بازگشت

التباكي


لقد راق ائمة الهدي (ع) ان تبقي تلك الذكريات الخالدة مدي الدهر تتحدث بها الاجيال المتعاقبة علما منهم ببقاء الدين غضا طريا ما دامت الامة تتذاكر تلك الفاجعة العظمي و لم يقتصروا علي لازمها و هو البكاء حتي رغبوا الي التباكي و هو التشبه بالباكي من دون ان يخرج منه دمع فيقول الامام الصادق: من تباكي فله الجنة [1] .

و معلوم ان التباكي انما يتصور فيمن تتعسر عليه الدمعة لكنه يفقد التأثر لاجل المصاب كما يشاهد في كثيرين فالتأثر النفساني بتصور ما ورد علي المحبوب من آلام و فوادح يستلزم قهرا النفرة عمن اورد ذلك العدوان.

و في الحديث عن النبي (ص) انه قرأ آخر الزمر: (فسيق الذين كفروا الي جهنم زمرا) علي جماعة من الانصار فبكوا الا شابا منهم قال لم تقطر من عيني قطرة و اني تباكيت قال (ص): من تباكي فله الجنة [2] .


و روي جرير عنه (ص) انه صلي الله عليه و آله قال: اني قاري ء عليكم «الهاكم التكاثر» من بكي فله الجنة و من تباكي فله الجنة [3] .

و حدث ابوذر الغفاري عن النبي (ص): اذ استطاع احدكم ان يبكي فليبك و من لم يستطع فليستشعر قلبه الحزن و ليتباك فان القلب القاسي بعيد من الله [4] .

و هذه الاحاديث تدلنا علي ان التباكي منبعث عن حزن القلب و تأثر النفس كالبكاء، لكن في باب الرهبة منه سبحانه و تعالي يكون الحزن و التأثر لاجل تصور ما يترتب علي مخالفة المولي من الخزي في الآخرة فيتباعد عنه و يعمل ما يقربه من المولي زلفة. و في باب تذكر مصائب آل الرسول يستوجب بغض من ناوأهم و أوقع بهم و أساء اليهم.

و لعل ما اشرنا اليه هو مراد الشيخ محمد عبده، فانه قال: التباكي تكلف البكاء لا عن رياء [5] .

و يقول الشريف الجرجاني: باب التفاعل اكثره اظهار صفة غير موجودة كالتغافل و التجاهل و التواجد، و قد انكره قوم لما فيه من التكليف و التصنع و اجازه قوم لمن يقصد به تحصيل الصفة و الاصل فيه قوله صلي الله عليه و آله: ان لم تبكوا فتباكوا، اراد به التباكي ممن هو مستعد للبكاء لا تباكي الغافل اللاهي [6] .

فالباكي و المتباكي مشتركان في احتراق القلب و تأثر النفس لاجل تصور ما ورد من الظلم علي اهل البيت (ع) و مشتركان في لازمه و هو النفرة و التباعد عن كل من دفعهم عن مقامهم.

و من لا يفقه مغازي كلام المعصومين يحكم بالرياء علي المتباكي و بعدما اوضحنا من السر تعرف قيمة البلاغة و قدر البلغاء.

و كل لاهل البيت عليهم السلام من اسرار غامضة لا يقف عليها الا من


مارس كلامهم و درس مقتضيات الاحوال، فانهم لم يزالوا يتحرون الوسائل الدقيقة لتوجيه النفوس نحوهم و تعريف ما لهم من حق مغصوب.

فمن ذلك ما اوصي به الامام الباقر عليه السلام باعطاء ثمانمائة درهم لنوادب يندبنه بمني ايام الموسم [7] .

فانك اذا عرفت ان الناس من مختلف الاقطار و المذاهب يجتمعون في مني ايام الحج و قد احلوا من كل ما حرم عليهم الا النساء و انها ايام عيد و تزاور فتعقد هناك حفلات المسرة و نوادي التهاني.

تعرف النكتة الدقيقة التي لاحظها الامام (ع) باختياره ايام مني علي عرفات و المشعر لاشتغال الناس بالعبادة و الابتهال الي المولي سبحانه في هذين الموقفين مع قصر الزمان.

نعم في ايام مني حيث انها ثلاثة و هي ايام عيد و فرح و سرور لا حزن و بكاء و طبعا ان السامع للبكاء في ايام المسرات يستفز الي الاسباب الموجبة له و يستاءل عمن يندبنه و ما هي دعوته و اعماله و يسأل عمن ناوأه و دافعه عن حقه، و بهذا الفحص يتجلي له الحق و الطريقة المثلي لأن نور الله لا يطفي و الدعوة اليه جلية البرهان.

و هذا النبا يتناقله الناس الي من كان نائيا عن هذه المواقف عند الاياب الي مقرهم، فيصل الي الغائبين بهذا الطريق و به تتم الحجة فلا يسع كل احد ان يتذرع بعذر عدم الوصول الي المدينة التي هي موطن «حجة الله (ع)» و لا من ابلغه خبره، و لا عرفت دعوة الامام و ضلال مناوئه فلا يبقي حينئذ جاهل قصر علي الاغلب.

و من هنا نفهم السبب في اعراض الامام (ع) عن الوصية للنوادب يندبنه بمكة او في المدينة ايام الحج فانه في البلدين لا تكون الندبة الا في الدور فمن اين يقف الرجال عليهن و كيف يكون هذا البكاء مشعرا بالغرض المطلوب.


و دعوي كون صوت المرأة عورة و يحرم علي الاجانب سماعه مردودة بما رواه الكليني في الكافي: ان ام خالد دخلت علي الامام الصادق (ع) و كانت عاقلة عارفة و عنده ابوبصير، فقال عليه السلام لابي بصير اتحب ان تسمع كلامها؟ ثم اجلسها معه علي الطنفسه و تكلمت ام خالد فاذا هي امراة بليغة عاقلة [8] فلو كان سماع صوت المرأة محرما علي الاجانب لما اجاز الامام ذلك لابي بصير.

علي ان وصية الامام الباقر بالمال للنوادب بمني تفيد الجواز لان سماع الرجال اصواتهن لا ينكر و الا لأمر بالبكاء عليه في دور المدينة و مكة بل النكتة الملحوظة للامام (ع) لا تحصل الا بسماع الرجال اصواتهن و ما يدعون اليه.

و في حديث حماد الكوفي ان الصادق قال له: بلغني ان اناسا من اهل الكوفة يأتون قبر ابي عبدالله (ع) في النصف من شعبان فبين من يقرأ و يقص الي ان قال و نساء يندبنه، قال حماد: قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذي جعل في شيعتنا من يفد الينا و يمدحنا و يرثي لنا [9] و لا ينكر ان ندبة النساء عند القبر يلزمها سماع الاجانب اصواتهن و لو كان محرما لما استحسنه الامام الحجة و دعا لهم بالرحمة.

و اما كون صوت المرأة عورة فلم تشهد به رواية و ما ورد من منع الرجال محادثة الاجنبية او المبيت معها في بيت واحد فليس من جهة كون صوتها عورة بل للحذر عن الوقوع فيما لا يحمد عقباه و ما ذكره العلامة الحلي في التحرير اول النكاح المسألة التاسعة لا يجوز للاعمي سماع صوت الاجنبية فلعله لذلك لا لانه عورة. نعم صرح في التذكرة اول النكاح ان صوتها عورة يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه و للشافعية قولان في كونه عورة اولا ورد صاحب الجواهر علي المحقق بالسيرة المتواترة في الاعصار فقد كانت النساء تخاطب الائمة و خطبة الزهراء و بناتها معلومة.

و الفقه السني لم يمنع منه، ففي الفقة علي المذاهب الاربعة ج 1 ص 167 صوت المرأة ليس بعورة لان نساء النبي (ص) كن يتكلمن مع الصحابة


و يستمعون منهن احكام الدين. و قال الشيباني الحنبلي في نيل المآرب ج 2 ص 127: صوت المرأة لم يكن عورة ولكن يحرم التلذذ بصوتها و هو مختار ابن حجر في كف الرعاع علي هامش الزواجر ج 1 ص 27: نعم ذهب بعض اهل السنة الي كونه عورة و لم يستصحه ابن حجر و في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 1 ص 270 ذكر المصنف في الكافي ان المرأة لا تلبي جهرا لأن صوتها عورة و عليه صاحب المحيط في باب الاذان و في فتح القدير علي هذا لو قيل اذا جهرت في الصلاة فسدت كان متجها و في شرح المنية الاشبه ان صوتها ليس بعورة و انما يؤدي الي الفتنة كما علل به صاحب الهداية و غيره في مسألة التلبية و في النوازل نغمة المرأة عورة و بني عليه تعلمها القرآن من المرأة احب من تعلمها من الاعمي انتهي البحر الرائق. و قال ابن نجيم في الاشباه و النظائر ص 200 في احكام الخنثي صوتها عورة في قول و في الفروع لابن مفلح الحنبلي ج 3 ص 12 لا يحرم سماع صوتها علي الاصح لانه ليس بعورة و في عمدة القاري للعيني شرح البخاري ج 4 ص 12 آخر باب الامر باتباع الجنائز يجب علي المرأة رد سلام الرجل و لا ترفع صوتها لانه عورة. و في طرح التثريب لزين الدين العراقي ج 1 ص 250 عند ابن عبدالبر في الاستذكار عدم كونه عورة و هو الصحيح عند الشافعية و فيه ج 7 ص 45 في النكاح صوتها ليس بعورة و في شرح المجموع للنووي ج 7 ص 249 طبع ثاني صرح الدارمي و القاضي ابوالطيب ان رفع صوتها بالتلبية غير حرام و في نيل الاوطار للشوكاني ج 4 ص 274 باب التلبية عند الروياني و ابن الرفعة لا يحرم رفع صوتها بالتلبية لانه ليس بعورة.


پاورقي

[1] امالي الصدوق ص 86 مجلس 29.

[2] کنز العمال ج 1 ص 147.

[3] نفس المصدر ص 148.

[4] اللؤلؤ و المرجان للنوري ص 47 و مجموعة شيخ و رام ص 272.

[5] تفسير المنار ج 8 ص 301.

[6] التعريفات ص 48.

[7] التهذيب للطوسي ج 2 ص 108 کتاب المکاسب، و المنتهي للعلامة الحلي ج 2 ص 112، و الذکري للشهيد الاول المبحث الرابع من احکام الاموات، و فيمن لا يحضره الفقيه ص 36 انه (ع) اوصي بثمانمائة درهم لمأتمه و ان يندب في المواسم عشر سنين.

[8] الوسائل للحر العاملي ج 3 ص 25 باب 106 حکم سماع صوت الاجنبية و في روضة الکافي الحديث 319.

[9] کامل الزيارات ص 325 باب 108 اول النوادر.