بازگشت

المعركة الاخيرة حرب الشوارع


كان سيّدنا مسلم بن عقيل عليه السلام قد أبي أن يأكل شيئاً في ليلته الاخيرة، وحرص علي أن يُحييها بالعبادة والذكر والتلاوة فلم يزل قائماً وراكعاً وساجداً يصلّي ويدعو ربّه إلي أن انفجر عمود الصبح، لكنّه لشدّة الاعياء من أثر القتال في النهار كان قد أخذته سِنُةٌ من النوم، فرأي في عالم الرؤيا عمّه أميرالمؤمنين عليّاًعليه السلام، وبشّره بسرعة التحاقه بمن مضي منهم (ع) في أعلي عليين.

ففي كتاب نفس المهموم عن كتاب المنتخب للطريحي أنه: (لمّا أن طلع الفجر جاءت طوعة إلي مسلم بماءٍ ليتوضّاء.

قالت: يا مولاي، ما رأيتك رقدت في هذه الليلة!؟

فقال لها: إعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول: الوحاء الوحاء، العجل العجل! وما أظنّ إلاّ أنه آخر أيّامي من الدنيا!). [1] .

يقول الطبري: (فلمّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنّه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتي أخرجهم من الدار! ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبُكير بن حمران الاحمري ضربتين، فضرب بُكير فمَ مسلم فقطع شفته العُليا واشرع السيف في السفلي ونصلت له ثنّيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه مُنكرة وثنّي بأخري علي حبل العاتق كادت تطلع علي جوفه!، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويُلهبون النار في أطناب القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت!، فلمّا رأي ذلك خرج عليهم مُصلتاً بسيفه في السكّة فقاتلهم!


فأقبل عليه محمّد بن الاشعث فقال: يا فتي! لك الامان، لاتقتل نفسك! [2] فأقبل يقاتلهم وهو يقول:



أقسمتُ لاأُقتلُ إلاّ حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا



كُلُّ امريء يوماً مُلاقٍ شرّا

ويُخلط البارد سُخناً مُرّا



رُدَّ شعاع الشمس فاستقّرا

أخافُ أنْ أُكذَبَ أو أُغَرّا [3] .



فقال له محمّد بن الاشعث: إنّك لاتُكذَب ولاتُخدَع ولاتُغرّ! إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولاضاربيك!

وقد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلي جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الاشعث فقال: لك الامان!

فقال: آمنٌ أنا؟

قال: نعم! وقال القوم: أنت آمن!

غير عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس السلمي فإنه قال: لاناقة لي في هذا ولاجمل وتنحّي.


وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعتُ يدي في أ يديكم! وأُتي ببغلة فحُمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه! فكأنّه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أوّل الغدر!

قال محمّد بن الاشعث: أرجو ألاّ يكون عليك بأس!

قال: ما هو إلاّ الرجاء!؟ أين أمانكم!؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون! وبكي، فقال له عمرو بن عبيداللّه بن عبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك!

قال: إني واللّه ما لنفسي أبكي، ولالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لاهلي المُقبلين إليَّ! أبكي لحسين وآل حسين!

ثُمَّ أقبل علي محمّد بن الاشعث فقال: يا عبداللّه، إنّي أراك واللّه ستعجز عن أماني! فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً علي لساني يُبلغ حسيناً، فإنّي لااراه إلاّ قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خرج غداً، هو وأهل بيته، وإنَّ ما تري من جزعي لذلك! فيقول إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير! لايري أن تمشي حتّي تُقتل! وهو يقول إرجع بأهل بيتك ولايغرّك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّي فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الاشعث: واللّه لافعلنَّ، ولاُعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك! [4] .


... وأقبل محمّد بن الاشعث بابن عقيل إلي باب القصر فاستأذن فأُذِن له، فأخبر عبيداللّه خبر ابن عقيل وضرب بُكير إياه، فقال: بُعداً له! فأخبره محمّد بن الاشعث بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيداللّه: ما أنت والامان!؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه!؟ إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت!

وانتهي ابن عقيل إلي باب القصر وهو عطشان، وعلي باب القصر ناسٌ جلوس يتنظرون الاذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حُريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب.. فإذا قُلّة باردة موضوعة علي الباب.

فقال ابن عقيل: أسقوني من هذا الماء.

فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لاواللّه لاتذوق منها قطرة أبداً حتّي تذوق الحميم في نار جهنم!

قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟

قال: أنا ابن من عرف الحقَّ إذ أنكرتَه! ونصح لامامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لامّك الثُكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسي قلبك وأغلظك!؟ أنت يا ابن باهلة أولي بالجحيم والخلود في نار جهنّم مني. ثم جلس متسانداً إلي حائط...

وروي الطبري أيضاً: أنّ عمرو بن حُريث بعث غلاماً له يُدعي سليمان فجاءَه بماءٍ في قُلّة فسقاه...


وروي أيضاً: أن عُمارة بن عقبة بعث غُلاماً له يُدعي قيساً فجاءه بقُلَّة عليها منديل، ومعه قدح، فصبّ فيه ماءً ثمّ سقاه، فأخذ كُلّما شرب امتلاالقدح دماً! فلمّا ملاالقدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيّتاه فيه! فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم شربته!). [5] .


پاورقي

[1] نفس المهموم: 99؛ عن المنتخب للطريحي: 462، المجلس التاسع من الجزء الثاني.

[2] کان صاحب اقتراح الامان هو ابن زياد نفسه کما سوف يأتي فقد کان يعلم أنّ جنده لايقدرون علي مسلم عليه السلام إلاّ بأمان! ولذا کان ابن زياد قد أوصي ابن الاشعث قائلاً: (أعطه الامان، فإنّک لن تقدر عليه إلاّ بالامان!) (الفتوح، 5:94).

[3] في هذه الابيات الثلاثة وهي من بحر الرجز من البلاغة العالية والصدق والحرارة ما يجعل النفوس إلي اليوم تتأثر تأثراً شديداً بها! فهوعليه السلام يقول: إنّه قد صمّم علي الاحتفاظ بحريّته ولو أدّي هذا إلي قتله والموت لاتشتهيه النفوس عامة وتنفر منه والانسان کما يري ما يسرّه يلاقي أيضاً ما يسوءه، هکذا تتقلب الدنيا بأحوالها وأهلها، فالبارد الحلو لابُدّ ان يُخلط بساخن مُرٍّ، وشعاع الشمس الدافق بالحياة والنشاط لابدّ أن يرتدّ في النهاية ويستقرّ إذا حجب الشمس حجابٌ! وکذا الانسان لابدّ بعد موت أو قتل أن يهداء ويستقرّ بعد حيوية وتدفّق ونشاط.

[4] وروي الطبري قائلاً: (دعا محمّد بن الاشعث إياس بن العثل الطائي من بني مالک بن عمرو بن ثمامة، وکان شاعراً وکان لمحمّد زوّاراً، فقال له: إلقَ حسيناً فأبلغه هذا الکتاب. وکتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادک وجهازک ومتعة لعيالک. فقال: من أين لي براحلة فإنّ راحلتي قد أنفضيتها؟ قال: هذه راحلة فارکبها برحلها. ثمّ خرج فاستقبله بزبُالة لاربع ليالٍ، فأخبره الخبر وبلّغه الرسالة، فقال له حسين: کلُّ ما حُمَّ نازل، وعند اللّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا!)، (تاريخ الطبري، 3:290).

[5] تأريخ الطبري، 3 :289-290؛ وانظر: الارشاد: 197؛ وانظر: مقاتل الطالبيين: 69-70.