بازگشت

تقرير ابن عباس و عائشه للبكاء علي ام أبان


الحادي و العشرون: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن أبي مليكة و ذكر حضور ابن عباس و ابن عمر و عمرو بن عثمان جنازة ام أبان بنت عثمان - الي أن قال -: فاذا صوت من الدار، فقال ابن عمر - كأنه يعرض علي عمرو أن يقوم فينهاهم -: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: ان الميت ليعذب ببكاء أهله.

فروي له ابن عباس دخول صهيب علي عمر لما اصييب و قوله: وا اخاه وا صاحباه و نهي عمر له عن ذلك محتجا بحديث تعذيب الميت ببعض بكاء أهله - الي أن قال ابن عباس -: فدخلت علي عائشة فحد ثتها بما قال ابن عمر، فقالت: لا والله، ما قال رسول الله صلي الله عليه و سلم قط ان الميت يعذب ببكاء أحد، و لكنه قال: ان الكافر يزيده الله بكاء اهله عذابا، و ان الله لهو أضحك و أبكي (و لا تزر وازرة وزر اخري) [1] .


و أخرج البخاري في باب قول النبي صلي الله عليه و سلم يعذب الميت ببكاء أهله عليه و مسلم في كتاب الجنائز، عن ابن أبي مليكة: انها توفيت ابنة لعثمان و حضرها ابن عمر و ابن عباس فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: الا تنهي عن البكاء؟ و ذكر له حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.

فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم روي ابن عباس انه لما أصيب عمر دخل صهيب يبكي و يقول: وا أخاه وا صاحباه. فقال عمر: أتبكي علي؟ و ذكر حديث تعذيب الميت ببعضس بكاء اهله عليه.

قال ابن عباس: فلما مات عمر، ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر، فوالله ما حدث رسول الله صلي الله عليه و سلم ان الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، لكن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء اهله عليه. و قالت حسبكم القرآن (و لا تزر وازرة وزر اخري).

قال ابن عباس عند ذلك: والله هو أضحك و أبكي.

قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر شيئا [2] .

و اخرج النسائي عن ابي ابي مليكة نحوه، الا أنه قال: فبكين النساء، فقال ابن عمر: ألا تنهي هؤلاء عن البكاء [3] ؟

و حديث مسلم صريح في البكاء مع الصوت لقوله: فاذا صوت من الدار.

و رواية البخاري و النسائي و غيرهما ظاهرة في ذلك كالصريحة؛ اذ لولا الصوت لم يعلم ابن عمر حصول البكاء، و كذا قول الراوي: فبكين النساء، فان


الرجال الذين يحضرون الجنازة لا يجلسون عادة مع النساء، فلو كان البكاء بدون صوت لم يعلم به ابن عمر، و يؤيده التصريح بالصوت في رواية مسلم.

فيدل ذلك علي جواز البكاء و لو مع الصوت عند عائشة و ابن عباس، بل ظاهر ذلك انه و لو مع سماع الأجنبي فيأول، و سكوت ابن عمر لما ذكر له ابن عباس ذلك ظاهر في رجوعه الي رأيهما، و كل ذلك مؤيد للمطلوب، و هما صحابيان قد رويا حديث رسول الله صلي الله عليه و آله فأكثرا، و لا سيما عند الخصم الذي صح عنده: «خذوا ثلثي دينكم عن عائشة» [4] مؤيدا ذلك ايضا بما يأتي من خبر ام عطية الذي هو دليل بنفسه و عاضد لغيره.

فالصوات ما قالته عائشة و ابن عباس من جواز النوح و البكاء و لو مع الصوت ما لم يشتمل علي محرم آخر من قول أو فعل ما يحرم قوله أو فعله، كقوله ما يقتضي الاعتراض علي الله تعالي، أو السخط لقضائه، أو خمش الوجوه، أو جز الشعور، أو غير ذلك، أو سماع الأجنبي أصوات النساء حيث يكون محرما بأن تكتون متميزه أو غير ذلك؛ لأن الأصل في كل شي ء الاباحة حتي يثبت تحريمه لا سيما اذا اشتمل علي فوائد مع دلالة خبر ام عطية الآتي و غيره عليه.

و من هنا يظهر الوهن فيما اخرجه البخاري و مسلم عن عائشة: انه لما جاء رسول الله صلي الله عليه و سلم قتل زيد و جعفر و ابن أبي رواحة، جلس يعرف فيه الحزن، و ان رجلا ذكر له بكاء نساء جعفر فأمره أن ينهاهن، فذكر انهن لم


يطعنه، فامره الثانية فقال: والله لقد غلبننا أو غلبنني.

قال: غزعمت - أي عائشة -: انه قال: اذهب فاحث في أفواههن التراب. [5] .

فان هذا ينافي ما دلت عليه الأخبار السالفة من تخطئة عائشة لابن عمر في منعه عن البكاء علي ابنة عثمان مع الصوت و لتقريره للزهراء علي بكائها علي عمها جعفر بقولها: واعماه. و استحسانه لذلك بقوله عندما فعلته: علي مثل جعفر فلتبك البواكي - كما مر في الامر الحادي عشر - و ما يدل عليه خبر ام عطية الآتي.

و من البعيد جدا، بل الممتنع عادة أن يرسل النبي صلي الله عليه و آله الي نساء جعفر مرتين ينهاهن عن البكاء و لا ينتهين حتي يحتاج الي نهيهن مرة ثالثة مؤكدا بقوله: احث في أفواههن التراب، و أبعد منه ان يبعث الي نساء جعفر من يحثو في أفواههن التراب و يتفوه بهذا الكلام و منزلة جعفر عنده و في الاسلام معلومة، و هو الذي أمر أن يدعو الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و بعث ليتمم مكارم الأخلاق، و قال الله تعالي في حقه (و انك لعلي خلق عظيم) [6] و هو الذي دخل علي زوجة جعفر و عزاها، و جعل يمسح علي رؤوس أولادها و أمر ان يحمل الطعام اليهم لأنهم مشغولون بالعزاء، فيكف يبعث اليها من يحثو في فيها التراب؟ و لو فرض صحة ما نقل من انها عصت أمره مرتين - و حاشاها من ذلك - لجاء اليها و نهاها برقة و لطف، و خوفها من الله تعالي أو أرسل اليها بعض كبار أصحابه و لم يرسل هذا الرجل الذي قالت في حقه


عائشة - كما في ذيل الخبر -: أرغم الله أنفك، و الله ما تفعل ما أمرك رسول الله صلي الله عليه و آله و ما تركت رسول الهل صلي الله عليه و سلم من العناء. و اذا كانت عائشة سمعت ذلك من رسول الله صلي الله عليه و آله، فما بالها أقامت النوح علي أبيها حتي نهاها عمر فلم تنته، فالتجأ الي الشدة و القسوة بادخال هشام الي بيتها قهرا عنها، و اخراجه ام فروة اخت أبي بكر و ربها كما مر في رواية الطبري في الأمر الثامن عشر.

و حكي النووي في شرح صحيح مسلم عن بعضهم انه قال: يبعد ان الصحابيات يتمادين بعد تكرار نهيهن علي محرم [7] انتهي.

أقول: سيما بناء علي عدالة جميع الصحابة ذكورا أو اناثا، أما تأويل القسطلاني لعدم الطاعتهن بكونه لم يصرح لهن بأن النبي صلي الله عليه و آله نهاهن فظاهر البعد.


پاورقي

[1] ارشاد الساري - الهامش - 263: 4.

[2] ارشاد الساري 386: 2 و 319: 5.

[3] سنن النسائي 215: 1.

[4] لم نعثر عليه بهذا اللفظ، و انما: «خذوا شطر دينکم عن الحميراء». انظر: البداية و النهاية لابن کثير 129: 3، الأسرار المرفوعة لعلي القاري‏ء: 190 و 389، الفوائد المجموعة للشوکاني: 399، کشف الخفاء للعجلوني 449: 1.

[5] صحيح البخاري 384: 2، صحيح مسلم 317: 5 و انظر: مسند أحمد 40: 2.

[6] سورة القلم: 4.

[7] ارشاد الساري - الهامش - 317: 5.