بازگشت

اشارة


قد يأسف المتتبّع باديء ذي بدء للسهولة التي تمّت بها عملية اختراق حركة مسلم بن عقيل عليه السلام من داخلها علي يد الجاسوس معقل مولي عبيداللّه بن زياد،


من طريق مسلم بن عوسجة الاسديّ (رض)، وهو علم من أعلام الشيعة في الكوفة، وأحد شهداء الطفّ، وهو الشريف السَرِيُّ في قومه، [1] والفارس الشجاع الذي له ذكر في المغازي والفتوح الاسلامية، وقد شهد له الاعداء بشجاعته وخبرته وبصيرته وإقدامه. [2] .

وفي ظنّ المتتبع أنّ علي مسلم بن عوسجة (رض) أن يحذر أكثر ويحتاط حتّي يطمئنّ تماماً إلي حقيقة هويّة معقل الجاسوس قبل أن يدلّه علي مكان مسلم بن عقيل عليه السلام أو يستأذن له في الدخول عليه! ليخترق بذلك الحركة من داخلها!

لكنّ ما وقع فعلاً هو أنّ ابن عوسجة (رض) لم يكن قد قصّر في حذره وحيطته، غير أنّ معقلاً كان فعلاً (ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتُدب إليه) [3] لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها.

أمّا سهولة تعرّفه علي ابن عوسجة (رض) فلاتحتاج الي كثير جهد ومشقّة إذا كان (رض) وجهاً شيعياً معروفاً في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه حين قال له: (سمعت نفراً يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني علي صاحبك فأبايعه، وإنْ شئتَ أخذتَ البيعة


له قبل لقائه!)، [4] ولقد عبّر له ابن عوسجة (رض) عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه بقوله: (.. ولقد سائتني معرفتك إيّاي بهذا الامر من قبل أن ينمي مخافة هذا الطاغية وسطوته..). [5] .

ثمّ إن ابن عوسجة (رض) أخّر معقلاً أيّاماً قبل أن يطلب الاذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الايّام (إختلفْ إليَّ أيّاماً في منزلي فإني طالب لك الاذن علي صاحبك..)، [6] ثمّ لم يدخله علي مسلم بن عقيل عليه السلام حت ي طلب له الاذن فأُذن له، ولاشك أنّ أخذ الاُذن يتمّ بعد شرح ظاهر الحال الذي تظاهر به معقل، ومن الدلائل علي مهارة ابن زياد ومعقل في فنّ التجسس أنّ ابن زياد أوصي معقلاً أن يتظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص بالذات، [7] ذلك حتّي لايكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة، كما أنّ أهل حمص آنذاك علي ما يبدو قد عُرف عنهم حبّهم لاهل البيت (ع)، أو عُرف أنّ فيهم من يحبّ أهل البيت عليه السلام، فيكون ذلك مدعاة لاطمئنان من يتخذه معقل منفذاً لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها، كما أنّ معقلاً قد ادّعي أمام ابن عوسجة (رض) أنه موليً لذي الكلاع الحميري هناك في الشام، والمعروف عن جلّ الموالي حبّهم لاهل البيت (ع)!

الخلاصة أنّ معقلاً كان قد أحكم خطّته واتقن تمثيل دوره المرسوم وبرع في


ذلك، لكنّ في حضوره يومياً عند مسلم بن عقيل عليه السلام، ودخوله عليه في أوّل الناس، وخروجه عنه آخرهم، فيكون نهاره كلّه عنده، ما يدعو إلي الريبة والشك فيه، فلماذا لم يرتب ولم يشكّ فيه مسلم عليه السلام وأصحابه!؟ إنّ في هذا ما يدعو إلي الاستغراب والحيرة فعلاً!

لكننا حيث لانملك معرفة تفاصيل جريان حركة أحداث تلك الايّام بشكلٍ كافٍ، وحيث لم يأتنا التأريخ إلاّ بنزرٍ قليل منها لاينفعنا إلاّ في رسم صورة عامة عن مجري حركة تلك الاحداث، وحيث نعلم أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام ومسلم بن عوسجة (رض) وأصحابهما هم من أهل الخبرة الاجتماعية والسياسية والعسكرية، فلايسعنا أن نتعرض باللوم عليهم أو أن نتهمهم بالسذاجة! بل علينا أن نتأدّب بين يدي تلك الشخصيات الاسلامية الفذّة، وأن ننزّه ساحاتهم المقدّسة عن كلّ مالايليق بها، وأن نقف عند حدود معرفتنا التأريخية القاصرة لانتعدّاها إلي استنتاجات واتهامات غير صائبة ولالائقة، خصوصاً إذا تذكّرنا حقيقة أنَّ عمليات الاختراق من الداخل من خلال دسّ الجواسيس المتظاهرين بغير حقيقتهم كانت أمراً مألوفاً منذ قديم الايام ولم تزل حتّي يومنا الحاضر وتبقي إلي ما شاء اللّه، وشذّ وندر أن يجد الانسان حركة سياسية تغييرية تعمل لقلب الاوضاع سلمت من الاختراق من داخلها من قبل أعدائها، بل قد لايجد الانسان حركة سياسية تغييرية غير مخترقة، وهذ لايعني أنّ قيادتها ساذجة ولاتتمتع بالحكمة!


پاورقي

[1] راجع: إبصار العين: 107.

[2] لمّا قُتل مسلم بن عوسجة (رض) في کربلاء صاحت جارية له: (واسيّداه يا ابن عوسجتاه! فتباشر أصحاب عمر بذلک، فقال لهم شبث بن ربعي: ثکلتکم أمّهاتکم! إنمّا تقتلون أنفسکم بأيديکم، وتذلّون أنفسکم لغيرکم، أتفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن عوسجة!؟ أما والذي أسلمتُ له، لرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين کريم، لقد رأيته يوم سَلَق آذربيجان قتل ستّة من المشرکين قبل أن تتامّ خيول المسلمين، أفيقُتل منکم مثله وتفرحون!؟) (تاريخ الطبري، 3: 325؛ والکامل في التاريخ،3:290).

[3] حياة الامام الحسين بن عليّ، 2:329.

[4] إبصار العين: 108-109؛ وانظر: الارشاد: 189؛ وتأريخ الطبري، 3:282.

[5] إبصار العين: 108-109؛ وانظر: الارشاد: 189؛ وتأريخ الطبري، 3:282.

[6] راجع: الارشاد: 189.

[7] قال ابن نما(ره): (ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد حيث خفي عليه حديث مسلم دعا مولي له يقال له معقل، فأعطاه أربعة آلاف درهم.. وأمره بحسن التوصّل إلي من يتولّي البيعة وقال: أعلمه أنّک من أهل حمص جئت لهذا الامر، فلم يزل يتلطّف حتي وصل الي مسلم بن عوسجة الاسدي..) (مثير الاحزان: 32).