بازگشت

اشارة


بقي أن نشير هنا إلي مسألة مهمّة أخري في هذا الصدد، وهي أنّ الطبري قد


روي نصّاً صريحاً مفاده أنّ أهم وقائع حركة أحداث الكوفة أيّام تواجد مسلم بن عقيل عليه السلام فيها: من تفكير السلطة الاموية المركزية في الشام بعزل النعمان بن بشير عن ولاية الكوفة، وتعيين عبيد اللّه بن زياد بدلاً منه، ثمّ ما جري بعد ذلك إلي يوم مقتل مسلم عليه السلام، كلّ تلك الاحداث كانت قد وقعت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة، أي وهو في الطريق إلي العراق، يقول الطبري في قصّة استشارة يزيد سرجون النصراني فيمن يستعمل علي الكوفة بدلاً من النعمان: (دعا يزيد بن معاوية سرجون مولي معاوية، فقال: ما رأيك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيّء وأقرأه كتبهم فما تري؟ من أستعمل علي الكوفة؟...). [1] .

وهذا النصّ بعبارة (فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة) شاذٌ إذ لم ترد هذه العبارة في أيّ مصدرٍ تأريخيّ آخر تعرّض ‍ لقصة هذه الاستشارة بين يزيد وسرجون، [2] هذا فضلاً عن كون رواية الطبري هذه مرسلة عن عوانة بن الحكم الذي كان عثمانيَّ الهوي، وكان يضع الاخبار لبني أميّة كما يقرّر ذلك العسقلانيّ في لسان الميزان، [3] وفضلاً عن أنّ الطبري نفسه قد روي قصّة هذه الاستشارة أيضاً بسند عن عمّار الدهني عن أبي جعفر، وليس فيها هذه العبارة أو ما


بمفادها، [4] بل روي ما يعارض هذه العبارة كمثل قوله (كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين..) [5] أي في نفس اليوم الذي خرج فيه الامام عليه السلام من مكّة، ومعني هذا أنّ جُلّ وقايع أيّام مسلم عليه السلام في الكوفة قد وقعت والامام عليه السلام في مكّة، ومنها واقعة عزل النعمان عن الكوفة وتنصيب ابن زياد علي العراق.

إذن لايمكن التعويل علي عبارة رواية الطبري الشاذة، المعارضة للمشهور الثابت وهو: أنّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد مكانه كان قد تمّ والامام الحسين عليه السلام لم يزل في مكّة لم يرحل عنها.

وهناك أيضاً نصُّ لابن عبد البرّ في كتابه العقد الفريد ربّما أوهم البعضَ كذلك أنَّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد بدلاً منه كان قد حصل والامام عليه السلام في الطريق إلي العراق، يقول ابن عبدالبرّ: (فكتب يزيد إلي عبيد اللّه بن زياد وهو واليه علي العراق أنه قد بلغني أنّ حسيناً سار الي الكوفة، وقد ابتلي به زمانك بين الازمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً.). [6] .

ومنشاء هذا الوهم من تصوّر أنّ هذا الكتاب هو الكتاب الاوّل الذي كتبه يزيد إلي ابن زياد، أي كتابه الذي أمره فيه بالتوجّه سريعاً من البصرة إلي الكوفة، والامر ليس كذلك، إذ إنّ هذا الاخير هو كتاب آخر غير الاوّل، بدليل عبارة (وهو واليه علي العراق)، أي كان يومذاك والياً علي الكوفة والبصرة معاً قبل هذا الكتاب، لانّ


الولاية علي العراق لاتُطلق علي الولاية علي البصرة فقط، وقد روي اليعقوبي أيضاً نفس نصّ نفس هذا الكتاب بعبارة واضحة كاشفة بصورة أفضل عن أنّ هذا الكتاب غير الكتاب الاوّل، يقول اليعقوبي: (وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّي عبيداللّه بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلي الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الايّام، فإنْ قتلته وإلاّ رجعت إلي نسبك وإلي أبيك عُبيد، فاحذر أن يفوتك!)، [7] وواضح من هذا النصّ أنّ ابن زياد كان قد صار والياً علي الكوفة والبصرة معاً قبل خروج الامام عليه السلام من مكّة، وأنّ يزيد كتب إلي ابن زياد هذا الكتاب بعدما ولاّه الكوفة أيضاً، لاأنّ هذا الكتاب كان كتاب التولية، فتأمّل!.



پاورقي

[1] تأريخ الطبري، 3: 280.

[2] لقد روي الشيخ المفيد(ره) نفس هذه الرواية، وليس فيها هذه العبارة، بل فيها: (ما رأيک؟ إنّ حسيناً أنفذ إلي الکوفة مسلم بن عقيل يبايع له..)، (راجع: الارشاد: 206).

[3] (عوانة بن الحکم بن عوانة بن عيّاض الاخباري المشهور الکوفي، يقال کان أبوه عبداً خيّاطاً وأمّه أمةً، وهو کثير الرواية عن التابعين، قلّ أن روي حديثاً مسنداً، وقد روي عن عبداللّه بن المعتز عن الحسين بن عليل العنزي، عن عوانة بن الحکم أنّه کان عثمانياً، فکان يضع الاخبار لبني أميّة، مات سنة 158 ه‍) (لسان الميزان، 4: 449 / دار الکتب العلمية، بيروت).

[4] راجع: تأريخ الطبري: 3:275.

[5] تأريخ الطبري، 3:293.

[6] العقد الفريد، 5: 130، وانظر: مثير الاحزان، 40-41؛ وأنساب الاشراف، 3:371.

[7] تأريخ اليعقوبي، 2:155.