بازگشت

الوداع الثاني


ثم انه عليه السلام ودع عياله ثانيا و امرهم بالصبر و لبس الأزر و قال استعدوا للبلاء و اعلموا ان الله تعالي حاميكم و حافظكم و سينجيكم من شر الاعداء و يجعل عاقبة امركم الي خير و يعذب عدوكم بأنواع العذاب و يعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم و الكرامة فلا تشكوا و لا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم [1] .

حقا لو قيل بأن هذا الموقف من اعظم ما لا قاه سيدالشهداء في هذا اليوم [2] فان عقائل النبوة تشاهد عماد اخبيتها و سياج صونها و حمي عزها و معقد شرفها مؤذنا بفراق لا رجوع بعده فلا يدرين بمن يعتصمن من عادية الاعداء و بمن


العزاء بعد فقده! فلا غرو اذا اجتمعن عليه و احطن به و تعلقن باطرافه بين صبي يئن و والهة أذهلها المصاب و طفلة تطلب الأمن و اخري تنشد الماء! اذا فما حال سيد الغياري و مثال الحنان و هو ينظر «بعلمه الواسع» الي ودائع الرسالة و حرائر بيت العصمة و هن لا يعرفن الا سجف العز و حجب الجلال، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعولة مشجية و هتاف يفطر الصخر الاصم و زفرات متصاعدة من أفئدة حري! فان فررن فعن السلب و ان تباعدن فمن الضرب و لا محام لهن غير الامام الذي انهكته العلة



فلو أن ايوبا رأي بعض ما رأي

لقال بلي هذا العظيمة بلواه



اما عقيلة بني هاشم «زينب الكبري» فانها تبصر هذا و ذاك فتجد عروة الدين الوثقي عرضة للانفصام و حبل النبوة آيلا الي الانصرام و منار الشريعة الي الخمود و شجرة الامامة الي الذبول.



تنعي ليوث البأس من فتيانها

و غيوثها ان عمت البأساء



تبكيهم بدم فقل بالمهجة الحرا

تسيل العبرة الحمراء



حنت ولكن الحنين بكا و قد

ناحت ولكن نوحها ايماء [3]



و التفت الحسين الي ابنته سكينة التي يصفها للحسن المثني «بأن الاستغراق مع الله غالب عليها» فرآها منحازة عن النساء باكية نادبة فوقف عليها مصبرا و مسليا و لسان حاله يقول:



هذا الوداع عزيزتي و الملتقي

يوم القيامة عند حوض الكوثر



فدعي البكاء و للأسار تهيأي

واستشعري الصبر الجميل و بادري



و اذا رأيتيني علي وجه الثري

دامي الوريد مبضعا فتصبري [4]



فقال عمر بن سعد: ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه و حرمه و الله ان فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتي تخالفت السهام بين أطناب المخيم و شك سهم بعض ازر النساء فدهشن و ارعبن و صحن و دخلن الخيمة ينظرن الي الحسين كيف يصنع فحمل عليهم


كالليث الغضبان فلا يلحق احدا الا بعجه بسيفه فقتله و السهام تأخذه من كل ناحية و هو يتقيها بصدره و نحره [5] .

و رجع الي مركزه يكثر من قول لا حول و لا قوة الا بالله العظيم [6] و طلب في هذه الحال ماءا فقال الشمر: لا تذوقه حتي ترد النار و ناداه رجل: يا حسين ألا تري الفرات كأنه بطون الحيات؟ فلا تشرب منه حتي تموت عطشا فقال الحسين: اللهم امته عطشا، فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتي به فيشرب حتي يخرج من فيه و ما زال كذلك الي ان مات عطشا [7] .

و رماه ابوالحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه و سالت الدماء علي وجهه فقال: اللهم انك تري ما انا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهم احصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تذر علي وجه الارض منهم احدا و لا تغفر لهم أبدا.

و صاح بصوت عال: يا امة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته اما انكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي و ايم الله اني لارجو ان يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

فقال الحصين: و بما ذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة؟ قال يلقي بأسكم بينكم و يسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب صبا [8] .

و لما ضعف عن القتال وقف يستريح فرماه رجل بحجر علي جبهته فسال الدم علي وجهه فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه رماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع علي قلبه فقال: بسم الله و بالله و علي ملة رسول الله و رفع رأسه الي السماء و قال: الهي انك تعلم انهم يقتلون رجلا ليس علي وجه الأرض ابن بنت نبي غيري!!


ثم اخرج السهم من قفاه و انبعث الدم كالميزاب [9] فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت رمي به نحو السماء و قال: هون علي ما نزل بي انه بعين الله فلم يسقط من ذلك الدم قطرة الي الارض! [10] ثم وضعها ثانيا فلما امتلأت لطخ به رأسه و وجهه و لحيته و قال: هكذا اكون حتي ألقي الله و جدي رسول الله (ص) و انا مخضب بدمي و اقول: يا جدي قتلني فلان و فلان [11] .



فهوي بضاحية الهجير ضريبة

تحت السيوف لحدها المسون



وقفت له الافلاك حين هويه

و تبدلت حركاتها بسكون



و بها نعاه الروح يهتف منشدا

عن قلب و الهة بصوت حزين



أضمير غيب الله كيف لك القنا

نفذت وراء حجابه المخزون



و تصك جبهتك السيوف و انها

لو لا يمينك لم تكن ليمين



ما كنت حين صرعت مضعوف القوي

فأقول لم ترفد بنصر معين



أما و شيبتك الخضيبة انها

لأبر كل الية و يمين



لو كنت تستام الحياة لا رخصت

منها لك الاقدار كل ثمين



او شئت محو عداك حتي لا يري

منهم علي الغبراء شخص قطين



لاخذت آفاق البلاد عليهم

و شحنت قطريها بجيش منون



حتي بها لم تبق نافخ ضرمة

منهم بكل مفاوز و حصون



لكن دعتك لبذل نفسك عصبة

حان انتشار ضلالها المدفون



فرأيت ان لقاء ربك باذلا

للنفس افضل من بقاء ضنين



فصبرت نفسك حيث تلتهب الظبي

ضربا يذيب فؤاد كل رزين



و الحرب تطحن شوسها برحاتها

و الرعب يلهم حلم كل رصين



و السمر كالأضلاع فوقك تنحني

و البيض تنطبق انطباق جفون



و قضيت نحبك بين اظهر معشر

حملوا بأخبث اظهر و بطون [12]



و أعياه نزف الدم فجلس علي الارض ينوء برقبته فانتهي اليه في هذا الحال مالك بن النسر فشتمه ثم ضربه بالسيف علي رأسه و كان عليه برنس فامتلأ


البرنس دما فقال الحسين: لا أكلت بيمينك و لا شربت و حشرك الله مع الظالمين ثم ألقي البرنس و اعتم علي القلنسوة [13] .


پاورقي

[1] جلاء العيون للمجلسي بالفارسية، و هنا شي‏ء لم يتنبه له أحد و هي ارادة بيان امرين عدم القتل و عدم السلب فان تعليل لبس الازر بالحماية و المحافظة مع أن احدهما کاف في التعريف بأن اليد العادية لا تمد اليهم، يکون الاتيان بهما مع بعد غرض بلوغه أعلي مراتب البلاغة دليل علي ان المقصود من احدهما بيان عدم السلب و من الثاني عدم القتل.

[2] هذا هو الظاهر من وصية الصديقة الزهراء للمجلسي أعلي الله مقامه بقراءته مصيبة ولدها عند الوداع. کما ذکره النوري في دار السلام ج 1.

[3] من قصيدة لکاشف الغطاء «قده».

[4] للخطيب شيخ مسلم ابن الخطيب الشيخ محمد علي الجابري النجفي رحمهما الله تعالي.

[5] مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف آل صاحب الجواهر «قده».

[6] اللهوف ص 67.

[7] مقاتل أبي‏الفرج ص 47 ط ايران و تهذيب تاريخ ابن‏عساکر ج 4 ص 338 و حکاه. في البحار ج 10 ص 254 طبع کمبني عن أبي‏الفرج و في البحار ج 10 ص 203 نقلا عن المفيد و السيد ابن طاووس و ابن‏نما: اشتد العطش بالحسين فقصد الفرات فحالوا بينه و بين الماء.

[8] مقتل العوالم ص 98، و نفس المهموم ص 189، و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34.

[9] نفس المهموم ص 189، و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34 و اللهوف ص 68.

[10] تهذيب تاريخ ابن‏عساکر ج 4 ص 338 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34.

[11] مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34 و اللهوف ص 70.

[12] ديوان السيد حيدر الحلي رحمه الله.

[13] کامل ابن‏الاثير ج 4 ص 31 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 35.