي كل حال، رضينا بالله حكما بيننا و بينكم، فقال له ابن زياد: قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد في الاسلام من الناس، فقال له مسلم: أما أنك أحق أن تحدث [56] في الاسلام ما لم يكن، و انك لا تدع سوء القتلة، و قبح المثلة، و خبث السيرة، و لؤم الغلبة، لا أجد من الناس أولي بها منك، فأقبل ابن زياد يشتمه و يشتم الحسين و عليا و عقيلا عليهم السلام، و أخذ مسلم لا يكلمه.

ثم قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه، ثم أتبعوه جسده، فقال مسلم: والله لو كان بيني و بينك قرابة ما قتلتني، فقال ابن زياد: أين هذا الذي


ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعا بكر بن حرمان الأحمري، فقال له: اصعد، فلتكن أنت الذي تضرب عنقه، فصعد به، و هو يكبر الله، و يستغفر الله، و يصلي علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و يقول: اللهم احكم بيننا و بين القوم غرونا و كذبونا و خذلونا، و أشرفوا به علي موضع الحذائين اليوم، فضرب عنقه، و اتبع رأسه جثته [57] .

أقول: ثم قال السيد: بعد أن ذكر مثل ما مر، فضرب عنقه و نزل مذعورا، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ فقال: أيها الأمير رأيت ساعة قتلته رجلا أسودا سي ء الوجه حذائي، عاضا علي أصبعه، أو قال: شفته، ففزعت منه فزعا لم أفزعه قط، فقال ابن زياد: لعلك دهشت [58] .

و روي في البحار، عن المسعودي: قال: دعا ابن زياد بكر بن حمران الذي قتل مسلما، فقال: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فما كان يقول و أنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبر و يسبح و يهلل و يستغفر، فلما أدنيناه لنضرب عنقه، قال اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و كذبونا، ثم خذلونا و قتلونا، فقلت له: الحمد لله الذي أقادني منك، و ضربته ضربة لم تعمل شيئا، فقال لي: أو ما يكفيك في خدش مني وفاء بدمك أيها العبد؟ قال ابن زياد: و فخرا عند الموت؟ قال: فضربته الثانية فقتلته [59] .

قال المفيد: و قام محمد بن الأشعث الي عبيدالله بن زياد، فكلمه في هاني ابن عروة، فقال: انك قد عرفت منزلة هاني في المصر، و بيته في العشيرة، و قد علم قومه أني أنا و صاحبي سقناه اليك، فأنشدك الله لما وهبته لي فاني أكره عداوة المصر و أهله لي، فوعده أن يفعل، ثم بدا له فأمر بهاني في الحال، فقال: أخرجوه الي السوق فاضربوا عنقه، فاخرج هاني حتي انتهي به مكانا من السوق كان يباع فيه الغنم و هو مكتوف، فجعل يقول: وامذحجاه، و لا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه يا مذحجاه و أين مذحج؟ فلما رأي أن أحدا لا ينصره جذب يده، فنزعها من


الكتاف، ثم قال: أما من عصا، أو سكين، أو حجر، أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه، و وثبوا اليه فشدوه وثاقا [60] .

قال السيد: فقيل له يا هاني امدد عنقك، فقال: والله ما أنا بها سخي، و ما كنت لأعينكم علي نفسي، فضربه غلام لعبيد الله يقال له: رشيد بالسيف و قتله [61] .

و في المناقب: أمر ابن زياد بقتل هاني في محلة يباع فيها الغنم، ثم أمر بصلبه منكوسا [62] .

و في المنتخب: ثم انهم أخذوا مسلما و هانيا يسحبونهما في الأسواق، فبلغ خبرهما الي مذحج، فركبوا خيولهم، و قاتلوا القوم، و أخذوهما، فغسلوهما و دفنوهما رحمة الله عليهما [63] .

قال السيد: و في قتل مسلم و هاني يقول عبيدالله بن الزبير الأسدي، و يقال: انها للفرزدق، و قال بعضهم: انها لسليمان الحنفي:



فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري

الي هاني في السوق و ابن عقيل



الي بطل قد هشم السيف وجهه

و آخر يهوي من طمار قتيل



أصابهما فرخ البغي فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل



تري جسدا قد غير الموت لونه

و نضح دم قد سال كل مسيل



فتي كان أحيي من فتاة حيية

و أقطع من ذي شفرتين صقيل



أيركب أسماء الهماليج آمنا

و قد طلبته مذحج بذحول



تطوف حفافيه مراد و كلهم

علي رقبة من سائل و مسول



فان أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا ارضيت بقليل



قال: و كتب عبيدالله بن زياد بخبر مسلم و هاني الي يزيد بن معاوية، فأعاد الجواب اليه: يشكره فيه علي فعاله و سطوته، و يعرفه أن قد بلغه توجه الحسين عليه السلام الي جهته، و يأمره عند ذلك بالمؤاخذة و الانتقام و الحبس علي الظنون


والأوهام [64] .

أقول: و مما شاع نقله بين الأنام بعد واقعة مسلم، و ان كان وقوعه بعدها بعام، شهادة ولديه الصغيرين، كما رواه ابن بابويه في مجالسه، باسناده عن حمران ابن أعين، عن أبي محمد شيخ لأهل الكوفة، قال: لما قتل الحسين بن علي عليهماالسلام اسر من معسكره غلامان صغيران، فاتي بهما عبيدالله بن زياد، فدعا سجانا له، فقال: خذ هذين الغلامين اليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، و من الماء البارد فلا تسقهما، و ضيق عليهما سجنهما، و كان الغلامان يصومان النهار، فاذا جنهما الليل اتيا بقرصين من شعير و كوز من ماء القراح.

فلما طال بالغلامين المكث حتي صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي قد طال بنا مكثنا، و يوشك أن تفني أعمارنا، و تبلي أبداننا، فاذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، و تقرب اليه بمحمد صلي الله عليه و آله و سلم لعله يوسع علينا في طعامنا، و يزيدنا في شرابنا.

فلما جنهما الليل، أقبل الشيخ اليهما بقرصين من شعير، و كوز من ماء القراح، فقال له الغلام الصغير: أتعرف محمدا؟ قال: نعم و كيف لا أعرف محمدا صلي الله عليه و آله و سلم و هو نبيي، قال: أتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال و كيف لا أعرف جعفرا، و قد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء، قال: أفتعرف علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: و كيف لا أعرف عليا و هو ابن عم نبيي و أخو نبيي.

قال: يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و نحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام بيدك اساري، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، و من بارد الماء فلا تسقينا، و قد ضيقت علينا سجننا.

فانكب الشيخ علي أقدامهما يقبلهما، و يقول: نفسي لنفسكما الفداء و وجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفي، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أي طريق شئتما.

فلما جنهما الليل أتاهما بقرصين من شعير، و كوز من ماء القراح، و وقفهما


علي الطريق، و قال لهما: سيرا الليل يا حبيبي، و اكمنا النهار حتي يجعل الله لكما من أمركما فرجا و مخرجا، ففعل الغلامان ذلك.

فلما جنهما الليل انتهيا الي عجوز علي باب، فقالا لها: يا عجوز انا غلامان صغيران غريبان حدثان، غير خبيرين بالطريق، و هذا الليل قد جننا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فاذا أصبحنا لزمنا الطريق، فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبي؟ فقد شممت الروائح كلها، فما شممت رائحة هي أطيب من رائحتكما، فقالا لها: يا عجوز نحن من عترة نبيك المصطفي، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل، قالت العجوز: يا حبيبي ان لي ختنا فاسقا، قد شهد الوقعة مع عبيدالله بن زياد، أتخوف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما، قالا: سواد ليلتنا هذه، فاذا أصبحنا لزمنا الطريق، قالت: سآتيكما بطعام، ثم أتتهما فأكلا و شربا.

فلما ولجا الفراش، قال الصغير للكبير: يا أخي انا نرجو أن يكون قد أمنا ليلتنا هذه، فتعال حتي اعانقك و تعانقني، و أشم رائحتك و تشم رائحتي قبل أن يفرق الموت بيننا، ففعل الغلامان ذلك و اعتنقا و ناما.

فلما كان بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق، حتي قرع الباب قرعا خفيفا، فقالت العجوز: من هذا؟ فقال: أنا فلان، قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة و ليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي، و تنشق مرارتي في جوفي، من جهد البلاء قد نزل بي، قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيدالله بن زياد، فنادي الأمير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم، و من جاء برأسيهما فله ألفا درهم، و قد أتعبت فرسي و تعبت فلم يصل في يدي شي ء.

فقالت العجوز: يا ختني احذر أن يكون محمد صلي الله عليه و آله و سلم خصمك في القيامة، قال لها: ويحك ان الدنيا محرص عليها، قالت: و ما تصنع بالدنيا و ليس معها آخرة؟ قال: اني لأراك تحامين عنهما، كأن عندك من طلب الأمير شي ء، فقومي فان الأمير يدعوك، قالت: و ما يصنع الأمير بي و انما أنا عجوز في هذه البرية؟ قال: افتحي الباب حتي أريح و أستريح، فاذا أصبحت بكرت في الطريق آخذ في طلبهما، ففتحت له الباب فأتته بطعام و شراب فأكل و شرب.


فلما كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، و يخور كما يخور الثور، و يلتمس بكفه جدار البيت، حتي وقعت يده علي جنب الغلام الصغير، فقال له: من هذا؟ قال: من أنت؟ قال: أما أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرك الكبير و يقول: قم يا حبيبي فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره.

قال لهما: فمن أنتما؟ فقالا له: يا شيخ ان نحن صدقناك فلنا الأمان؟ قال: نعم، قالا: أمان الله و أمان رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و ذمة الله و ذمة رسوله؟ قال: نعم، قالا: و محمد بن عبدالله علي ذلك من الشاهدين؟ قال: نعم، قالا: والله علي ما نقول وكيل و شهيد؟ قال: نعم، قالا له: يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد صلي الله عليه و آله و سلم هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل، فقال لهما: من الموت هربتما و الي الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما، فقام الي الغلامين، فشد أكتافهما، فقام الغلامان ليلتهما مكتفين.

فلما انفجر عمود الصبح، دعا غلاما له أسود يقال له: فليح، فقال: فخذ هذين الغلامين، فانطلق بهما الي شاطي ء الفرات، و اضرب أعناقهما، و ائتني برؤوسهما، لأنطلق بهما الي عبيدالله بن زياد، و آخذ جائزة ألفي درهم.

فحمل الغلام السيف، و مشي أمام الغلامين، فما مضي الا غير بعيد حتي قال أحد الغلامين: يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، قال: ان مولاي أمر بقتلكما فمن أنتما؟ قالا له: يا أسود نحن من عترة نبيك محمد صلي الله عليه و آله و سلم، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، و يريد مولاك قتلنا، فانكب الأسود علي أقدامهما يقبلهما و يقول: نفسي لنفسكما الفداء و وجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفي، والله لا يكون محمد خصمي في يوم القيامة، ثم عدا فرمي بالسيف من يده ناحية، و طرح نفسه في الفرات، و عبر الي الجانب الآخر، فصاح به مولاه يا غلام عصيتني؟ فقال: يا مولاي انما أطيعك ما دمت لا تعصي الله، فاذا عصيت الله فأنا منك بري ء في الدنيا و الآخرة.

فدعا ابنه، فقال: يا بني انما أجمع الدنيا حلالها و حرامها لك، و الدنيا محرص عليها، فخذ هذين الغلامين اليك، فانطلق بهما الي شاطي ء الفرات،


فاضرب أعناقهما، و ائتني برؤوسهما، لأنطلق بهما الي عبيدالله بن زياد، فآخذ جائزة ألفي درهم، فأخذ الغلام السيف، و مشي أمام الغلامين، فما مضي الا غير بعيد، حتي قال أحد الغلامين: يا شاب ما أخوفني علي شبابك هذا من نار جهنم، فقال: يا حبيبي فما أنتما؟ قالا: من عترة نبيك محمد صلي الله عليه و آله و سلم، يريد والدك قتلنا، فانكب الغلام علي أقدامهما يقبلهما، و يقول لهما مقالة الأسود، فرمي بالسيف ناحية، و طرح نفسه في الفرات و عبر، فصاح به أبوه يا بني عصيتني؟ قال: لأن اطيع الله و أعصيك أحب الي من أن أعصي الله و أطيعك.

قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري، و أخذ السيف و مشي أمامهما، فلما صارا الي شاطي ء الفرات، سل السيف من جفنه، فلما نظر الغلامان الي السيف مسلولا اغرورقت عيناهما [65] ، و قالا له: يا شيخ انطلق بنا الي السوق، و استمتع بأثماننا، و لا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غدا، قال: لا ولكن أقتلكما، و أذهب برؤوسكما الي عبيدالله بن زياد، و آخذ جائزة ألفي درهم.

فقالا له: يا شيخ أما تحفظ قرابتنا من رسول الله؟ فقال: ما لكما من رسول الله قرابة، قالا: يا شيخ فأت بنا الي عبيدالله بن زياد، حتي يحكم فينا بأمره، فقال: مالي الي ذلك سبيل الا التقرب اليه بدمكما، قالا له: يا شيخ أما ترحم صغر سننا؟ قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئا؟

قالا: يا شيخ ان كان لابد فدعنا نصلي ركعات؟ قال: فصليا ما شئتما ان نفعتكما الصلاة، فصلي الغلامان أربع ركعات، ثم رفعا طرفيهما الي السماء، فناديا: يا حي يا قيوم يا حليم يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا و بينه بالحق، فقام الي الأكبر فضرب عنقه، و أخذ برأسه و وضعه في المخلاة، و أقبل الغلام الصغير يتمرغ في دم أخيه، و هو يقول: حتي ألقي رسول الله و أنا مختضب بدم أخي، فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك، ثم قام الي الصغير فضرب عنقه، و أخذ رأسه و وضعه في المخلاة، و رمي ببدنيهما في الماء و هما يقطران دما، و مر حتي أتي بهما الي عبيدالله بن زياد، و هو قاعد علي كرسي له، و بيده قضيب من خيزران، فوضع الرأسين


بين يديه.

فلما نظر اليهما، قام ثم قعد، ثم قام ثم قعد ثلاثا، ثم قال: الويل لك أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا، قال: فما عرفت لهما حق الضيافة؟ قال: لا، قال: فأي شي ء قالا لك؟ قال: قالا: يا شيخ اذهب بنا الي السوق فبعنا فانتفع بأثماننا، و لا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة، قال: فأي شي ء قلت لهما؟ قال: قلت: لا و لكن أقتلكما و أنطلق برأسيكما الي عبيدالله بن زياد و آخذ جائزة ألفي درهم، قال: فأي شي ء قالا لك؟ قالا: ائت بنا الي عبيدالله بن زياد حتي يحكم فينا بأمره، قال فأي شي ء قلت لهم؟ قال: قلت: ليس لي الي ذلك سبيل الا التقرب اليه بدمكما.

قال: أفلا جئتني بهما حيين؟ فكنت أضعف لك الجائزة، و أجعلها أربعة آلاف درهم؟ قال: ما رأيت الي ذلك سبيلا الا التقرب اليك بدمهما، قال: فأي شي ء قالا لك أيضا؟ قال: قالا لي: يا شيخ احفظ قرابتنا من رسول الله، قال: فأي شي ء قلت لهما؟ قال: قلت: مالكما من رسول الله قرابة، قال: ويلك فأي شي ء قالا لك أيضا؟ قال: قالا: يا شيخ ارحم صغر سننا، قال: فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئا، قال: ويلك فأي شي ء قالا لك أيضا؟ قال: قالا: دعنا نصلي ركعات، فقلت فصليا ما شئتما ان نفعتكما الصلاة، فصلي الغلامان أربع ركعات، قال: فأي شي ء قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفيهما الي السماء، فقالا: يا حي يا قيوم يا حليم، يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا بالحق.

قال عبيدالله بن زياد: فان أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟ قال: فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له، قال: فانطلق به الي الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، و لا تترك أن يختلط دمه بدمهما، و عجل برأسه، ففعل الرجل ذلك، و جاء برأسه، فنصبه علي قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل و الحجارة، و هم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم [66] .


في البحار: روي من المناقب القديم هذه القصة مع تغيير، قال: أخبرنا سعد الامة [67] سعيد بن محمد بن أبي بكر الفقيمي، باسناده عن محمد بن يحيي الذهلي، قال: لما قتل الحسين بن علي عليهماالسلام بكربلاء، هرب غلامان من عسكر عبيدالله بن زياد، أحدهما: يقال له ابراهيم، والآخر: يقال له محمد، و كانا من ولد جعفر الطيار [68] ، فاذا هما بامرأة تسقي، فنظرت الي الغلامين، و الي حسنهما و جمالهما، فقالت لهما: من أنتما؟ قال: نحن من ولد جعفر الطيار في الجنة، هربنا من عسكر عبيدالله بن زياد.

فقالت المرأة: ان زوجي في عسكر عبيدالله بن زياد، و لو لا أني أخشي أن يجي ء الليلة، و الا ضيفتكما و أحسنت ضيافتكما، فقالا لها: أيتها المرأة انطلقي بنا، فنرجو أن لا يأتينا زوجك الليلة، فانطلقت المرأة و الغلامان حتي انتهيا الي منزلها، فأتتهما بطعام، فقالا: مالنا في الطعام من حاجة، ايتينا بمصلي نقضي فوائتنا فصليا، فانطلقا الي مضجعهما، فقال الأكبر للأصغر [69] : يا أخي و يا ابن امي التزمني و استنشق من رائحتي، فاني أظن أنها آخر ليلتي لا نصبح بعدها.

و ساق الحديث الي نحو ما مر في المجالس، الي أن قال: ثم هز السيف و ضرب عنق الأكبر، و رمي ببدنه الي الفرات، فقال الأصغر: سألتك بالله أن تتركني حتي أتمرغ بدم أخي ساعة، فال: و ما ينفعك ذلك؟ قال: هكذا احب، فتمرغ بدم أخيه ابراهيم ساعة، ثم قال له: قم، فلم يقم، فوضع السيف علي قفاه فضرب عنقه من قبل القفا، و رمي ببدنه الي الفرات، فكان بدن الأول علي وجه الفرات ساعة، حتي قذف الثاني فأقبل بدن الأول يشق الماء شقا، حتي التزم بدم أخيه، و مضيا في الماء، و سمع هذا الملعون صوتا من بدنهما و هما في الماء: رب تعلم و تري ما فعل بنا هذا الملعون، فاستوف لنا حقنا منه يوم القيامة.

ثم قال: فدعا عبيدالله بن زياد بغلام له أسود يقال له: نادر، فقال له: يا نادر دونك هذا الملعون شد كتفيه، فانطلق به الي الموضع الذي قتل الغلامين فيه،


فاضرب عنقه، و سلبه لك، و لك عشرة آلاف درهم، و أنت حر لوجه الله، فانطلق الغلام به الي الموضع الذي ضرب أعناقهما فيه، فقال: يا نادر لابد لك من قتلي؟ قال: نعم، فضرب عنقه، فرمي بجيفته الي الماء، فلم يقبله الماء و رمي به الي الشط، و أمر عبيدالله بن زياد أن يحرق بالنار، و صار الي عذاب الله [70] .

و في المنتخب نقل مثل ما مر، و فيه: ثم نظر ابن زياد الي ندمائه، و كان فيهم محب لأهل البيت، فقال له: خذ هذا الملعون و سر به الي موضع قتلهما فيه [71] ، و اضرب عنقه، و لا تدع أن يختلط دمه بدمهما، و خذ هذين الرأسين و ارمهما فيما رمي فيه أبدانهما، فأخذه و هو يقول: والله لو أعطاني ابن زياد جميع سلطنته ما قابلت هذه العطية، فقتله بعد أن عذبه بقلع عينيه، و قطع اذنيه و يديه و رجليه، و رمي بالرأسين في الفرات، فخرجت الأبدان، و ركبت علي الرؤوس بقدرة الله تعالي، ثم تحاضنا و غاصا في الفرات [72] .


پاورقي

[1] کذا في البحار و في الارشاد: تقبض.

[2] في البحار: للحسين.

[3] في البحار و الارشاد: انتزي.

[4] أي: بالسرعة.

[5] في البحار: و عبدالله و عبدالرحمن ابني عبدالله الارحبي.

[6] في البحار: و تواترت.

[7] قد يستعمل حيهلا بالألف مرکبا، و هو لغة في حيهل بمعني ايه کقول الشاعر:



بحيهلا يرجون کل مطية

امام المطايا سيرها المتقاذف‏



و يستعمل حي وحده بمعني أقبل و هلا أيضا وحده بمعناه، کقوله: ألا أبلغه البلي و قولا لها هلا، و قد يجتمعان للتأکيد کما هنا «منه».

[8] في البحار و الارشاد: التيمي.

[9] في المصدرين: له.

[10] سنن الطريق مثلثة و بضمتين: نهجه و جهته.

[11] في الارشاد: فجارا، و في البحار: فحازا.

[12] في البحار: حسبت.

[13] في المصدرين: بالقرف و لا الظنة.

[14] و في المنتخب: فلما قرأ يزيد الکتاب - أي: کتاب عبدالله الحضرمي - أنفذ الي الکوفة عمر بن سعد لعنه الله «منه».

[15] الارشاد 43 - 36: 2، و البحار 337 - 332: 44.

[16] اللهوف ص 19 - 16، و البحار 339 - 337: 44.

[17] مناقب آل أبي‏طالب 91: 4، و البحار 343: 44 عنه.

[18] مثير الأحزان، ص 31.

[19] مثير الأحزان ص 32 - 31، و البحار 344 - 343: 44 عنه.

[20] بحارالأنوار 344: 44 عن مقاتل الطالبيين ص 71.

[21] منهم مولي يقال له: معقل، فجاء الي مسلم بن عوسجة، فبعد ما توثق منه استأذن له من مسلم بن عقيل، فظفر به و بمن يختلف اليه من شيعته «منه».

[22] في اللهوف: بخائن لک. والخطاب في «أتتک» لنفسه و «رجلاه» فاعله. و الحائن بالحاء المهملة: الأحمق علي ما في القاموس. و يمکن أن يکون من الحين بالفتح بمعني الهلاک، فالحائن: الهالک. و اعجامه تصحيف «منه».

[23] في ايه أربع حالات: الاولي: ايه بالکسر بلا تنوين، و الثانية: مع التنوين، و کلاهما بمعني الأمر بالنطق، الا أن التنوين للتنکير، و المراد حدث الحديث المعهود. و الثالثة ايها بالنصب و التنوين، بمعني النهي عن الحديث و الکف عن الکلام. والرابعة: ايه باسکان الهاء، زجر بمعني حسبک. و کل الاحتمالات ملائم للمقام «منه».

[24] اللهوف في قتلي الطفوف ص 22 - 19.

[25] في المنتخب: حتي تکاثر.

[26] المنتخب ص 415.

[27] اللهوف ص 22.

[28] الارشاد 50: 2.

[29] الارشاد 50: 2.

[30] اللهوف ص 22.

[31] الارشاد 51 - 50: 2.

[32] روضة الواعظين ص 174 و في آخره: أن تغيب.

[33] اللهوف ص 23 - 22.

[34] الارشاد 54: 2.

[35] اللهوف ص 23.

[36] روضة الواعظين ص 175.

[37] المنتخب ص 415.

[38] قال في البحار: والتخاتج لعله جمع تختج معرب تخته، أي: نزعوا الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم؟ و ان لم يرد بهذا المعني في اللغة.

[39] في الارشاد: عليه أحد.

[40] الاستبراء: الاختبار و الاستعلام.

[41] الارشاد 57 - 55: 2، و البحار 352 - 350: 44.

[42] الأمالي للصدوق ص 114.

[43] بحارالأنوار 354: 44.

[44] الارشاد 58: 2، و البحار 352: 44 عنه.

[45] الجرامقة قوم من العجم صاروا في الموصل في أوائل الاسلام، الواحد جرمقاني. القاموس.

[46] في المنتخب: الکوفة.

[47] المنتخب ص 416.

[48] في البحار: فانتهز.

[49] الارشاد 59 - 58: 2.

[50] المنتخب ص 416.

[51] في الارشاد: تطلب.

[52] في الارشاد: ثنيتاه.

[53] بعد الشهادة بالتوحيد و الرسالة و الولاية لعلي عليه‏السلام کما في المنتخب «منه».

[54] في الارشاد: الدم الحرام.

[55] في الارشاد: تمنيک.

[56] في الارشاد: من أحدث.

[57] الارشاد 63 - 58: 2، و البحار 357 - 352: 44 عنه.

[58] اللهوف ص 25، و البحار 357: 44 عنه.

[59] بحارالأنوار 358: 44.

[60] الارشاد 64 - 63: 2، و البحار 358: 44 عنه.

[61] اللهوف ص 25.

[62] مناقب آل أبي‏طالب 94: 4.

[63] المنتخب ص 417.

[64] اللهوف ص 26 - 25، والارشاد 65 - 64: 2، و البحار 359 - 358: 44.

[65] في المصدرين: أعينهما.

[66] أمالي الصدوق ص 79 - 74، و البحار 105 - 100: 45 عنه.

[67] في البحار: الأئمه.

[68] يحتمل رفع المنافاة بکونهما من الأب منسوبين الي مسلم و من الام الي جعفر الطيار، أو بالعکس «منه».

[69] في البحار: فقال الأصغر للأکبر.

[70] بحارالأنوار 107 - 105: 45.

[71] في المنتخب: قتل فيه الغلامين.

[72] المنتخب ص 376.