بازگشت

الدليل العقلي علي حرمة الايذاء


إن جعل العقل شارعَ إيجابٍ وتحريم، إنزالٌ له في أرفع من منزله، بداهة أنه يحكم علي الأشياء تبعاً لما يدرك فيها من حسن أو قبح لذاتها، أو لما يطرأ عليها من العناوين المحسنة والمقبحة بمدح فاعلها، أو ذمّة، ولا يحكم البتة بأن حكمها الوجوب أو الحرمة عنده ولا عند الشرع، بمعني استحقاق فاعلها أو تاركها الجزاء الأخروي، إلا إذا كان مدركاً واجدية الشيء لملاك التحريم شرعاً، بمعني كونه علي الصفة التي تكون علة تامة لحكم الشرع عليه بالحرمة.

ولكن هذا بابٌ منسدٌّ غالباً، بل دائماً في وجه العقل، لأن دعوي إدراكه ذلك في قوة دعوي إدراكه حكم الله تعالي.

أما حكمه الايجابي أو التحريمي - لا بالمعني المذكور، بل - بمعني إلزامه بفعل شيء أو تركه لملاكات شتي [1] ، لا يعلم بثبوت الملازمة بينها وبين حكم الشرع بالوجوب والتحريم المصطلحين، ككون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، فذلك مما لا ريب فيه، لكنه لا يجدي شيئاً في ما يحاوله مدعي حرمة الإيذاء والإضرار عقلاً، لأن حقيقة هذا المعني المسمي (حكماً عقلياً) لا يزيد علي مجرد إدراك العقل حسن الشيء أو قبحه، بمعني كونه علي الصفة التي لو خلت عن الموانع والمزاحمات واقعاً، لجهة حسنه أو قبحه المدركين عقلاً، لكان واجباً أو حراماً شرعاً.

وهذا المعني من حكم العقل قاصر عن إثبات الحرمة المصطلحة، إذاً فما معني حرمة الإضرار عقلاً؟ وما هو الملاك لحكم العقل بحرمته؟

إن العقل لا يحكم علي الأشياء بعناوينها العارضة عليها حكماً جزافياً، بل لابد له في حكمه من ملاك يتبعه، وإذا كان هو لا يدرك في مطلق ما يؤذي النفس واجديته لملاك التحريم شرعاً، وكان نفس كونه منافراً للطبع أو مؤذياً أو مضراً، لا يستتبع حرمته عقلاً ولا شرعاً بمعني استحقاق العقاب عليه [2] ، فما هو الملاك لحكمه علي عنوان المضر للنفس بلزوم تركه حتي لو بلغ الضرر إلي درجة هلاك النفس، فضلاً عما دونه؟ [3]

أجل! إن دفع الضرر عن النفس أمر جبلي فطري، وليس بحكم عقلي يتبع ملاكاً يخصه أو يعمه تبعية المعلول لعلته، ولذلك يشترك فيه الإنسان العاقل وسائر الحيوانات العجم، فإنها بما أودع في طباعها بأصل الخلقة، تتحرز عن مظان الوقوع في الضرر، وهذا هو الضرر المقطوع أو المظنون مما لا تعتري العقول فيه شبهة.


پاورقي

[1] بعضها لا يبتني علي التحسين والتقبيح العقليين، کحکمه في باب المقدمة بوجوبها، وفي الضد بحرمته، وشبه ذلک من الملازمات التي ليس ما نحن فيه منها قطعاً، ومن هذا الباب حکمه باتباع الظن الانسدادي علي القول بالحکومة، کما لا يخفي.

[2] قد تقرر في الأصول أن الحسن والقبح العقليين، بمعني کون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، لا يستتبع حکماً عقلاً ولا شرعاً بوجوب الملائم، وحرمة المنافر، بمعني استحقاق الجزاء الأخروي عليهما.

[3] وفذلکة الأمر أن حکم العقل القطعي المستقل مفقود قطعاً، وغير المستقل - إن ثبت - لا يجدي شيئاً، ودعوي کون الضرر من الظلم، ستعرف ما فيها.