بازگشت

مدلول قاعدة نفي الضرر


قد تبلغ الفقاهة (!!) بأحد إلي حد الاستدلال علي حرمة إيذاء النفس وإضرارها بقاعدة نفي الضرر [1] المستفاد من قوله (صلي الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) [2] .

وهذا الاستدلال مردود بوجوه:

الأول: أن القاعدة المذكورة - علي ما استظهره المحققون من أدلتها علي اختلاف تعبيراتهم - إنما تنفي ما يوجب الضرر من الأحكام، بمعني أن ما يكون منها ضرراً علي أحد من الله أو من العباد، منفي شرعاً وغير مجعول لله ولا ممضي عنده في أصل التشريع وبعده. وهذا - كما تري - لا يقتضي إلا عدم جعل الأحكام الضررية ورفع الحكم المجعول إذا لزم منه الضرر. وأين ذلك من ثبوت الحرمة في مورد الضرر كما يدعيه المدعي؟؟

نعم لو حمل لفظ (لا) في قوله (لا ضرر) علي نفي الحقيقة ادعاءً، بلحاظ نفي الحكم الثابت أو المناسب للضرر المنفي - كما يذهب إليه شيخنا المحقق صاحب الكفاية [3] - كان اللازم الحكم بعدم جواز إدماء الرأس حيث يكون ضرراً، لا مطلقاً. وهذا أخص من المدعي إن تم مبناه.

لكن إدماء الرأس لما كان نفسه ضرراً عند الكاتب [4] ، يلزمه - بمقتضي زعمه - عدم صحة الاستدلال بالقاعدة علي حرمته [5] ، لخروجه عنها موضوعاً، ضرورة أن الحكم المنفي بنفي الضرر - علي هذا الرأي - لا يعم الثابت للأفعال بما هي أمور ضررية، كالجهاد والزكاة، فضلاً عن نفس الضرر، لأن كون الشيء ضررياً أو ضرراً علة لنفي الحكم بالفرض، ولا يعقل أن يكون الموضوع في ظرف تحققه مانعاً عن ثبوت حكمه، علي أن الحكم المناسب أو المتوهم لنفس الضرر هو الحرمة، ونفيها بالقاعدة ينتج ضد المدعي.

وليست القاعدة بمثبتة لحكم ما، وإنما هي من القواعد النافية للأحكام علي جميع الآراء، غاية الأمر نفيها يلزمه الحكم بالحرمة في بعض الفروض، لا أن الحرمة هي مؤدّي نفس القاعدة.

نعم، لو حمل لفظ (لا) علي النهي - كما تفرّد به البدخشي، وتبعه شاذ منّا [6] - لكان لما ذكر من التحريم وجه، لكن حمل (لا) علي النهي غير وجيه، لوجوه مبينة في غير هذا الموضع.

الثاني: أن القاعدة - علي المذهب المشهور - في مدلولها (وهو الذي يلوح من الكاتب اختياره) [7] مختصة بالإلزاميات، ولا تشمل المباحات والمندوبات، لما فصلناه آنفاً من أن رفع الحكم الذي يتأتّي من قبله الضرر للامتنان، ولا منّة في رفع المندوبات، ومن ارتفاع الضرر موضوعاً مع الترخيص في الترك، كما يصرّح بذلك شيخنا المرتضي في (رسالة الضرر)، إذ يقول: (إن إباحة الضرر، بل طلبه استحباباً، ليس حكماً ضررياً، ولا يلزم من جعله ضرر علي المكلفين، ليكون مرفوعاً بالقاعدة) [8] . ومن [9] أن الظاهر من أدلة القاعدة عدم كون جعل الشارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف في الضرر، وهو إنما يكون سبباً كذلك إذا كان حكمه إلزامياً، لأن الإلقاء في الضرر لو كان الحكم غير إلزامي، يكون مستنداً إلي اختيار المكلّف، لا إلي جعل الشرع. ومن [10] وقوع المندوبات الضررية بكثرة فائقة في الشرع [11] ، وذلك آية اختصاص القاعدة بغيرها.

وربما يزاد هنا وجه آخر، وهو أن كون عدم جعل الحكم الضرري - إحداثاً وإبقاءً - للامتنان، يقتضي جواز أن يؤذي الإنسان نفسه ويضرها بغير القتل، فإن منعه عن ذلك خلاف الامتنان، بخلاف إضرار الغير، فإن في رفعه كمال المنة بانتظام أمر النوع [12] .

الثالث: أن مذهب أصحابنا كافة - كما يعلم من تتبع كلماتهم في الموارد المتفرقة - أن المرفوع بقاعدة الضرر في العبادات الضرر الشخصي، لا النوعي الغالبي [13] ، بمعني أن الحكم في مورده الخاص إذا لزم منه الضرر علي شخص يرتفع عنه، دون كلّيه ودون كلي الأشخاص.


پاورقي

[1] لمّا بلغت الفقاهة إلي حد الاستدلال علي حرمة الضرر بما دل علي رفع الحکم عند حصول العسر والحرج (!!)، فلا بدع أن تبلغ حد الاستدلال بقاعدة الضرر علي حرمته.

[2] الحديث عن النبي بهذا المضمون ورد مرسلاً في (تذکرة الفقهاء) 1: 522. وورد مسنداً بتعبير (لا ضرر ولا ضرار) في (وسائل الشيعة) 17: 319، 341:17. وورد بتعبير (لا ضرر ولا ضرار علي المؤمن) في (الوسائل) 17: 341. م.

[3] کفاية الأصول 1: 381 م.

[4] إذ يقول في ص 21: (الجرح نفسه ضرر، وإيذاءٌ محرّم)، وفي ص 14: (الحجامة محرمة بالأصل، لأنها ضرر وإيذاء للنفس).

[5] بل القاعدة - علي هذا الرأي - تنفي الحکم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية في حال الضرر، ولا تعمّ غيره، وإلاّ لوقعت المعارضة بين ما دل علي وجوب الزکاة - مثلاً - وبين أدلة القاعدة، وذلک مما لم يقل به أو يتوهمه أحد من العلماء.

[6] هو الفاضل النراقي في (عوائد الأيام). م.

[7] إذ يقول في ص 17 من رسالته: (إن الله لم يجعل حکماً ضررياً، بمقتضي قوله (صلي الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار).

[8] قاعدة نفي الضرر: 278. م.

[9] هذا هو الدليل الثالث من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م.

[10] هذا هو الدليل الرابع من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م.

[11] وقد ذکرنا في باب الحرج کثيراً من العبادات الضرورية، فراجعها، ويأتي في توابع هذا الفصل أضعافها.

[12] لا يقال: جواز إضرار الإنسان نفسه يختل به أمر النوع أيضاً، لأنا نقول: أن هذا تمنع من وقوعه الفطرة والجبلة، فهو مهما جاز شرعاً، يکون نادر الوقوع أو معدوماً خارجاً، لا محالة فلا يحصل اختلال النظام بخلاف إضرار الغير، فإنه لا رادع عنه من طبع أو غيره، بل هو من شيم النفوس، والمناسب للامتنان کمال المناسبة رفعه.

[13] لأن لازم هذا ارتفاع الحکم عمن لا يکون في حقه ضررياً إذا کان ذلک موجباً لضرر الأغلب، وهذا لا يلتزم به أحد في باب العبادات الضررية، مع أن فيه تفويت مصلحة الفعل بلا تدارک، وهو خلاف الامتنان الذي شرعت لأجله القاعدة.