بازگشت

نظرة خاطفة في الخطبة و صداها


لقد اقتصر الامام السجاد عليه السلام في هذه الخطبة علي التعريف باسرته و نفسه، و لم يتعرض لشي ء آخر - فيما وصل الينا من خطبته الشريفة - و لعل السر في ذلك أنه لما كان يعلم أن المجتمع الشامي لا يعرف عن أهل البيت و منزلتهم الرفيعة شيئا، لكونه تربي في أحضان سلطة الطغاة من بني أمية التي أخفت عنهم الحقائق و غذتهم بالولاء لأبناء الشجرة الملعونة - بني أمية - و الحقد علي آل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله، اكتفي عليه السلام بذلك.

و من هذا المنطق نري أن الامام عليه السلام يعالج المسألة عاطفيا، لأن تأثيره - في هذه المرحلة - أكثر من أي أداة، و مضمون الخطبة يرشدنا الي أن المخاطبين كانوا من جمهور الناس، لا الأشراف و الأعيان منهم فحسب، فجو المجلس يختلف عن جو مجلس يزيد العام الذي كان محشوا بالأعيان و الأشراف و كبار رجال أهل الكتاب و بعض ممثلي الدول الكبار آنذاك. [1] .

فلذلك نري أن الامام يعدد مزايا آل البيت عليهم السلام، و يخص بالذكر رجالا منهم ليس لهم بديل و لا نظير، فيقول بأن منا النبي المختار، و منا الصديق - يعني علي بن أبي طالب عليه السلام - و منا الطيار - يقصد جعفر بن أبي طالب عليه السلام - و منا أسد الله و أسد الرسول - يريد حمزة سيد الشهداء عليه السلام - و منا سيدة نساء العالمين - أي فاطمة البتول عليهاالسلام - و منا سبطا هذه الامة و سيدا شباب أهل الجنة - الحسنين عليهماالسلام - دون أن يصرح في البداية بالمقصود ممن يذكرهم بهذه الأوصاف مثل الصديق، و سيدي شباب أهل الجنة و...، حتي يذكر أوصافا متعددة لهم تكشف عن بعض زوايا حياتهم و فضائلهم، ليكون أوقع بالنفوس، كما كان ذلك بالفعل.


و بعد ذلك يذكر الامام أصله و جذره نسبا و موطنا، حتي يعلم الجميع أنه فرع الشجرة النبوية و الثمرة العلوية و الجوهرة الفاطمية و اللؤلؤة الحسينية، و من قلب مكة و المدينة، فكيف شوهت السلطة الباغية و الحكومة الطاغية الواقع علي الناس و أذاعت الكذب و عرفتهم للأمة بأنهم الخوارج علي أميرالمؤمنين يزيد!

ان الامام عليه السلام بعد تبيينه مختصات جده رسول الله صلي الله عليه و آله من الوحي و المعراج و... يقوم ببيان خصائص جده المظلوم أسد الله الغالب الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، و المجتمع الشامي يسمع أوصافا له يسمعها أول مرة؛ فهو الذي ضرب بين يدي رسول الله بسيفين و طعن برمحين و هاجر الهجرتين و بايع البيعتين و صلي القبلتين و قاتل ببدر و حنين و لم يكفر بالله طرفة عين.. وارث النبيين و قامع الملحدين و يعسوب المسلمين.. و تاج البكائين و أصبر الصابرين.. المؤيد بجبرائيل و المنصور بميكائيل.. قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين..

ثم يذكر بعض خصائص جدته الصديقة الكبري الانسية الحوراء فاطمة الزهراء عليهاالسلام حتي يصل الي قمة كلامه بقوله «أنا ابن المقتول ظلما..» يقول ذلك و الظالم - يزيد - جالس بين يديه في المجلس. ويشير الي بعض مأساة كربلاء فيقول: «أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتي قضي، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة و الرداء».

و بذلك عرف الناس أن والده الحسين قد قتل مظلوما، عطشانا، و احتز رأسه الشريف من القفا، و طرح جسمه الطاهر بكربلاء و سلب عمامته و رداؤه.

فانقلب المجلس - و ذلك تبعا لانقلاب العالم - لقتل الحسين عليه السلام! كيف لا و قد قال الامام عليه السلام: «أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض و الطير في الهواء..».


هذا ما جري في كربلاء، و هذا ما وقع في الكون بقتل الحسين عليه السلام، و أما الشي ء الموجود حاليا بالشام الذي لابد أن يلتفت اليه هذا الجمهور الغافل الضائع فهو أن جسم الحسين عليه السلام الطاهر و ان كان في كربلاء و لكن رأسه الشريف و حرمه موجودان بالشام و بين أيديهم، و نبههم الامام علي ذلك بقوله: «أنا ابن من رأسه علي السنان يهدي، أنا ابن من حرمه من العراق الي الشام تسبي..».

و لم يجد الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية مفرا الا أن يلتجي ء الي المؤذن بذريعة الأذان، و قد كان يعلم في البداية أن الامام عليه السلام لو صعد المنبر يقلب الوضع عليه، و قد صرح بأنه لو صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحته و فضيحة آل أبي سفيان، و أنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا، و لكن اصرار الناس غلبه علي أمره، و أظن أنه ما كان يعلم أنه ينقلب الأمر عليه الي هذه الدرجة، و الا لما كان يرضي بذلك، و ان بلغ ما بلغ، و انما رضي بذلك خوفا من الناس و فرارا من حفيرة، و لكنه وقع في بئر حفره سوء عمله و خبث ضميره، و أوجبه كلام حق صدر من قلب طاهر علي لسان صادق.

نعم، ان يزيد لم يتمكن أن يقطع كلام الامام الا بالأذان، كما أن أباه - معاوية - لم يتمكن أن يهرب من سيف جده - علي بن أبي طالب عليه السلام - الا برفعه المصاحف! ولكن الامام واجه هذه الخدعة ببيان حقيقة الربوبية و واقع التوحيد و لب الرسالة، و واجه الطاغية يزيد بكلامه: يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك، فان زعمت أنه جدك فقد كذبت، و ان قلت انه جدي فلم قتلت عترته؟

فطرح أمامه سؤالا لم يحر يزيد جوابا له، و هو أن هذا محمدا رسول الله الذي تشهد برسالته فيما تزعم، و تترأس رئاسة أمته، و تدعي خلافته - ظلما و زورا - فهل هو جدك أم جدي؟ اذا كنت تدعي أنه جدك فهذا كذب واضح، فالجميع


يعلم أنك فرع الشجرة الملعونة، و اذا قلت انه جدي فلماذا قتلت عترته و سبطه، سبيت أهله.

قال بعض المؤرخين: لقد أثر خطاب الامام تأثيرا بالغا في أوساط المجتمع الشامي، فقد جعل بعضهم ينظر الي بعض و يسر بعضهم الي بعض بما آلوا اليه من الخيبة و الخسران، حتي تغيرت أحوالهم مع يزيد [2] ، و أخذوا ينظرون اليه نظرة احتقار و ازدراء.


پاورقي

[1] و هذا يؤيد أنها ألقيت في المسجد لا المجلس، انظر: بحارالأنوار، 161:45.

[2] جوهرة الکلام في مدح السادة الأعلام: 128 - علي ما في «حياة الامام الحسين عليه‏السلام» 388:3.