بازگشت

ادلة نفي العسر والحرج لا تشمل الشعائر الحسينية


وسواء أراد الكاتب أن بعض الشعائر الحسينية فيه عسر فلا يكون مما له حكم شرعي مجعول في المذهب من أصله، أو أراد أن حكمه الثابت له - ولو لطروّ عنوان كونه إبكاءً أو جزعاً أو حزناً أو إسعاداً أو غير ذلك - مرفوع لعروض العسر عليه، فيرد بوجوه، نذكر المهم منها:

الأول: إن قاعدة العسر والحرج بمعنييهما السالفين مختصة - علي ما صرح به كثير - بالإلزاميات، لا تشمل غيرها.

والظاهر أنّ فقهاءنا لا يختلفون في ذلك، ولذلك جزموا بشرعية العبادات الشاقة المستحبة وصحتها، كصوم الدهر - غير العيدين -، وإحياء الليالي بالعبادة في تمام العمر إذا لم يوجب ضرراً، والحج متسكعاً لمن ليس عليه فرض الحج.

والوجه في ذلك أمور:

أحدها: أنّ رفع الحكم الحرجي إنما هو للامتنان، ولا منّة في رفع المندوبات والسنن، بل المنّة في ثبوتها.

ثانيها: إنه لا يعقل تحقق الحرج مع الترخيص في الترك، لأن الحرج إنما يكون من قبل الحكم، لا من قبل متعلقه، مهما كان بذاته مشاقاً، ولذلك لا تجري القاعدة في الواجب المخيّر إذا تجرد بعض آحاده عن الحرج [1] .

ثالثها: إن الظاهر من أدلة الحرج عدم كون جعل الشارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف في الحرج بحيث يستند وقوعه فيه إلي جعله، وهذا إنما يكون في الإلزاميات فقط، دون ما رخص الشارع في تركه [2] .

رابعها: إن المتتبع للتكاليف أدني تتبّع يعلم أن التكاليف غير الإلزامية - مع كونها أكثر من الإلزاميات أضعافاً مضاعفة - هي أشق منها بمراتب، كالصوم ندباً في الصيف، وإحياء الليالي الطوال بالعبادة، وطي الوقت بالجوع، وصلاة ألف ركعة في كل يوم وليلة، والوقوف ماثلاً بمقدار أن يقرأ ألف سورة - ولو مثل التوحيد - في ركعة واحدة -، والسجود علي حجارة خشنة من الفجر إلي ما بعد طلوع الشمس مثلاً وشبه ذلك من الأمور الشاقة، التي يعلم كل من مارس الأدلة وكيفية الاستدلال أن شرعيتها لا تنافي سهولة الشريعة وعدم الحرج فيها، لحصول السهولة والخروج عن الضيق بتركها، واختيار ما هو أسهل منها، وإن لم يلزم ذلك.

والحاصل أن نفس كون المندوبات عسرة بذاتها أو بكثرتها [3] يدل علي اختصاص القاعدة بالواجبات والمحرمات، فيسقط قول الكاتب من أصله.

ولو أن فقيهاً أجري قاعدة الحرج في المندوبات لاستراح الناس منها، وحرموا ثوابها - علي رأي الكاتب -، لأن الحرج عنده يرفع الحكم ويكون الترك بمقتضي كلامه عزيمة لا رخصة، وإلاّ جاء المحذور!! [4]

الثاني [5] : إن فقهاءنا مختلفون في أن المنفي بعمومات الحرج هل هو الحرج الشخصي أو النوعي الغالبي، ومختار المحققين منهم المحقق الأنصاري وصاحب المستند الأول، وهو الحق [6] . ومقتضاه عدم ارتفاع الحكم إلا عمن يكون الحكم في حقه عسراً.

ولا ريب في أن المشقة - إذا كانت حاصلة في تلك الشعائر المذهبية - ليست عامة لجميع الشيعة قطعاً، فلماذا تعد غير مشروعة أو غير مندوبة علي الإطلاق بحجة ارتفاع حكمها للعسر؟ والعسر لا يقتضي ارتفاع الحكم عمّن لا عسر عليه.

وإذا كان الضرب علي الصدر باليد، أو علي الظهر بسلسلة، عسراً علي الكاتب، فليسقط عن نفسه وأمثاله، ولا ينبغي له أن يتعرض لحال غيره ممن لا عسر في حقه، أو كان يتحمل المشقة والعسر.

وإذا تسني بالوجوه الصحيحة لجماعة كثيرة من فقهائنا تقييد الشين [7] - الذي دلت الأخبار علي جواز التيمم عند حدوثه من استعمال الماء [8] - بالفاحش [9] وآخرين بما لا يتحمل في العادة [10] ، وثالث بالشديد الذي يعسر تحمله [11] ، ورابع بما إذا غير الخلقة وشوهها [12] مع إطلاق الأدلة بالنسبة إلي جميع هذه التقييدات، فإن بإمكان كل أحد إنكار أن يكون شيء من الشعائر الحسينية - عدا إدماء الرأس - عسراً [13] .

الثالث: إن المعروف بين أصحابنا مشروعية العبادات الحرجية وصحتها، كالصوم الحرجي، والطهارة الحرجية من الوضوء والغسل للغايات الواجبة، والصلاة قائماً لمن كان القيام في حقه عسراً من جهة مرض أو غيره، وغير ذلك من الموارد، بل لا أعرف أحداً حكم بعدم مشروعيتها للحرج إلا (كاشف الغطاء) إذ قاسها علي العبادات الضررية.

وشتان بينهما، فإن الضرر ببعض مراتبه ينتفي معه جواز الفعل [14] ، وليس كذلك الحرج بأي مرتبة منه باعتراف هذا الرجل. وإلاّ بعض [15] مشايخنا، لكن في ماله بدلٌ اضطراري كالوضوء [16] ، لا مطلقاً.

وقد اختلفت كلمة الأصوليين منّا في وجه ذلك [17] ، ولسنا بصدد بيانه.

وعلي هذا لو توضّأ من يكون الوضوء عليه عسراً بقصد رجحانه الذاتي، يرتفع حدثه ويسقط عنه وجوب التيمم، لارتفاع موضوعه وكذا من يكون الصوم في حقه حرجياً مع عدم تضرره به، أو تحمّل العسر وصام بلحاظ حسنه ورجحانه ذاتاً، كان صومه جائزاً ومسقطاً للقضاء.

فلماذا يا تري كانت الشعائر الحسينية إذا فرض رجحانها لذاتها، أو بعنوان كونها من الإبكاء وإظهار الحزن والجزع علي سيد الشهداء [18] ، غير مشروعة، أو غير محكومة بالاستحباب لمجر دعوي كونها متعسرة، ذلك الأمر الذي يشاركها فيها سائر المتعسّرات؟؟

وهلاّ وسع الضرب علي الصدر ما وسع غيره من المستحبات والواجبات الشاقة التي أفتي الأصحاب بشرعيتها مع المشقّة وحصول الثواب عليها. وهاهو الكاتب في ص 2 يقول في شأن الشعائر الحسينية: (دخلت فيها المنكرات لإفسادها وإبطال منافعها).

في ختام هذا الفصل يجب الالتفات لدقيقتين:


پاورقي

[1] هذا الوجه ذکره في الفصول.

[2] هذا الوجه ذکره المحقق الآشتياني. وربما يدعي رجوعه علي سابقه، ولکن لا يخفي أن الفرق بينهما هو أن الملحوظ في الأول دعوي انتفاء الحرج موضوعاً مع الترخيص في الترک. وفي الثاني لم يلحظ إلاّ مفاد الأدلة وما يستظهر منها مع الغض عن تحقّق الحرج أو انتفائه مع الترخيص في الترک.

[3] قد يحصل العسر في بعض المندوبات من نفس کثرتها، کالأعمال المندوبة في ليلة القدر التي لا تفي بها أطول ليلة، النصف من شعبان، وما بين الزوال وغروب الشمس يوم عرفة، وفي اليوم الخامس عشر من شهر رجب، وغير ذلک. ولا ريب أن نفس تکثر المندوبات وصعوبتها نوعاً دليل اختصاص القاعدة بغيرها، وکذا المکروهات. ومن هنا استشکل في استحباب الجميع، حيث انه موجب للاختلال، بل الجمع بين المستحبات الواقعة في الشريعة بحسب أجزاء الزمان مما لا يقدر عليه، ولذلک قيل بأنه من باب التزاحم، فيقدم أهمها، أو التخيير مطلقاً.

[4] لأن الحرج عنده لا يتأتي من قبل الحکم، وإلا يسقط کلامه من رأس بل کون الفعل حرجياً يقتضي عدم جعل الحکم له، والفعل حرجي دائماً مهما کان حکمه، فلا يکون جائزاً أبداً، وإلاّ إذا تغيّر تغيّراً تکوينياً بانقلاب حقيقته إلي فعل آخر غير حرجي.

[5] أي: الثاني من أهم الوجوه التي ترد علي الکاتب أن أراد أنه لا حکم مجعول في الشريعة لبعض الشعائر الذي فيه عسر، أو أن حکمها مرفوع بسبب العسر. م.

[6] لأن ظاهر خطابات أدلة الحرج تعلقها بکل مکلّف، لا بالمجموع، کقوله تعالي: (کتب عليکم الصيام)، ولأن رفع الحکم الحرجي للامتنان بلا شبهة، ولا يناسب ذلک رفعه عمن لا يکون الحکم في حقه حرجياً.

[7] الشين: ما يعلو البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة، أو الموجبة لتشقق الجلد وخروج الدم. م.

[8] وسائل الشيعة 2: 967- 969، م.

[9] منهم العلامة في المنتهي [1: 135]، والمحقق والشهيد الثانيان في جامع المقاصد [1: 472] والروضة [1: 153]، وکاشف اللثام [لم أجده].

[10] حکي عنهم ذلک صاحب الجواهر [الجواهر 5: 103-104].

[11] هو صاحب الجواهر نفسه 5: 106.

[12] هو الفاضل السبزواري في الکفاية [کفاية الأحکام: 8].

[13] أي: الثالث من أهم الوجوه التي ترد علي الکاتب إن أراد أنه لا حکم مجعولاً في الشريعة لبعض الشعائر الذي فيه العسر، أو أن حکمها مرفوع بسبب العسر. م.

[14] هذه المراتب هي: الموت، قطع عضو من أعضاء الجسم کاليد والرجل، ألم شديد طويل المدة الذي لا يتحمل عادةً، فإذا استلزم فعل أحد هذه الأمور الثلاثة، فهو موجب لرفع التکليف وحرمة الفعل. ولا يخفي أن القيام بالشعائر الحسينية وبالخصوص التطبير والضرب بالسلاسل علي الظهر لا يوجب أحد هذه الأمور الثلاثة يقيناً. م.

[15] هذا عطف علي قوله: (إلا کاشف الغطاء). م.

[16] وإلاّ لزم تساوي البدل الاضطراري ومبدله في الرتبة، وذلک خلاف ما يستفاد من أدلة البدلية الاضطرارية، وهذا من الشواهد عند هذا القائل علي ارتفاع الحکم عند الحرج ملاکاً وخطاباً في ذلک المورد، لا الإلزام به فقط.

[17] الذي استقر عليه الرأي الأخير لهم هو أن المرفوع بأدلة الحرج - حسب ما يستفاد منها ومن الخارج - هو الإلزام بالفعل رعاية لعنوان التسهيل الذي هو أهم بنظر الشرع من بقاء الفعل علي ما هو عليه من رجحانه وحسنه الذاتي. وهذا المقدار من الرجحان الذاتي يکفي في صحة الفعل العبادي إذا أتي به المکلّف لداعي کونه کذلک عند المولي، ولا تتوقف صحته عند المحققين علي أزيد من ذلک، ولذلک حکموا بصحة العبادة في موارد خالية عن الطلب في بعض الفروض.

[18] حيث وردت أدلة خاصة علي استحباب هذه الأمور. م.