بازگشت

لا ضرر في التطبير


وعلي كل حال فإن إدماء الرأس بمجرده ليس ضرراً ولا مما يقطع أو يظن بكونه ضرراً. نعم لا ريب في كونه إيذاءً للنفس وإيلاماً، والإيذاء غير الضرر.

وربما يدعي أنه لا فطرة ولا جبلة تقضي بالفرار إلا عن الضرر، أعني الموجب لخطر الهلاك، لا عن مطلق إيذاء النفس وإيلامها [1] .

ولو فرض تساويهما في لزوم الدفع بالفطرة، لم يجد ذلك في دعوي حكم العقل المزعوم، لأن النفرة عن شيء بالطبع، غير حكم العقل بلزوم الفرار عنه، وآية ذلك أنك تجد الإنسان عند تسليم نفسه للفصد، أو الحجامة، أو لعملية جراحية، يرضي بذلك، ويريده بعقله، ولكنه كاره له بطبعه حينما هو راض به، فهو يفضل الحكم العقلي ترجيحاً للمنفعة علي الدافع الجبلي.

وأخري أن العقلاء مع فطرتهم وجبلتهم يقتحمون موارد الضرر المقطوع - فضلاً عن المظنون والمحتمل - لأغراض لهم لا تقع تحت الحصر، ومع ذلك لا يرون في تجاوزهم حد الفطرة والجبلة قبحاً عقلاً، ولا مراغمة إلا لحكم الفطرة الذي يكون مغلوباً كثيراً لحكم العقل. كما أنهم في بعض الموارد يحجمون عن الاقتحام في الضرر المحتمل، فضلاً عن المظنون والمقطوع، حسبما يتجلي لهم أهمية أحد الأمرين: السلامة والخطر [2] .

ومعلوم أن مخالفة الأمر الجبلي بما هو أمر يندفع إليه أو عنه الإنسان بطبعه، لا تستدعي حرمة شرعية ولا عقاباً أخروياً.

وبلحاظ الأهمية التي أشرنا إليها تقدم النساء علي الوشم المتعارف، وعلي قلع الأسنان الخلفية، ويقتحم الرجال خطر المهالك في المفاوز وغمرات البحار للتجارة إزاء منافع دنيوية ينالونها، ويرتكبون المحن المجهدة الشاقة والمضرة بالبدن.

ولعله بلحاظ هذه الأهمية أفتي الشهيدين في (القواعد) و(تمهيدها) بجواز أن يسلّم الإنسان نفسه للقتل إذا أُجبر علي إظهار كلمة الكفر، كما يدل علي ذلك تعليلهما بأن في القتل إعزازاً للإسلام وتثبيت عقائد العوام [3] . مع أن إظهار كلمة الكفر جائز إجماعاً ونصّاً كتاباً وسنّة، إن لم يكن واجباً حفظاً للنفس. وما ذلك إلاّ لأهمّية إظهار عزّ الإسلام وتثبيت عقائد العوام علي السلامة عن أعظم الأضرار والآلام.

وإذا كان المحسوس لعرفاء الجعفرية أن إعزاز طريقتهم وتثبيت عقائد عوامهم بسمو مراتب أئمتهم، واجتماع كلمتهم، وتميّزهم عن سائر الشّيع، وظهورهم للملأ بمظهر أكبر الفرق، يكون بإشهار مصيبة الحسين (عليه السلام) بمظاهرها المتنوعة التي منها تمثيله (عليه السلام) وأصحابه مثخنين بالجراح، وقد سالت دماؤهم علي ثيابهم المتخذة أكفاناً لهم، فلماذا ينكر عليهم إذا فضلّوا ذلك بما فيه من تعب وألم علي الراحة والدعة، وهم علي كل حال ناجون من الخطر، واثقون بالسلامة؟

لماذا ينكر عليهم إذا وقفوا يمثّلون إمامهم مفادياً بروحه العزيزة في سبيل نصرة الدين - علي قلّة الناصر، ووفور العدو عدّة وعدداً -، يرون الناس وكأنهم يخاطبونهم - بلسان الحال - بأنّ رجلاً تكون هذه حاله في المفاداة مع كونه أقرب الناس إلي الرسول والبقية من أهل البيت الطاهرين، هو الذي ينبغي أن يكون إمام الحق، وهو الذي يلزم اتّباعه والإقتداء بأفعاله البارة، دون سائر المنتحلين اسم الزعامة الدينية في الإسلام.


پاورقي

[1] قيل: ولعل الخلاف في کون وجوب دفع الضرر المظنون إلزامياً - کما عليه الأکثر، أو استحسانياً - کما عليه الحاجبي - مبني علي توهم تعميم المضر للمؤذي، وإلاّ فلا ريب في أن دفع المؤذي - کإدماء الرأس - إذا لم يکن فيه ضرر (أي: تعريض النفس للخطر الهلاک)، ليس إلزامياً، والتحرز عن مظنونه احتياط مستحسن، ولذلک يقدم عليه العقلاء، ولولا لغرض معتد به، بلا تحاش ومن دون مراغمة للفطرة.

[2] أن دفع الضرر لکونه جبلياً - لا حکماً عقلياً - لا يقف العقلاء علي حد الجبلة بحيث لا يتجاوزونه إلا بقاسر، بداهة أنهم يلقون بأيديهم إلي المؤذيات والأضرار حسب تفاوت مراتبها، حتي مرتبة الهلاک، فإنهم يتخطون إليها اختياراً لأغراضهم المتنوعة، ولا يرون في ذلک قبحاً عقلاً، ولا استهجاناً، ولا يجدون مراغمة إلا للفطرة والجبلة التي تتبع أهم الأمرين، وکثيراً ما تفضّل الهلاک علي السلامة لرجاء الفوز بعاقبة تهون الأخطار دونها، أو للخلاص عن بؤس الحياة وتعاستها.

[3] القواعد 1: 124. م.