بازگشت

المبادرة التي كان ينبغي ان تتحقق


في حسابات التحرّك نحو الاهداف المنشودة هناك مبادرات ضرورية ينبغي القيام بها والسبق إليها لضمان نجاح الحركة السياسية الاجتماعية التغييرية في الوصول الي أهدافها، بل ولضمان صدق المنتمين إلي هذه الحركة فيما بايعوا قائدهم وعاهدوه عليه، بل ولاختبار قدرتهم بالفعل علي تنفيذ الاوامر الملقاة من قبل القيادة إليهم، وصبرهم الميداني علي تحمّل تبعات تلك الاوامر المفترضة الاطاعة.

وإدراك ضرورة القيام بمثل هذه المبادرات ليس من مختصات العقول المتفوّقة في الوعي والذكاء، بل إنّ إدراك هذه الضرورة في متناول العقل العادي، هذا عمرو بن لوذان يخاطب الامام الحسين عليه السلام قائلاً: (وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال، ووطأوا لك الاشياء، فقدمت عليهم، كان ذلك راءياً،


فاءمّا علي هذه الحال التي تذكر فإنّي لاأري لك أن تفعل!). [1] .

وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للامام عليه السلام أيضاً: (إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراوه، ومعهم بيوت الاموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولاآمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره! ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه!). [2] .

ويقول له ابن عبّاس (رض): (فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم). [3] .

والامام عليه السلام لايُخطّيء هذا الادراك، بل يقرّرعليه السلام أنّ هذا الادراك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: (يا ابن عمّ، إني واللّه لاعلم أنك ناصح مشفق!)، [4] ويقول للمخزومي: (فقد واللّه علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!)، [5] ويقول لعمرو بن لوذان: (يا عبداللّه، ليس يخفي عليَّ الرأي!). [6] .

إذن فقد كان ينبغي للقوّة المعارضة للحكم الاموي في الكوفة أنْ تُعدَّ العدّة وتستبق الايام للقيام، وتبادر إلي السيطرة علي الاوضاع في الكوفة قبل مجيء الامام عليه السلام إليها، (وذلك مثلاً باعتقال الوالي الامويّ وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلاّ بإذن خاص، وذلك


لحجب أخبار مايجري فيها عن مسامع السلطة الاموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الانتفاضة في الكوفة قبل وصول الامام عليه السلام، حتي يصل الامام عليه السلام فيمسك بزمام الامور ويقود الثورة إلي حيث كامل الاهداف.

وليس في رسائل الامام عليه السلام إلي أهل الكوفة ولافي وصاياه إلي مسلم بن عقيل عليه السلام مايمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرّ الامام عليه السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهم عليه السلام إلي القيام مع مسلم عليه السلام، حيث قال عليه السلام في رسالته الاولي إليهم علي رواية ابن أعثم: (فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!).

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) والتي لم تصل إليهم لانّ ابن زياد كان قد قبض علي الرسول دعاهم الامام عليه السلام إلي السرعة والعزم علي الامر والجدّ فيه، حيث قال عليه السلام فيها: (فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!)، إذ الكمش في الامر هو العزم عليه والسرعة فيه!). [7] .

لكنّ هذه المبادرة لم تصدر عن الشيعة في الكوفة، مع أنّ فيهم من ذوي الخبرات العريقة في المجالات الاجتماعية والسياسية والعسكرية عدداً يُعتدُّ به، ومن البعيد جداً أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة لم يكن قد طراء علي أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ أهمّ الاسباب التي أدّت إلي عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلي السيطرة علي الاوضاع فيها قبل مجيء الامام عليه السلام إليها هي:


1) لم يكن للشيعة في الكوفة وهم من قبائل شتّي خصوصاً في فترة ما بعد الامام الحسن المجتبي عليه السلام عميدٌ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعددّون من الشيعة في الكوفة، لكلّ منهم تاثيره في قبيلته، لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الاحداث الكبري المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية بتركيز خاص علي الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والارهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الانفاس، والاضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الامر الذي زرع بين الناس علي مدي تلك السنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الاطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلاً علي كلّ ما أ شرنا إليه من التعددّية والتشتّت نفس المنحي الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الامام الحسين عليه السلام في مكّة، فلولاالتعددية في مراكز الوجاهة والزعامة لما تعدّدت الرسائل والرسل منهم إلي الامام عليه السلام.

فلو كان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفي الامام عليه السلام منهم رسالة واحدة تأ تي من زعيمهم، لاإثنا عشر ألف رسالة! ولما احتاج الامام عليه السلام إلي أن يسأل آخر الرسل: (خبّراني من اجتمع علي هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟). [8] .


كما يكفي دليلاً علي ضعف الثقة والاطمئنان، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) بين يدي مسلم بن عقيل عليه السلام: (أمّا بعدُ، فإنّي لاأُخبرك عن الناس، ولاأعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ أحدّثك عمّا أنا موطنُّ نفسي عليه، واللّه لاجيبنّكم إذا دعوتم ولاقاتلنّ معكم عدوّكم ولاضربن بسيفي دونكم حتّي ألقي اللّه، لاأريد بذلك إلاّ ماعند اللّه). [9] .

2) هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة إنقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الامويّ أو يوالي أهل البيت (ع)، فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الامويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الامويّ في بعض هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لاهل البيت (ع) خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثوّروا قبائلهم ضد الحكم الاموي علانية، وينهضوا بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لانّ أفراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن يخدمون في أجهزة الامويين ويوالونهم سيسارعون إلي إخبار السلطة الاموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيُقضي علي ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضي علي الزعيم الشيعيّ وعلي أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلاً، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هانيء بن عروة (رض) تجد إزاءه أيضاً زعيماً آخر أو أكثر مثل عمرو بن الحجاج الزبيدي، [10] يتفاني في خدمة


الامويين إلي درجة أنْ يؤثر مصلحة الامويين حتي علي مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب [11] في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لاطلاق سراح هاني (رض) فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والازد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً علي أيّ زعيم كوفي شيعيّ أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الامويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الامويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها علي مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالاستعانة بالسلطة الاموية نفسها.

3) يُضاف إلي السببين الاوّل والثاني وهما أهمّ الاسباب سبب ثالث وهو تفشّي مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة.

ومن أوضح الامثلة علي ذلك ما عبّر به محمد بن بشر الهمداني الذي روي تفاصيل اجتماع الشيعة الاوّل مع مسلم بن عقيل عليه السلام في دار المختار (ره)، وروي مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض)، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الامام عليه السلام حينما


سأله الحجّاج بن عليّ قائلاً: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلاً: إنّي كُنت لاحبّ أن يُعزّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لاِحبَّ أنّ أنْ أُقتل، وكرهتُ أن أكذب! [12] .

ومن الامثلة الواضحة علي ذلك أيضاً: قول عبيداللّه بن الحرّ الجعفي مخاطباً الامام عليه السلام: (واللّه إنّي لاعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الاخرة، ولكن ما عسي أن أُغني عنك ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني علي هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!). [13] .

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة انتشار هذا المرض، وتفطّنوا لاثره السيء علي كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية الف حساب، نلاحظ ذلك مثلاً في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الاوّل: (فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلاتغرّوا الرجل من نفسه!). [14] .

وبعدُ، فلعلّ هذه الاسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكّل إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلي السيطرة علي الاوضاع فيها قبل مجيء الامام عليه السلام.). [15] .


پاورقي

[1] الارشاد: 205؛ والکامل في التاريخ، 2:549.

[2] تاريخ الطبري، 3:294.

[3] تاريخ الطبري، 3:295.

[4] نفس المصدر.

[5] تاريخ الطبري، 3:294.

[6] الکامل في التأريخ، 2:549.

[7] راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 350-351.

[8] اللهوف: 15.

[9] تاريخ الطبري، 3:279.

[10] ومثل کثير بن شهاب بن الحصين الحارثي (المذحجي).

[11] مرَّ بنا فيما مضي من البحث أنّ جميع الدلائل والمؤشرات التأريخية ترفع الريب وتؤکد علي أنّ عمرو بن الحجّاج کان قد تعمّد الخيانة والغدر بهاني (رض) وبقبيلة مذحج نفسها، وأصرّ علي الانضواء تحت راية بني أميّة وشارک مشارکة فعّالة في جريمة قتل الامام الحسين عليه السلام وأنصاره وسبي عيالاته.

[12] راجع: تاريخ الطبري، 3:279.

[13] الاخبار الطوال: 251.

[14] راجع: تاريخ الطبري، 3:279.

[15] الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 352-355.