حالة أهل البيت حين دخولهم المدينة
قال الشيخ ابن نما الحلي يصف الحالة: ثم دخل زين العابدين عليه السلام و جماعته دار الرسول صلي الله عليه و آله فرآها مقفرة الطلول، خالية من سكانها، خالية بأحزانها، قد غشيها القدر النازل، و ساورها الخطب الهائل، و أطلت عليها عذابات المنايا، و أظلتها جحافل الرزايا، و هي موحشة العرصات، لفقد السادات...
و قفت علي دار النبي محمد
فألفيتها قد أقفرت عرصاتها
و أمست خلاء من تلاوة قاري ء
و عطل منها صومها وصلاتها
و كانت ملاذا للعلوم و جنة
من الخطب يغشي المعتقين صلاتها
فأقوت من السادات من آل هاشم
و لم يجتمع بعد الحسين شتاتها
فعيني لقتل السبط عبري و لوعتي
علي فقده ما تنقضي زفراتها
فيا كبدي كم تصبرين علي الأذي
أما آن أن يغني اذن حسراتها [1] .
و قال السيد محمد بن أبي طالب الكركي: «و لما شاهد عليه السلام منازل أحبائه التي كانت مشارق أنوار الايمان و مظاهر أسرار القرآن و مواطن مصابيح العرفان و معادن مجاويع الاحسان تندب بلسان حالها و تنحب لفقد رجالها و تذرف عبراتها من مآقيها و تصاعد زفراتها من تراقيها، و تنادي بصوت ينبي ء عن شدة لوعتها، و يخبر بحدة كربتها، و يستخبر كل راكب و راجل، و ينشد كل ظاعن و نازل:
أين من كانوا شموسي و بدوري
أين من كانوا جمالي و سروري
أين من كانوا حماتي و رعاتي
و هداتي حين تعييني أموري... [2] .
مذ نأوا بالبعد عن انسان عيني
كثر الشامت اذ قل نصيري
يا عيوني ان تكن عزت دموعي
فاذر في بالدم من قلب كسير
نادي مجالس كراماتهم و مدارس تلاواتهم و مقامات عباداتهم و محاريب صلواتهم، أين من كتب رياض الكرم بجودهم و حماة الامم بوجودهم؟ أين عمارك بركوعهم و سجودهم و قوامك في طاعة معبودهم؟ أين من كانت حدائق أنعمهم في فنائك مغدقة و جداول كرمهم في خلالك متدفقة، و أعلام علومهم منصوبة، و أروقة شرفهم مضروبة؟ كم أضاءوا بمصابيح نفقاتهم ظلمتك؟ و كم آنسوا بنغمات تلاوتهم وحشتك؟ و كم أحيوا بصلاتهم ليلك و نهارك؟ و كم أناروا بنور تهجدهم حنادس أسحارك؟
فأجابه صداها بلسان حالها و أخبره فناؤها بتنكر أحوالها: رحلوا عن تقنعي فسكنوا في بيت الأحزان قلبي، و نأوا عن ربوعي، فأطالوا لطول نواهم كربي، فآه فياشوقاه لمواطي ء أقدامهم علي صعيدي، آه وا أسفاه لانتقال أقمار وجوههم عن منازل سعودي، خابني زماني بابعادهم عني، فأصبح باب سروري مرتجي، و عاندني دهري اذ أسلبهم مني، فليس لي بعدهم في الخلق مرتجي، فيا كلم قلبي ذب أسفا فما لك مأوي في رميم عظامي، و يا سقيم جسمي مت كمدا قبل تقضي مدتي و أيامي...
و شاهد صلوات الله عليه منازل أحبائه مظلمة لوحشتها، مقفرة لخلوتها،
فكأني بلسان حاله قد ناجاها، و ببيان مقاله نادها: يا أيتها المنازل التي غابت عنها حماتها، و غيرت صفاتها، و حلت مرابعها، و أقوت مجامعها، حزني لفقد عمارك سرمد، و وجدي لبعد سمائك لا ينفد، و أنباء مصيبتهم ترسل عبراتي، و أحاديث محنتهم تهيج حسراتي، و ديارهم الخالية تحرق قلبي، و ربوعهم الخاوية تذهل لبي، و كيف لا يقدح زند الفراق نار الاشتياق في جوانحي و أحشائي، و يفرغ فرط الغرام ثوب السقام علي جوارحي و أعضائي..». [3] .
پاورقي
[1] مثير الأحزان: 114.
[2] هنا عدة أبيات لم أذکرها مراعاة للاختصار.
[3] تسلية المجالس 464:2.