بازگشت

الدليل النقلي علي حرمة الاضرار


ظن شيخنا الأعظم في (رسالة الظن) دلالة بعض الآيات [1] علي حرمة تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية والأخروية المظنونة.

وهي علي تقدير دلالتا علي حكم التعريض المذكور، لا تدل إلاّ علي الطلب الإرشادي، لا التحريم الشرعي [2] ، وأكثرها يدل علي الإيعاد علي ترتب لوازم مخالفة الشارع.

أما الكاتب فإنه لم يذكر من الأدلة النقلية سوي أدلة نفي الحرج، كما في ص 3، وهذه لو تمت دلالتها لا تقتضي علي مذهبه - المصرح به في ص 17 و18 و 20 [3] إلا رفع الحكم في مورد تحقق الحرج، فأين ما يدل علي ارتفاع الحكم عند الضرر، فضلاً عما يدل علي ثبوت الحرمة؟

ولو أنه ادعي رفع الحكم عند حصول الضرر بالفحوي، بقي ما يدعيه من ثبوت الحرمة بغير دليل، لأن أدلة نفي الحرج لا تفي بذلك قطعاً باعترافه - في المواضع المشار إليها -.

أما إذا تمسّك بما دل علي سهولة الشريعة وسماحتها وعدم جعل الحكم الحرجي فيها بأصل التشريع، لو تم ذلك [4] من حيث دلالته بالفحوي علي عدم جعل الحكم الضرري كذلك، كان:

أولاً: محجوجاً بمثل الجهاد والختان وغيرهما، فإن الحكم الإيجابي متعلق بهما في أصل التشريع مع كونهما مضرين، وتخصيص مثل قاعدة الحرج المفروض استفادة حكم الضرر منها، مع سوقها مساق الامتنان، في غاية البعد.

ولو أنه تخلص عن النقض بالجهاد - بما لا حاجة إلي ذكره الآن - فلا مخلّص له في مسألة الختان، وثقب الآذان والأنوف، والوشم، وخصوص ختان الخنثي المشكل إلاّ الالتزام بمشروعية المؤذي في الجملة. هذا مضافاً إلي ما سيمرّ عليك مفصلاً من الإيذاءات الاختيارية الواقعة من الأئمة (عليهم السلام) لأنفسهم في العبادات وغيرها [5] .

وثانياً: أن مقتضي تلك الأدلة أن الله تعالي لم يجعل في أصل التشريع حكماً ضررياً، بمعني أنه لم يشرع حكماً يأتي من قبله الضرر.

والحكم الإستحبابي مهما كان متعلقه مضراً بذاته كالقتل، فضلاً عن إدماء الرأس، ليس بحكم ضرري، إذ المراد بالضرري ما يجيء الضرر من قبله، ويكون هو الموقع للإنسان في الضرر، والحكم إنما يكون كذلك إذا كان إلزامياً، غير مرخّص بتركه، كما سيأتي تفصيل ذلك في قاعدة الضرر.

وقول الكاتب - في مواضع من رسالته -: (الجرح ضرر، وإدماء الرأس ضرر) من التمويهات والأوهام. نعم هو ضرر، أي: أمر هو بذاته مضر، ولكن ماذا يترتب علي كونه ضرراً بالمعني المذكور إذا كان الشرع لم يرفع الضرر رفعاً تكوينياً، ولا نهي أن يضر أحد نفسه بالفرض، وإنما نفي - بفحوي أدلة الحرج، أو بقاعدة الضرر الآتية - أن يجيء من قبله الضرر المنحصر ذلك في كون حكمه الذي بيده رفعه ووضعه ضررياً، ولا ريب أن كونه كذلك إنما يتحقق إذا كان حكمه إلزامياً، سواء كان موضوعه مضراً بذاته أم لا، ولا أثر للمضرية الذاتية للشيء بمجردها إذا كان حكمه مرخصاً في تركه.


پاورقي

[1] وهي آية النبأ بمقتضي التعليل الموجود فيها، وقوله تعالي: (ولا تلقوا بأيديکم إلي التهلکة)، (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، (واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منکم خاصّة)، (ويحذّرکم الله نفسه)، (أفأمن الذين مکروا السيّئات..).

[2] التحريم الشرعي لا يتصوّر بالنسبة إلي الضرر الأخروي المقطوع، فضلاً عن غيره، وأما الدنيوي فإنه وإن کان قابلاً لتعلق الحکم الشرعي بالمظنون منه أو المطقوع من باب الموضوعية، إلاّ أن ذلک خلاف ما ذکر من الآيات، لأنها علي تقدير دلالتها علي حکم تعريض النفس للأضرار لا تدل إلا علي الطلب الإرشادي بالتحذر عن الوقوع في المضار، لما أنها غير ملائمة للطباع.

[3] في ص 17: المؤذي والشاق غيران حکماً وموضوعاً. وفي ص 18 و 20: الکلفة إذا بلغت حد العسر، أوجبت رفع الحکم. وإذا بلغت حد الضرر، أوجبت حرمة الفعل.

[4] إشارة إلي نقوض کثيرة موردة علي القاعدة المذکورة تدل علي عدم تماميتها. وقد ذکرها بحر العلوم، وکاشف الغطاء، وصاحب الفصول، والفاضل النراقي، وشيخنا المرتضي، وکثير من تلامذته، وتکلفوا في الجواب عنها. وتخصيص القاعدة بها في مورد الامتنان، بعيد. وتوجيهها بأن ملاحظة کثرة الثواب المترتب عليها يوجب عدم الضرر والحرج فيها، کما تري، لأن الملاحظة المذکورة وإن صح أن تکون داعياً لبعض النفوس إلي الإقدام علي الضرر والمشقّة، إلاّ أن ذلک لا يوجب انقلاب الحکم عما هو عليه من کونه شاقاً أو ضررياً. ولعل تأويل ما دل علي عدم جعل الحکم الحرجي بالأصل، إلي إرادة رفع ما يعرض عليه الحرج من الأحکام المشروعة، أسلم من التوجيه المذکور وغيره.

[5] کتحملهم الجوع المفرط ثلاثة أيام، وتورم أقدامهم من القيام للصلاة، ومن المشي للحج، وانخرام آنافهم، وأثفان جباههم من السجود، وغير ذلک مما ستعرفه مفصلاً.