بازگشت

تأمل و ملاحظات


1) الملفتُ للانتباه والمثير للعجب في متن هذه الرواية رواية الطبري هو أنّ هذين الرجلين الاسديين مع حسن أدبهما مع الامام عليه السلام وعاطفتهما نحوه لم يكونا ممّن عزم علي نصرة الامام عليه السلام والالتحاق بركبه! كلُّ مافي أمرهما هو أنّ الفضول دفعهما إلي معرفة مايكون من أمر الامام عليه السلام فقط! هذا باعترافهما كما


في الرواية وقد تخلّيا عنه أخيراً بالفعل وفارقاه!.

2) والمتأمّل في نصوص محاورات الامام الحسين عليه السلام منذ أن أعلن عن قيامه المقدّس يجد أنّ الامام كان لايخاطب هذا النوع من الرجال نوع هذين الاسديين بمُرِّ الحقّ وصريح القضية، بل كان يسلك إلي عقولهم في الحديث عن مراميه سُبلاً غير مباشرة، يعرض فيها سبباً أو أكثر من الاسباب التي تقع في طول السبب الرئيس بما يُناسب المقام والحال!

فقوله عليه السلام صدق وحقّ: (لاخير في العيش بعد هؤلاء) أي بني عقيل، بعد أن وثبوا لنباء مقتل مسلم عليه السلام وقالوا: واللّه لانرجع حتي نصيب ثاءرنا أو نذوق ماذاق!، لكنّ هذا لايعني أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار الامام علي التوجّه إلي الكوفة، فالامام عليه السلام لم يعلّل في أي موقع أو نصّ إصراره علي التوجّه إلي الكوفة بطلب الثاءر لمسلم عليه السلام، بل كان يعلّل ذلك في أكثر من موقع ونصّ بحجّة رسائل أهل الكوفة وببيعتهم، بل حتّي رسائل أهل الكوفة كانت سبباً في مجموعة أسباب وقعت في طول السبب الرئيس ‍ لقيامه عليه السلام وهو إنقاذ الاسلام المحمّديّ الخالص من يد النفاق الاموية وتحريفاتها!

ها هو الامام عليه السلام يوجّه مسلم بن عقيل الي الكوفة ويبشّره بالشهادة! فيقول:

(إنّي موجّهك إلي أهل الكوفة، وهذه كتبهم إليَّ، وسيقضي اللّه من أمرك مايحبّ ويرضي، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء!...). [1] .

ويقول عليه السلام للفرزدق: (رحمَ اللّه مسلماً، فلقد صار إلي روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضي ما عليه وبقي ما علينا...). [2] .


إذن فالقضية عند الامام عليه السلام هي قضية نجاة الاسلام التي هي أكبر من دم مسلم عليه السلام ومن كلّ دم! وهذه القضيّة هي السبب الرئيس في إصرار الامام عليه السلام علي مواصلة السير نحو الكوفة، لاطلب الثاءر لمقتل مسلم عليه السلام! ولالانّه لاخير عنده في العيش بعد شباب بني عقيل وإن كان ذلك حقّاً!

3) ولايُعباء بما روي أنّ الامام عليه السلام كان قد همّ بالرجوع بعد أن علم بمقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعلم بعدم وجود من ينصره في الكوفة!، ذلك ما ذكره ابن قتيبة في (الامامة والسياسة) حيث قال: (وذكروا أنّ عبيداللّه بن زياد بعث جيشاً عليهم عمرو بن سعيد، وقد جاء الحسين الخبر فهمَّ أن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له: أترجع وقد قُتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به!؟

فقال لبعض أصحابه: واللّه مالي عن هؤلاء من صبر!...)، [3] وذكره ابن عبدربّه في (العقد الفريد) حيث قال: (فبعث معه أي مع عمر بن سعد جيشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشراف، [4] فهمَّ بأن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل...). [5] .


أمّا الطبري فله رواية أيضاً بهذا الصدد، هي: (فاءقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتي إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر! قال له: إرجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه!، فهمَّ أن يرجع! وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: واللّه لانرجع حتي نصيب بثأرنا أو نُقتل! فقال: لاخير في الحياة بعدكم، فسار فلقيته أوائل خيل عبيداللّه، فلمّا رأي ذلك عدل إلي كربلاء..). [6] .

وهذه الرواية معارضة لرواية الطبري نفسه الموافقة لماهو مشهور من أنّ الحرّ (رض) التقي الامام عليه السلام ما بعد شراف في ألف فارس، مأموراً من قبل ابن زياد ألاّ يفارق الامام عليه السلام حتي يُقدمه الكوفة! وقد قال للامام عليه السلام في (ذي حسم) وهو يسايره: ياحسين إنّي أذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلَنّ، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أري! فقال له الحسين:

أفبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الاوس لابن عمّه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّه (ص) فقال له: اين تذهب، فإنّك مقتول!؟ فقال:



سأمضي وما بالموت عارٌ علي الفتي

إذا مانوي حقّاً وجاهد مسلما



واَّسي الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما.). [7] .



هذه هي الهمّة الحسينية العالية القاطعة! [8] فأين هي من (فهمَّ أن يرجع)!؟


نعم، ربّما استفاد بعضُ المؤرّخين أنّ الامام عليه السلام (همَّ بالرجوع) من أنّه عليه السلام علي بعض الروايات نظر إلي بني عقيل فقال لهم: (ماترون، فقد قُتل مسلم؟ فبادر بنو عقيل وقالوا: واللّه لانرجع، أَيُقتل صاحبنا وننصرف!؟ لاواللّه، لانرجع حتي نصيب ثاءرنا أو نذوق ماذاق صاحبنا...). [9] .

والارجح أنّ الامام عليه السلام أراد أن يختبر عزم وتصميم بني عقيل علي مواصلة المسير معه بعد نباء مقتل مسلم عليه السلام فسألهم (ماترون..؟)، فكانوا عند حسن معرفته بهم.


پاورقي

[1] الفتوح، 5:53.

[2] اللهوف: 32.

[3] الامامة والسياسة، 2:5 / وهي رواية (مرسلة: ذکروا) فضلاً عن اضطراب متنها، إذ إنّ عمرو بن سعيد هو والي مکّة آنذاک ولاسلطة لابن زياد عليه، والذي بعثه ابن زياد هو عمر بن سعد وليس ذاک، کما أنها لاتحدّد مکان الحدث!، ثمّ إنّ عمر بن سعد لم يُبعث بالفعل إلاّ بعد وصول الامام عليه السلام الي کربلاء وقد جُعجع به ومُنع من التوجّه حيث يشاء، فتأمّل!.

[4] شراف: ماء بنجد، بين واقصة والقرعاء، علي ثمانية أميال من الاحساء (راجع: معجم البلدان، 3:331).

[5] العقد الفريد، 4:335 / وهذه الرواية أشدّ اضطراباً ومخالفة للمشهور عند أهل السير من خبر ابن قتيبة، إذ إنّ الذي التقاه الامام عليه السلام بشراف هو الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) مبعوثاً من قبل ابن زياد بألف فارس لاستقدام الامام عليه السلام إلي الکوفة مأسوراً هو ومن معه! ولم يکن عمر بن سعد يومذاک قد بُعث بالفعل قائداً من قبل ابن زياد علي جميع جيوشه لمواجة الامام عليه السلام.

[6] تاريخ الطبري، 3:297؛ وانظر: تذکرة الخواص: 221-222.

[7] تاريخ الطبري، 3:307.

[8] يقول ابن طباطبا (المعروف بابن الطقطقا) في تأريخه: (ثمّ إنّ الحسين عليه السلام خرج من مکّة متوجّهاً إلي الکوفة، وهو لايعلم بحال مسلم! فلمّا قرب من الکوفة علم بالحال، ولقيه ناسٌ فأخبروه الخبر وحذّروه فلم يرجع وصمّم علي الوصول الي الکوفة لامرٍ هو أعلم به من الناس..)، (الفخري في الاداب السلطانية والدول الاسلامية: 115 / دار صادر).

[9] مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي، 1:328.