بازگشت

لماذا لم يقتحم الثوار القصر


لعلّ هذا التساول قد انقدح في ذهن كلّ من فكّر وتأمّل في قصة حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام، وهو سؤالٌ وجيه، يبقي السائل عنده في حيرة واستغراب مالم يُلمَّ بكل المتون التأريخية الواردة في قصة تلكم الايّام، ويُحيط بشوارد الدلالات الظاهرة والخفيّة فيها، أو يتلقّي الاجابة المقنعة عن ذي علم قد أحاط بها.


ومن مجموع تلكم المتون يمكننا أن نذكّر بمجموعة من الملاحظات التي تتضح وتتحدّد بمعرفتها واستذكارها الاجابة عن هذا التساؤل:

1) ذكرنا من قبلُ أن قرار المواجهة مع الحكومة المحليّة في الكوفة كان قراراً إستثنائياً فرضته الضرورة التي اضطرّت مسلماًعليه السلام إلي الخروج عن أصل خط السير في إتمام إعداد وتحضير جموع المبايعين روحياً وعملياً لتحمّل أعباء النهضة مع الامام عليه السلام، والمدّة التي قضاها مسلم عليه السلام منذ دخوله الكوفة حتي محاصرته القصر وهي حوالي شهرين تعتبر قصيرة إزاء المدّة المطلوبة لاتمام الاعداد والتحضير.

إذن فقد حاصر مسلم عليه السلام القصر بجموع أكثريتها لم تستكمل الاعداد الكافي، فهي من حيث الناحية الروحيّة لم يزل الشلل النفسي والوهن الروحي يحبّب لهم الدنيّا والعافية والسلامة وكراهية الموت إنهم يتمنّون لو انتصر مسلم أو الامام (ع) ولكن بلامؤنة علي أنفسهم في ذلك!، ولم يزل إسم (جيش الشام) يثير فيهم أقصي درجات الرعب والاحساس بالهوان والمذلّة!، ومن الناحية العملية فإنّ ارتباطهم القبلي لم يزل عند الاكثرية منهم أقوي من الارتباط الديني، وهذا أخطر ما يمكن أن يضرَّ بالحركة الدينية الثورية آنذاك، وربّما إلي اليوم في بعض ‍ بلدان العالم الاسلامي! هذا فضلاً عن عدم استكمال تحضير العدّة الكافية من أسلحة وأموال، وتدريب ووسائل وأساليب الارتباط والامداد وما إلي ذلك!

يري المتتبع ماقلناه في هذه النقطة واضحاً جليّاً في دلالات بعض المتون التأريخية، فهذا عبّاس بن جعدة الجدلي وهو أحد قادة الالويّة في جيش مسلم عليه السلام يقول: (خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلاّ ونحن


ثلثمائة!)، [1] وهذا ابن نما (ره) يروي أنّ مسلماًعليه السلام أحسَّ بالخذلان قبل مهاجمته القصر حيث (رأي أكثر من بايعه من الاشراف نقضوا البيعة وهم مع عبيداللّه!)، [2] وخذ مثلاً علي تفضيل الانتماء القبلي علي الرابطة الدينية رواية الطبري أنّ ابن زياد دعا كثير بن شهاب (فأمره أن يخرج فيمن أ طاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الاشعث أن يخرج فيمن أ طاعه من كندة وحضرموت..)، [3] وفي هذا النصّ بالذات إشعار كافٍ أيضاً بالحالة المعنوية المتدنيّة عند الناس يومذاك، والتي كان ابن زياد لعنه اللّه يعرفها جيداً فيهم وفي وجهائهم!

2) كان لتفرّق قبيلة مذحج وإنصرافها عن القصر، وبقاء هاني (رض) رهن الاعتقال وخطر القتل بعد أن اجتمعت مذحج قاطبة بكلّ فروعها لاستنقاذه أو للثاءر له أثرٌ سيء كبير فيما بعد علي المواجهة التي قام بها مسلم عليه السلام لاستنقاذ هاني (رض)، إذ ألقت هذه النهاية الخائبة في روع النّاس وهذا ما كان يهدف إليه أيضاً ابن زياد وعمرو بن الحجّاج وأمثالهم أنّه إذا كانت مذحج قبيلة هاني (رض) نفسه وهي أكبر وأقوي قبيلة في الكوفة لم تستطع إنقاذه، أو رضيت ببقائه معتقلاً عند ابن زياد، فما بال مسلم عليه السلام يصرُّ علي إطلاق سراحه!؟ وهل يقوي بمن معه من هذا الخليط المنوّع من قبائل شتّي أن يحقّق مالم تحققه مذحج نفسها!؟

لقد كان هذا سبباً من اسباب انبعاث الشك في قلوب ضعاف الايمان من أهل


الكوفة وما أكثرهم! حول قدرة مسلم عليه السلام علي تحقيق مايريد، ممّا أدّي إلي تراخي الهمّة والعزم فيهم وتفرّقهم عنه.

وإذا تذكّرنا أنّ حادثة اجتماع مذحج وإحاطتها بالقصر ثمّ تفرّقها وإنصرافها عنه قد تزامنت مع قيام مسلم عليه السلام وإقباله بمن معه لمحاصرة القصر مع تفاوت زمني قليل جدّاً علمنا أنه لم يكن هناك متسع من الوقت أمام قيادة الثورة لمعالجة هذا الاثر النفسي السيء الذي سببته النهاية الخائبة لاجتماع مذحج ثمَّ انصرافها.

ولعلّ هذا الاثر النفسيّ السّيء هو الذي يفسّر لنا تناقص عدد جيش مسلم عليه السلام في بداية الامر كما حدّثنا بذلك القائد عبّاس الجدلي: (خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلاّ ونحن ثلثمائة!).

3) الظاهر مما توحيه بعض المتون التأريخة أنّ مسلماًعليه السلام حاصر القصر بعدد من مبايعيه (أربعة آلاف) يشكّل أقل من ثلث العدد الشهير لمجموع مبايعيه (ثمانية عشر ألفاً)، ويبدو أنّ بقيّة هذا المجموع الذين لم يشتركوا في بدء محاصرة القصر كانوا مبثوثين في داخل مدينة الكوفة وفي أطرافها وضواحيها، والظاهر أنّ مسلماًعليه السلام قد أ رسل إليهم من يخبرهم بقراره الاستثنائي ويستنفرهم للالتحاق به، ويبدو أنّ من كان منهم في داخل الكوفة قد استطاع الالتحاق بمسلم عليه السلام قبل المساء، بدليل قول القائد عبّاس الجدلي أ يضاً: (.. ثمّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلاّ قليلاً حتّي امتلاالمسجد من الناس والسوق ومازالوا يثوبون حتّي المساء..)، [4] كما أرسل مسلم عليه السلام إلي قواته الموجودة في أطراف الكوفة، لكنها في الظاهر لم تستطع الوصول الي داخل


الكوفة إلاّ بعد تفرّق النّاس وانتهاء الحصار وانقلاب الوضع، مثل اللواء الذي جاء به المختار، واللواء الذي جاء به عبداللّه بن الحارث بن نوفل، حيث وصلاإلي داخل الكوفة بعد فوات الامر، فاضطّر المختار إلي أن يدّعي أنه جاء لحماية عمرو بن حُريث! بعد أن وضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، ففي رواية تأريخية: (وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعي (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته علي باب عمرو بن حريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! ووضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الامان عند عمرو بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلي أن قتل الحسين عليه السلام.). [5] .

من هنا، يُفهم أنّ مسلماًعليه السلام بقي مدّة طويلة من ذلك النهار يستجمع قوّاته وينتظر وصول مالم يصل منها للقيام بعمل عسكري حاسم يؤدي إلي فتح القصر أمام الثّوار والسيطرة عليه وعلي من فيه.

4) لايشكُّ المتأمّل العارف بأخلاقية أهل البيت (ع) السامية وأخلاقية من تربّي في أحضانهم وكنفهم، والمُدرك للضرورات السياسية والاجتماعيّة، أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان يحرص كلّ الحرص علي سلامة هاني بن عروة (رض)


وعلي انقاذه وإطلاق سراحه محفوظ العزّة والجاه والكرامة، وبرغم أنف ابن زياد ومن شايعه من وجهاء وأشراف الكوفة.

وذلك: لايمان هاني (رض) ومظلوميّته وأهميّته، فنصرته واستنقاذه وإعزازه أمرٌ واجب مع القدرة علي ذلك، وتتجلّي أهميّة هاني (رض) فضلاً عن كونه قياديّاً بارزاً جداً في التكتل الثوري في كونه القطب الذي يمكن أن تجتمع عند كلمته قبيلة مذحج قاطبة، ففي إطلاق سراحه عزيزاً منتصراً علي يد قوّات الثورة برغم ابن زياد تعزيز وتقوية لموقعه الرفيع في أهل الكوفة عامة، وفي قبيلة مذحج خاصة التي قد تستشعر فضل الثورة عليها بإطلاق سراح زعيمها معزّزاً مُكرّماً، الامر الذي قد يدفع جميع مذحج بعد ذلك إلي إطاعة هاني (رض) في مناصرة الثورة والانضمام إليها إلي آخر الامر، ولايخفي ما في جميع ذلك من إذلالٍ للسلطة الامويّة وكسر لشوكتها وإضعافها، هذا علي فرض أنّ المواجهة بين الثوّار والسلطة كانت ستنتهي عند إطلاق سراح هاني (رض).

من هنا، يمكن للمتأمّل المتتبع أن يجزم بأنّ الثوّار كانوا قد عزموا علي اقتحام القصر، ووضعوا لذلك الخطّة التي تضمن سلامة هاني (رض) أيضاً.

5) هناك إشارات تأريخية تفيد أنّ عبيداللّه كانت قد تزايدت قواته القتالية طيلة نهار ذلك اليوم يوم حصار القصر حتّي صار بإمكانها أن تؤخّر عملية اقتحام الثوار للقصر حتّي المساء.

نعم، لعلّ من الصحيح ما ورد أنه لم يكن معه في البدء لمّا أقبلت قوات مسلم عليه السلام نحو القصر غير ثلاثين رجلاً من الشُرَط وعشرين رجلاً من اشراف الناس وأهل بيته ومواليه، [6] لكنّ الاشراف والوجهاء الذين كان ميلهم مع ابن زياد أو


كانوا يخشون أن تصيبهم دائرته تسللّوا إلي داخل القصر مع مواليهم ومن أطاعهم من قبائلهم بخفاء وتدريج: (وأقبل أشراف النّاس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين..)، [7] حتي بلغ عددهم علي مافي رواية الدينوري: (وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا علي سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشّاب، ويمنعونهم من الدنّو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّي أمسوا)، [8] ثمّ ازداد عددهم حتّي عبّر عنه كثير بن شهاب ب‍ (الكثير) حين قال لابن زياد: (أصلح اللّه الامير، معك في القصر ناس كثير من أشراف النّاس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم!). [9] .

إذن فإنّ قوّة ابن زياد الحربية تزايدت حتّي صار بمقدورها مقاومة الثوّار ومنعهم من الدنوّ من القصر وتأخير اقتحامه حتّي حلول المساء.

هذا فضلاً عن أنّ (من المعلوم أنّ إخضاع القصر بمن فيه لايتمّ خلال ساعة من الحصار، كما أنّ وقت النهار يكاد ينتهي، والهجوم علي القصر الضخم البناء الذي أوصد ابن زياد أبوابه الكبيرة بشكل محكم لايسفر عن نتيجة نافعة، إنّه كالهجوم علي الصخر كان القصر مشيّداً بمتانة بالغة، تحكي ذلك أنقاضه الموجودة لحدّ الان، رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً علي تشييده، ويكفي أن نتصوّر كون جدار القصر من القوة والسعة بحيث تتمكن الشاحنات من السير فوقه فلابُدَّ إذن والحالة هذه من المحاصرة المستمرة التي قد تطول أيّاماً


حتّي يستسلم من فيه مثلاً، أو يسلّموا هانيء علي أقلّ تقدير.). [10] .

6) لايتردد المتأمّل في المتون التاريخية التي تتحدّث عن نشوب القتال بين الطرفين في القطع بأنّ الثوّار بقيادة مسلم عليه السلام كانوا قد نفّذوا خطّتهم لاقتحام القصر، وأنّهم قاتلوا قتالاً شديداً لتحقيق النصر، كما أنّ قوّات ابن زياد قد دافعت عن القصر دفاعاً مستميتاً حتّي المساء، ومن هذه المتون التي تشير إلي ذلك قول ابن أعثم الكوفي: (وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالاً شديداً..)، [11] وقول ابن طاووس (ره): (وأقتتل أصحابه وأصحاب مسلم)، [12] وقول ابن نما (ره): (واقتتلوا قتالاً شديداً إلي أن جاء الليل.). [13] .


پاورقي

[1] تاريخ الطبري، 4:275.

[2] مثير الاحزان: 34.

[3] تاريخ الطبري، 3:287.

[4] تأريخ الطبري، 3:287.

[5] مقتل الحسين عليه السلام، للمقرّم: 157 158؛ وفي رواية للطبري (أنّ المختار بن أبي عبيد، وعبداللّه بن الحارث بن نوفل، کانا قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبداللّه براية حمراء وعليه ثياب حمر! وجاء المختار برايته فرکزها علي باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجت لامنع عمراً!)، (تاريخ الطبري، 3:294).

[6] تأريخ الطبري، 3:287.

[7] تأريخ الطبري، 3:287.

[8] الاخبار الطوال: 238.

[9] تأريخ الطبري، 3:287.

[10] مبعوث الحسين 7: 181.

[11] الفتوح، 5:86.

[12] اللهوف: 22.

[13] مثير الاحزان: 34.