قول الشعر فيهم
من الواضح الذي لا يرتاب فيه ان نظم الشعر في اي احد تعريف به و احياء لذكره و اقامة لامره فان آثار الرجال مهما كبرت في النفوس و عظم امرها قد يخمل ذكرها بمرور الزمن و تباعد العهد فيغفل عن تلك المآثر و يتناسي ما لها من اهمية كبري و لما كان القول المنظوم اسرع تأثيرا في الاصاخة لرغبة الطباع اليه فتسير به الناس و تلوكه الالسنة و تتحفظ به القلوب و تتلقاه جيلا بعد جيل و تأخذه امة بعد امة و قد حفظ الادب العربي كثيرا من قضايا الامم و سيرها و حروبها في الجاهلية و الاسلام.
و مما قاله دعبل الخزاعي في بقاء الشعر مدي الازمان:
اني اذا قلت بيتا مات قائله
و من يقال له و البيت لم يمت
و قال عروة بن اذنية:
نبئت ان رجالا خاف بعضهم
شتمي و ما كنت للاقوام شتاما
فان يكونوا براءا لا تطف بهم
منه شكاة و لا اسمعهم ذاما
و ان يجيئوا اقل قولا له اثر
باق يعني قراطيسا و اقلاما [1]
و بما ان ذكري اهل البيت قوام الدين و روح الاصلاح، و بها تدرس تعاليمهم و يقتفي اثرهم، طفق الائمة المعصومين يحثون مواليهم بنشر ما لهم
من فضل كثير و ما جري عليهم من المصائب و لا قوة في سبيل احياء الدين من كوارث و محن لان فيه حياة امرهم و رحم الله من احيا امرهم و دعا الي ذكرهم.
و قد تواتر الحث من الائمة علي نظم الشعر فيهم مدحا و رثاء بحيث عد من افضل الطاعات. و في ذلك قالوا عليهم السلام من قال فينا بيتا من الشعر بني الله تعالي له بيتا في الجنة و في آخر حتي يؤيد بروح القدس و في ثالث بني الله له في الجنة مدينة يزور فيها كل ملك مقرب و نبي مرسل [2] .
و قال ابوجعفر الباقر عليه السلام للكميت لما انشده قصيدته: «من لقلب متيم مستهام» لا تزال مؤيدا بروح القدس [3] .
و استأذن الكميت علي الصادق (ع) في ايام التشريق ينشده قصيدته فكبر علي الامام ان يتذاكروا الشعر في الايام العظام، و لما قال له الكميت انها فيكم انس ابوعبدالله (ع) حيث انه من الذكر اللازم لان فيه احياء امرهم ثم دعا بعض اهله فقرب ثم انشده الكميت فكثر البكاء و لما اتي علي قوله:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
فيا آخرا اسدي له الغي اول
رفع الصادق يديه و قال: اللهم اغفر للكميت ما قدم و اخر و ما اسر و اعلن واعطه حتي يرضي [4] .
و اذن ابوجعفر الجواد (ع) لعبدالله بن الصلت ان يندبه و يندب اباه الرضا (ع).
و كتب اليه ابوطالب ابياتا يستأذنه فيها في رثاء ابيه الرضا (ع) فقطع ابوجعفر (ع) الابيات عنده و كتب اليه: «احسنت و جزاك الله خيرا» [5] . و قال ابوعبدالله الصادق (ع) لسفيان بن مصعب انشدني في الحسين و امر بتقريب ام فروة و عياله فلما حضرن قال سفيان: (فرو جودي بدمعك المسكوب)
فصاحت ام فروة و صحن النساء فقال ابوعبدالله (ع) الباب الباب و اجتمع اهل المدينة فارسل اليهم ابوعبدالله صبي غشي عليه! [6] و هذا من محاسن التورية، فلقد غشي علي اطفالهم يوم الطف و ما ادري من عني بالصبي! اهو عبدالله الرضيع ام عبدالله الاصغر ابن الامام الحسن (ع) المذبوح بالسهم في حجر الحسين؟ ام محمد بن ابي سعيد بن عقيل بن ابي طالب؟؟
و دخل جعفر بن عفان [7] علي الصادق فقال له: انك تقول الشعر في الحسين و تجيده قال: نعم، فاستنشده فلما قرأ عليه بكي حتي جرت دموعه علي خديه و لحيته و قال له: لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين و انهم بكوا كما بكينا و لقد اوجب الله لك الجنة ثم قال (ع): من قال في الحسين شعرا فبكي و ابكي غفر الله له و وجبت له الجنة [8] .
و جعفر هذا من رجال الشيعة المخلصين اطراه علماء الرجال و وثقوه و هو الذي رد علي مروان بن ابي حفصة القائل:
خلوا الطريق لمعشر عاداتهم
حطم المناكب كل يوم زحام
ارضوا بما قسم الاله لكم به
و دعوا وراثة كل اصيد حام
اني يكون و ليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الاعمام [9]
فقال جعفر بن عفان:
لم لا يكون و ان ذاك لكائن
لبني البنات وراثة الاعمام
للبنت نصف كامل من ماله
و العم متروك بغير سهام
ما للطليق و للتراث و انما
صلي الطليق مخافة الصمصام [10]
و دخل جماعة علي الرضا (ع) فرأوه متغيرا فسالوه عن ذلك قال: بت ليلتي ساهرا متفكرا في قول مروان بن ابي حفصة و ذكر البيت المتقدم.
قال: ثم نمت فاذا انا بقائل قد اخذ بعضادة الباب و هو يقول:
اني يكون و ليس ذاك بكائن
للمشركين دعائم الاسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم
و العم متروك بغير سهام
ما للطليق و للتراث و انما
سجد الطليق مخافة الصمصام
قد كان اخبرك القران بفضله
فمضي القضاء به من الحكام
ان ابن فاطمة المنوه باسمه
حاز الوارثة عن بني الاعمام
و بقي ابن نثلة واقفا مترددا
يبكي و يسعده ذوو الارحام [11]
و مروان سرق المعني مما قاله مولي لتمام بن معبد بن العباس بن عبدالمطلب معرضا بعبيدالله بن ابي رافع مولي رسول الله (ص) فانه اتي الحسن بن علي (ع) و قال: انا مولاك، و كان قديما يكتب لعلي بن ابي طالب عليه السلام فقال مولي تمام:
جحدت بني العباس حق ابيهم
فما كنت في الدعوي كريم العواقب
متي كان اولاد النبي كوارث
يحوز و يدعي والدا في المناسب [12]
و مروان بن سليمان بن يحيي بن ابي حفصة كان يهوديا اسلم علي يد مروان ابن الحكم و قيل من سبي اصطخر اشتراه عثمان بن عفان و ولاؤه لمروان شهد يوم الدار مع مروان و لما اصيب مروان بن الحكم حمله مولاه ابن ابي حفصة علي عاتقه و هو يجره و مروان يتأوه فيقول له اسكت ان علموا بك قتلت، فادخله بين امرأة من عنزة و داواه حتي بري ء فاعتقه مروان و شهد معه يوم الجمل و مرج راهط [13] و غضب صالح بن عطية الاضجم من بيت مروان (اني يكون و ليس ذاك بكائن) فاتصل به يخدمه مدة حتي انس به هو و اهله حتي اذا مرض ابن ابي حفصة كان صالح ممرضا له فلما خف من عنده و بقي صالح وحده وضع يده علي حلقه فخنقه حتي مات و مضي عنه و لم يشك اهله به [14] .
و حسب الشاعر ان يترتب علي عمله البار هاتيك المثوبات الحزيلة التي تشف عن ان ما يصفه بعين الله سبحانه حتي يبوئه لجليل سبحانه من الخلد حيث يشاء و تزدان به غرف الجنان و لا بدع فانه بهتافه هذا معدود من اهل الدعوة الالهية المعلنين بكلمة الحق و تأييد الدين فهو بقوله الحق يرفع دعامة الاصلاح و تشييد مبانيه و يطأ نزعة الباطل بأخمص الهدي و يقلع اشواكه المتكدسة امام سير المذهب و يلحب طريقه الواضح.
و لم يعهد من الائمة مع تحفظهم علي التقية و الزام شيعتهم بها تثبيط الشعراء عن المكاشفة في حقهم و اظهار باطل المناوئين مع ان في الشعراء من لا يقر له قرار و لا يؤويه مكان فرقا من اعداء اهل البيت لمحض مجاهرتهم بالولاء و الدعوة الي طريقة آل الرسول كالكميت و دعبل الخزاعي و نظرائهما بل كانوا عليهم السلام يؤكدون ذلك بالتحبيذ و ادرار المال عليهم و اجزال الهبات لهم و ذكر المثوبات علي عملهم هذا.
و ليس ذاك الا لعلمهم بأن المكاشفة في امرهم ادخل في توطيد اسس الولاية و عامل قوي لنشر الخلافة الاهية حتي لا يبقي سمع الا و قد طرقه الحق الصراح ثم تتلقاه الاجيال الآتية كل ذلك حفظا للدين عن الاندراس و لئلا تذهب تضحية امناء الوحي في سبيله ادراج التمويهات.
و لولا نهضة اولئك الافذاذ من رجالات الشيعة للذب عن قدس الدين بتعريض انفسهم للقتل كحجر بن عدي و عمرو بن الحمق و ميثم التمار و امثالهم بما نال اهل البيت من اعدائهم لما عرفت الاجيال المتعاقبة موقف الائمة من الدين و لا ما قصده اعداؤهم من نشر الجور و الضلال.
«أفمن يهدي الي الحق احق ان يتبع ام من لا يهدي الا ان يهدي فما لكم كيف تحكمون».
پاورقي
[1] الموشح للمرزباني ص 281، 280.
[2] عيون اخبار الرضا (ع) ص 5.
[3] رجال الکشي ص 136.
[4] الاغاني ج 15 ص 118 و معاهد التنصيص ج 2 ص 27.
[5] رجال الکشي ص 350.
[6] روضة الکافي حديث 263.
[7] في الاغاني ج 7 ص 8 و ج 9 ص 45 انه طائي.
[8] رجال الکشي ص 187، و ذکر له الخوارزمي في المقتل ج 2 ص 144 فصل 13 مقطوعتين في رثاء الحسين.
[9] الاغاني ج 12 ص 17.
[10] الاغاني ج 9 ص 45 طبعة ساسي.
[11] عيون اخبار الرضا ص 305 و ذکر الطبرسي في الاحتجاج ص 214 في احوال موسي بن جعفر انه الذي سمع الهاتف.
[12] طبقات الشعراء لابنالمعتز ص 15 نسخة التصوير.
[13] الاغاني ج 9 ص 34.
[14] نفس المصدر ص 46.