بازگشت

مقدمة التأليف


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد: فقد حدث - منذ أعوام - في البصرة رأي لا يؤبه به يتضمن المنع عن كثير من الشعائر الحسينية التي تقام في بلدان الشيعة، عدا البكاء ولدم الصدور في الدور. وهو - مع أن صاحبه ليس بتلك المكانة - لم يدعم بحجة، ولم يقم علي سوي التهاويل الفارغة.

وقد تُقبّل هذا الرأي في ما مضي برسائل جمّة حافلة بالأدلة التي لا يكاد يبقي بعد مراجعتها ريب في وجوب إقامة جميع الشعائر المذكورة كفاية إلاّ لجاهل بأصول الاستدلال، أو قاصر بذاته عن البلوغ إلي مراتب الكمال.

واليوم قد أوقفتنا العجائب الغرائب علي أوراق مطبوعة في هذا الشأن تدهورت علينا من الشام [1] ، وهي تنحو هذا المنحي، إلا إنّ هذه - مع أنّ صاحبها [2] في مفتتحها يزعم أنه لم يقصد بها سوي إنكار المنكرات التي أدخلها الناس في الشعائر الحسينية - تشفّ عن روح التعصب الحاد، ويستبين الغضب الشائن من خلال سطورها، ويقرأ كل أحد بوضوح من عناوينها التحامل المقذع علي بعض الأعلام من معاصريه [3] المعروفين بالعلم والأدب.

حتي أنه لم يملك نفسه في صيانة ما افتتح به مقالته دون أن رفع عقيرته مجاهراً [4] بقوله: (وأيم الله لو لم يوجّه - يعني معاصره - سبّاته ولسعاته إلينا، ما تعرضنا له، قل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء مما تعملون، ولكن من أُغضب فلم يغضب فهو حمار). انتهي.

ولعمري لقد كانت الأنباء تحمل إلينا من دمشق عظمة هذا المؤلف، وسموّ منزلته في العلم والعرفان، ولكن أوراقه التي رأيناها - التي ألمعنا عن مفتتحها وما وقع في أثنائها من الكلمات التي يتنزّه عنها المقام الروحاني - لا تجعل لتلك الأنباء قيمة تذكر، إذ أنّها من جهة الاستدلال العلمي تحطّ من مقدار عرفانه المزعوم، ومن جهة الانتقاد الغير النزيه، تشين الأخلاق والآداب المنحولة له.

وإلا فما الذي يحمله علي البراءة من رجل مسلم عالم من أهل نحلته، وهو يعلم أنّ التهاجر بين الرجلين - فضلاً عن التبري - يقطع العصمة بينهما ويخرجهما عن ولاية الله [5] وليس البراءة من المسلم إلا البراءة من عمله؟

هلمّ فليرشدنا هذا الرجل: أي شيء هذه الكلمة الموحاة التي أرسلها واعتمد في غضبه لنفسه عليها (من أُغضب، فلم يغضب فهو حمار)؟ أين موقعها من سور الكتاب وأبواب السنة؟ فإنّا وجدنا كتاب الله - الذي كان حقيقاً أن يتمسك به - يقول: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) [6] ؟، (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) [7] . والسنة القويمة تنطق بأنه ما من شيء أحب إلي الله من جرعتين يتجرّعها المؤمن: جرعة غيظ يردّها بحلم، وجرعة مصيبة يردّها بصبر) [8] .

إنّا فحصنا جهد الإمكان في الكتاب والسنة، فلم نجد فيهما استحسان أن يغضب الإنسان لنفسه، أو أن يتشفّي من مؤمن، ولو بقول الحق، فضلاً عن السخرية به والاستهزاء، أو التظاهر عليه وتتبع عثراته وإحصاء زلاّته. بل وجدنا في ما جاء عن أئمة الهدي (سلام الله عليهم) بدل كلمته الغضبية، هذه الجمل الذهبية: (الغضب مفتاح كل شر)، (الغضب ممحقة [9] لقلب الحكيم)، (الغضب جمرة من الشيطان يوقدها في قلب ابن آدم)، (الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل)، (الغضب شعلة من نار، تلقي صاحبها في النار)، (الغضب جند عظيم من جنود إبليس)، (الغضب يفسد الألباب، ويبعد عن الصواب)، (الغضب نار موقدة، من كظمه أطفأها، ومن أطلقة كان أول محترق بها) [10] .

وبما أنّي في نشرتي هذه - النزيهة عن كل مراء وكل قذف واستهزاء - التي أدعوها (النقد النزيه لرسالة التنزيه) لا أحاول سوي إبداء الملاحظات علي تلك الرسالة من الجهة العلمية، فلغيري أوكل التنبيه علي ما تضمنته من الأمور التي لا يجمل بالأدب ذكرها من الجبرية واحتقار العلماء، ولا بدع فقد جاء في الحديث الصحيح: (بدء الغضب الكبر، والتجبّر، ومحقرة الناس) [11] .

وإني - والله - بما أنوّه به عليهم لا أريد بما سوف أنتقده أن أمسّ كرامة هذا الرجل، ولا أن أزلزل به - لو استطعت - شيئاً من مركزه، مهما عظم علي عرفاء الفرقة شيء من أقواله التي تمس عصمة النبي (صلي الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وتحطّ من كرامتهم.

ولكني أريد أن يتعلم الرجل أكثر مما علم، وأن يعتقد أنّ جلّ ما يقصده القائمون بتلك المظاهرات والتمثيلات الحسينية ليس إيلام أجسامهم وأرواحهم - وإن كان ذلك مطلوباً في الجملة -، ولا التلهّي بالغناء والمعازف، بل لهم فيتلك الأعمال أسرار يهون لأجلها كل إيلام وإيذاء، إذ إنها ما زالت - كما هي الآن - عائدة علي عموم الفرقة بأكبر الفوائد، متقدمة بهم في شؤونهم الاجتماعية والسياسية.

وقد طفحت الرسائل بتلك الأسرار المشار إليها آنفاً، المطبوعة قديماً وحديثاً، وقد انتشرت في العراق وغيره، لكني حباً للنشر سوف أنقل منها - في محل الحاجة - نبذة ممتعة تفي بالغرض اللازم، وتحجز أي رجل من الشيعة بعد اليوم أن يستهدف لقول أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا، ويمدحنا، ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا، وغيرهم يهددونهم، ويقبّحون ما يصنعون) [12] .

وها أنا - قياماً بواجبي الديني - مقتصٌّ أثر المهم من تلك الرسالة من بدئها إلي خاتمتها، ناقلاً نصّ عبارتها، إلا ما ندر فإني ملتزم تلخيصه، بحيث لا يختلّ المعني.


پاورقي

[1] في خبر رواه الشيخ الطوسي في أماليه، وخبرين رواهما ابن قولويه في (الکامل) [صفحة 80] عن الصادق (عليه السلام): أن الحسين (عليه السلام) لما قتل، بکي عليه جميع ما خلق الله مما يري وما لا يري إلاّ ثلاثة أشياء لم تبک عليه: البصرة، والشام، وآل فلان، أو آل الحکم بن العاص. [في الکامل: البصرة، ودمشق، وآل عثمان].

[2] هو السيد محسن الأمين الشقراوي العاملي نزيل الشام، وقد سمي رسالته (التنزيه لأعمال الشبيه). وهي ليست بتنزيه، بل تشويه.

[3] هو الشيخ عبد الحسين صادق العاملي، وتدعي رسالته (سيماء الصلحاء).

[4] في ص 13 منها.

[5] في رواية مفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله): (أيما مسلمين تهاجرا، فمکثا ثلاثاً لا يتصالحان إلا کانا خارجين عن الإسلام، ولم يکن بينهما ولاية). [الکافي 2: 345]. وفي خبر محمد بن حمران عن أبيه عن الباقر (عليه السلام) قال: (ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث، إلا برئت منهما في الثالثة). [الخصال 1: 183].

[6] سورة النور: الآية 22. م.

[7] سورة آل عمران: الآية 134. م.

[8] هذا المضمون مستفيض الرواية. وقد عقد له في أبواب الحج من الوسائل [8: 523 - 525] باباً.

[9] ممحقة: ذاهب بخيره وبرکته، أو لا يبقي منه شيء. م.

[10] هذه الفقرات الثمان مذکورة نصاً في ضمن الأخبار المروية في (الوسائل) في کتاب جهاد النفس (11: 287 - 289) عدا الفقرة الخامسة، فإنها في (مجمع البحرين) (2: 133)، والسادسة في النهج (کتابه (عليه السلام) التاسع والستين)، وما بعدها في کتاب (الغرر، [صفحة: 303] للآمدي مروياً عن علي (عليه السلام). وأما کلمة (من أغضب، فلم يغضب، فهو حمار) فإنها غير مروية علي الظاهر، وإن وجدت في بعض کتب الأخلاق فيراد بها من لم يؤثّر فيه الغضب فهو حمار، ولا يراد بها من لم يستعمل غضبه فهو حمار. نعم جاء في بعض أخبارنا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) نهي عن الأدب عند الغضب، وهذا مجمل محتمل لمعان لا موقع لذکرها هاهنا. ولقد کان هو (صلي الله عليه وآله) (علي ما وصفه به علي (عليه السلام) في الحديث المروي في (مکارم الأخلاق) [صفحة: 230] عن کتاب النبوة): (لا ينتصر لنفسه من مظلمة حتي تنتهک محارم الله تعالي، فيکون غضبه لله - تبارک وتعالي-، لا لنفسه).

[11] هذا الحديث مروي في الوسائل أيضاً [11 :289] في أبواب الجهاد.

[12] هذا ذيل حديث رواه ابن قولويه في [کامل الزيارات:324]، ونقله في (الوسائل) - في آخر أبواب المزار [10: 468] عنه بسنده إلي عبد الله بن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (بلغني أن قوماً يأتونه - يعني الحسين (عليه السلام) - من نواحي الکوفة، وأناساً غيرهم، ونساءً يندبنه، وذلک في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي). فقلت له: نعم، قد شهدت بعض ما تصفه. فقال: (الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا، ويمدحنا، ويرثي لنا، وجعل عدونا من يطعن عليهم من قرابتنا، وغيرهم يهددونهم ويقبّحون ما يصنعون).