بازگشت

استثناء الغناء في الرثاء


قد استثني فقهاؤنا من حرمة الغناء أفراداً، بعضها ذهب الأكثر إلي استثنائه، والبعض الآخر لا يزال مذهب الأقلّين، ولا يهمّنا التعرّض لذلك، لأنّ محطّ النظر الغناء في رثاء سيد الشهداء.

وقد حكي المحقق الثاني في (جامع المقاصد) [1] والوحيد البهبهاني في محكي حواشي المسالك [2] قولاً باستثنائه فيه، نظير استثنائه في الأعراس.

ويظهر من المقدس الأردبيلي في (مجمع الفائدة) جوازه فيه، ووجود القول به قبله [3] . وتلميذه الفاضل السبزواري في (الكفاية) جوّزه فيه وفي كل ما ليس بلهوٍ ولا باطل من قرآن ومناجاة [4] .

وبذلك صرح الفاضل النراقي في (مستند الشيعة) [5] ، وولده في كتابه (مشارق الأنوار)، وزاد هذا رثاء أولاد الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم إذا قصد به الإبكاء والتحزين.

بل حكي شيخنا المرتضي الأنصاري في (المكاسب) عن بعض أهل عصره تقليداً لمن سبقه من الأعيان، منع صدق الغناء في المراثي [6] ومراده بـ(من سبق من أعياننا) علي الظاهر كاشف الغطاء في محكي (شرح القواعد)، فإنه حُكي عنه دعوي أنّ الغناء والرثاء متغايران متباينان موضوعاً وحكماً، لا يطلق أحدهما علي الآخر عرفاً.

وهذا منه مبني علي أن لمواد الألفاظ دخلاً في كون الصوت غناءً أو رثاءً. والتحقيق خلاف ذلك.

وكيف كان فقد قال هؤلاء المجوزون أنّ الأصل الجواز [7] بعد قصور أدلة الحرمة عن الشمول لذلك: أما الإجماع فلانتفائه في محل الخلاف، مع كونه دليلاً لبّياً، وأما الأخبار - فمع قصور إطلاقاتها [8] - معارضة بالمحكي عن (قرب الإسناد) عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي (عليه السلام) قال: سألته عن الغناء في الفطر والأضحي والنوح [9] قال: (لا بأس ما لم يعص به) [10] . والظاهر أن المراد بعدم العصيان به عدم قيامه بكلام لهوٍ أو باطل أو بمزمار [11] .

ويؤيّد هذا قوله (عليه السلام) في المحكي عن نفس كتاب علي بن جعفر (لا بأس ما لم يزمر به) [12] .

وأيّد ذلك المقدس الأردبيلي وغيره بأنه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلي زمانه من غير تذكير، وبما دل علي جواز النياحة بالغناء وأخذ الأجرة عليها، ثم ذكر أخبار جواز مطلق النياحة الشاملة للغناء ومؤيداتها، ومؤيدات جواز الغناء في الرثاء من أنّ تحريم الغناء للطرب، ولهذا قيّد بالمطرب، وليس في المراثي طرب، بل ليس إلاّ الحزن. إلي أن قال: (وبالجملة: عدم ظهور دليل علي التحريم، والأصل، وأدلة جواز النياحة مطلقاً، بحيث يشمل الغناء، بل إنّها لا تكون إلاّ معه، تفيد الجواز، والاجتناب أولي وأحوط) [13] انتهي.

قلت: ويؤيّد هذا - وإن لم أذهب إليه واختاره [14] - خبر أبي هارون المكفوف [15] قال: قال لي أبو عبد الله: (أنشدني في الحسين) (عليه السلام)، فأنشدته. قال: (أنشدني كما تنشدون، يعني بالرقة). فأنشدته:



امرر علـي جــــدث الحــــسين

وقــــــل لأعـــــظمه الــــــزكية



الخبر [16] .

وخبره الآخر: قال: دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (أنشدني). فأنشدته. فقال: (لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره). فأنشدته... الخبر [17] .

فإن قوله (عليه السلام) في هذين الخبرين (كما تنشدون) يراد به - علي الظاهر - كما تنشدون الشعر في ما بينكم بالألحان المهيّجة للبكاء، المثيرة للحزن، ويومئ إليه قوله في الخبر الأول (يعني الرقة)، أي بترقيق الصوت ومدّه والتمكّث فيه، فإن الصوت واللحن من الأمور المرققة للقلب، المعدّة له أن يتأثر بسرعة بتذكر الأحوال الذي لا يمكن إنكار سببية اللحن له.

إنّ هذا المعني الذي ندب إليه فيه الخبرين هو الذي سمعناه منذ نشأنا للآن، وسمعه كل واحد في العراق من القرّاء في المحافل وعلي المنابر، وما سمعنا منهم غناءً. فإن كان هذا هو الغناء الذي يعنيه الكاتب، فالأخبار صريحة بجوازه، وإن كان غيره مما يشتمل علي تراجيع أرباب الملاهي وإطرابهم، فهذا أمر يبرأ منه كل ذاكر عراقي.

وعسي أن يكون المؤلف سمعه في الشام أو غيرها من البلدان السورية. وعلي أيّ فاللازم عليه - وهو من دعاة الإصلاح - أن ينهي عن الغناء (وقد نهي عنه جميع الفقهاء)، لا أن يهوّل علي المجالس العزائية بأنّ الغناء يستعمل فيها بلا تحاش بحيث يري الناس أنّ ذلك أمراً لا ينفك عنه أي مجلس رثائي!!

وماذا يكون لو غنّي قارئ واحد يوماً في بلد من البلدان غير أنّه فعل حراماً؟ ولزم نهيه عن غنائه، كما لو غنّي يوماً بالقرآن أو بشعر غزلي أهل يصح - والحال هذه - نهي الكافة عن قراءة القرآن ونشيد الأشعار الغزلية؟؟


پاورقي

[1] جامع المقاصد 4: 23. م.

[2] مخطوط. م.

[3] مجمع الفائدة والبرهان 8: 61. م.

[4] کفاية الأحکام: 86. م.

[5] مستند الشيعة: 343. م

[6] المکاسب 3: 269. م

[7] هو أصالة الإباحة في مطلق الشبهة التحريمية البدوية. وعلي ما أسلفناه يراد به العمومات المثبتة للتکليف.

[8] مرادهم من قصور الإطلاقات کون المحکوم فيها بالحرمة لفظ الغناء، وهو مفرد معرّف، وقد حقّق في الأصول عدم إفادته العموم في نفسه.

[9] في المصدر (والفرح) بدل (والنوح). م.

[10] قرب الإسناد:294. م.

[11] ذکر ذلک المحقق الأنصاري في (المکاسب) [3: 260-261]. ولا يضر اشتمال الخبر علي جواز الغناء في غير النوح مما لا يقولون بجوازه فيه. ويحتمل أن يراد بالغناء في الجميع لحن العرب وترجيعهم، وهو ليس بغناء حقيقة.

[12] مقصوده أنه توجد في نسخة أخري عبارة (لا بأس ما لم يزمر به) بدلاً من (لا بأس ما لم يعص به).

[13] مجمع الفائدة والبرهان 8: 61-62. م.

[14] وإنما ذکرت ذلک لتنبيه الکاتب علي أن الغناء في الرثاء ليس بتلک المکانة من وضوح الحرمة، وعدم القائل، کما يستفاد من ظاهر کلامه.

[15] رواه الصدوق في (ثواب الأعمال) [صفحة 108 - 109].

[16] کامل الزيارات:104. م.

[17] رواه الشيخ أبو القاسم جعفر بن قولويه في الکامل [صفحة 104].