بازگشت

تعريف الغناء


الغناء موضوعاً وحكماً مختلف فيه، ولا يخلو ما ذكر في تفسيره عن إشكال أو إجمال. وصدق اسمه علي أرقّ وأرخم صوت يقرأ به الذاكرون في العراق في مأتم سيد الشهداء غير معلوم، إن لم يكن معلوم العدم، وقواعد الفن تقتضي في مثل المقام بحرمة المتيقن كونه غناءً فقط [1] .

ولعل استعمال ما ينسبه إلي القراء بلا تحاش، مع سماع العلماء له وعدم إنكارهم آية عدم كونه غناءً عندهم.

وكم بين هذه النسبة المسوقة للإنكار وبين تأييد المقدس الأردبيلي في (مجمع البرهان) [2] والفاضل النراقي في (المستند) [3] القول بعدم حرمة الغناء في الرثاء بعمل [4] المسلمين في الأعصار والأمصار بغير نكير من زمن المشايخ إلي زمانهم، وعسي أن لا يكون ذلك من الغناء المحرّم أيضاً.

وما استشهد به في ص 23 من قيام بعض العلماء الصلحاء من المجلس حينما يقرأ فيه الشعر بالألحان - كما يقول - وتذمّر البعض الآخر عند سماعها، فالوجه فيه التورّع منهم عن الوقوع في الشبهة، لأن موضوع الغناء لم يكن متضحاً لديهم، لا لحكمهم بكون ذلك غناءً محرّماً، ولذلك لم يأمر أحد منهم الناس بالخروج من المجلس، ولم ينه القارئ عن قراءته. ولا بدع إذا أشكل علي أولئك القشفين معني الغناء، لأنه موضوع لا يعرفه النّسّاك في الأغلب.

لا ريب في أن مجرد مدّ الصوت ورفعه ليس بغناء، فضلاً عن كونه محرماً، كذلك مطلق تحسين الصوت المتناول لمثل حسن جوهره ورخامته. كيف وقد كان الأئمة (عليهم السلام) يقرأ القرآن، فربما مرّ به المار فيصعق من حسن صوته، والسقّاءون يمرون فيقومون ببابه يستمعون قراءته، لحسن صوته [5] . وكذا كان ولده أبو جعفر (عليه السلام) [6] .

وقد ورد في الأخبار مدح الصوت الحسن وأنّه من الجمال [7] ، وأنّه ما بعث الله نبياً إلا بالصوت الحسن [8] .

وورد فيها الترغيب في تحسين الصوت بقراءة القرآن، ففي بعضها:

(إنّ لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن) [9] وفي آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قوله تعالي: (ورتّل القرآن ترتيلاً) [10] قال: (أن تتمكّث وتحسن فيه [11] صوتك) [12] .

وكذلك مطلق الترجيع، فإن الحكم بكونه غناءً مما لا شاهد له من عرف أو لغة، بل الحديث المروي من طريق الفريقين [13] عن النبي (صلي الله عليه وآله) أنّه قال: (اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم وألحان أهل الفسوق والكبائر، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء...) [14] الحديث.

فيه [15] دلالة ظاهرة علي أنّ مطلق الترجيع ليس غناءً لتضمّنه أنّ الغناء المنهي عنه في القرآن لحن أهل الفسق والكبائر المتداول في الملاهي، والغناء المحرّم شيء واحد في القرآن وغيره. والخبر كالنص في أنّ المحرّم ليس هو ألحان العرب، أي: تطريبهم وترجيعهم، بل هو لحن أهل الفسوق وغناؤهم [16] .

وحاصل هذا يرجع إلي أن الغناء كيفية خاصة من الترجيع، وهي معروفة بين أهل الفسوق يستعملونها في الملاهي.

هذا مع أنّ من راجع الأخبار الدالة علي حرمة الغناء بأسرها [17] ، يحصل له القطع بأن حرمته من حيث كونه لهواً وباطلاً، كما اعترف بذلك المحقق الأنصاري في مواضع من كتابه [18] .

والمراد بذلك - علي ما صرح المحقق المذكور - كون الصوت بنفسه (مهما كانت مادته) صوتاً لهوياً يناسبه اللعب بالملاهي والتكلم بالأباطيل، وذلك هو لحن أهل الفسق والمعاصي وترجيعهم الذي ورد النهي عن قراءة القرآن به، سواء كان هو الغناء - كما هو الظاهر - أو أخص منه [19] .

وكيف يكون مطلق تحسين الصوت وترجيعه غناءً، مع أنّ غالب الأصوات في قراءة القرآن والخطب والمراثي التي تقرأ علي العلماء في جميع الأعصار والأمصار لا تخلو عن تحسين وترجيع في الجملة.

أمّا تعريفه [20] بالترجيع المطرب فلا يخلو عن إجمال أيضاً، لأن المطرب لا يراد به الملائم للطبع، لأن ذلك لازم حسن الصوت، بل يراد به مرتبة خاصة المعروفة بين أرباب الملاهي والفسوق.


پاورقي

[1] والرجوع في ما عدا ذلک إلي الأدلة المثبتة للتکاليف، لأنها مخصصة بمنفصل مجمل مفهوماً، مردد بين قلة الخارج وکثرته. ولعل القائل بالرجوع إلي البراءة مراده ذلک لموافقته لأصالة البراءة حکماً ونتيجة. هذا علي القول بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المفهومية.

[2] مجمع الفائدة والبرهان 8: 61. م.

[3] مستند الشيعة 2: 343-344. م.

[4] الباء للسببية، أي: بسبب عمل.. م.

[5] وسائل الشيعة 4: 859.

[6] وسائل الشيعة 4: 858.

[7] الکافي 2: 615. م.

[8] الکافي 2: 616. م.

[9] الکافي 2: 615. م.

[10] سورة المزمّل آية 4. م.

[11] في المصدر (به). م.

[12] وسائل الشيعة 4: 856. م.

[13] رواه الجمهور عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلي الله عليه وآله). ورواه أصحابنا عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله)، فهو صحيح بلا مرية.

[14] الکافي 2: 614. م.

[15] أي: في الحديث المروي عن النبي. م.

[16] اللّحن - کما في (النهاية) الأثيرية [14: 242]، والصحاح [4: 1293]، والقاموس [4: 374] - هو التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين القراءة، والغناء. قال في (الصحاح): ومنه: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب). وقد لحن في قراءته: إذا طرب وغرد، وهو ألحن الناس: إذا کان أحسنهم قراءة وغناءً. وفيه [4: 1293] الغرد - بالتحريک -: التطريب في الصوت.

والخبر - بواسطة مراجعة کلمات اللغويين هذه - يدل علي أن المحرّم هو الغناء المستعمل عند أرباب الملاهي، لا غناء العرب، وکل منهما فيه تطريب وترجيع، ولکن الغناء هو ترجيع أولئک لا غيرهم. وصاحب الحدائق [الحدائق 18: 114] جعل اللحن في هذا الخبر بمعني اللغة، أي: بلغة العرب، وکأنه أراد باللغة اللهجة، ظناً منه أن بقاءه في معناه يوجب ظهور الخبر في جواز الغناء بالقرآن.

قال شيخنا الأنصاري [المکاسب 3: 280]: وهذا خيال فاسد، لأن مطلق اللحن - أي الترجيع والتطريب - إذا لم يکن لهوياً ليس غناءً. وقوله (صلي الله عليه وآله) (إياکم ولحون أهل الفسق) نهي عن الغناء.

[17] وسائل الشيعة 12: 225 - 232. م.

[18] المکاسب 3: 281، 287، 235، 295. م.

[19] المکاسب 3: 215 - 216، 235. م.

[20] أي: تعريف الغناء. م.