بازگشت

هل كانت هذه المحاولة اجراء صوريا؟


ومن الغريب هنا أن يتبنّي سماحة الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي ما ذهب إليه الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه (التاريخ السياسي للدولة العربية)، من أنّ المواجهة بين جند الاشدق وبين الركب الحسينيّ كانت مواجهة صورية أُريد منها إبعاد الامام عن مكّة! والتحجير عليه في الصحراء حتي يسهل القضاء عليه!

يقول الشيخ القرشي: (ولم يبعد الامام كثيراً عن مكّة حتي لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيي بن سعيد، فقد بعثها والي مكّة عمرو بن سعيد لصدّ الامام عن السفر الي العراق، وجرت بينهما مناوشات، وقد عجزت الشرطة عن المقاومة، وكان ذلك الاجراء فيما نحسب صورياً!، فقد خرج الامام في وضح النهار من دون أية مقاومة تذكر...لقد كان الغرض من إرسال هذه المفرزة العسكرية إبعاد الامام عن مكّة، والتحجيرعليه في الصحراء حتي يسهل القضاء عليه بسهولة، وأكّد ذلك الدكتور عبدالمنعم ماجد بقوله: (ويبدو لنا أنّ عامل يزيد علي الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الي الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله، بل لعلّه قدّر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيداً عن أنصاره، بحيث أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتي يخرج.).). [1] .

ولعلَّ مردّ الاشتباه في هذا النظر يعود إلي الامور التالية:


1) أنّ الدكتور ماجد ومعه الشيخ القرشي قد تصوّرا أنّ الاشدق كان يملك قوّة عسكرية كبيرة في مكّة، ولكنّه لم يرسل منها لمنع الامام عليه السلام من الخروج إلاّ (مفرزة!) من الشرطة، وقد عجزت عن مقاومة الركب الحسينيّ وهو كبير نسبياً آنذاك، الامر الذي يكشف عن أنّ محاولة الصدّ والمنع لم تكن جادة! فتصوّرا أنّ الغرض الحقيقي من وراء هذه المحاولة هو إبعاد الامام عليه السلام عن مكّة والتحجير عليه في الصحراء ليُقضي عليه بسهولة!.

والحقيقة كما قلنا من قبل أنّ كُلاًّ من مكّة والمدينة المنوّرة مدينتان دينيّتان كان الوالي لايحتاج في كلّ منهما لاجراء أمور ولايته إلاّ إلي قوّة محدودة من الحرس والشرطة تكفي لتنفيذ الامور الادارية والقضائية وحفظ الامن الداخلي، فهما ليستا من المدن التي تشكلت للاغراض الحربية أساساً كالكوفة مثلاً، حيث تغصُّ بالجند الكثيف وبالمسالح، ولذا نري أنّ الانتفاضات التي شهدتها كلُّ من مكّة والمدينة كان يُقضي عليها بجيوش تأتيها من خارجها كما في وقعة الحرّة في المدينة، ووقعة القضاء علي عبداللّه بن الزبير في مكّة.

2) كان الامام عليه السلام ما لم يبايع يزيد بن معاوية يُقتل لامحالة، ولو كان في جحر هامّة من هوامّ الارض، لكنّ قتله في ظروف زمانية ومكانية وملابسات غامضة تختارها السلطة الاموية ليس كقتله في مواجهة عسكرية علنية يختار ظروفها الزمانية والمكانية الامام عليه السلام نفسه، ذلك لانَّ السلطة الاموية في الحالة الاولي تستطيع التعتيم علي قتل الامام عليه السلام والتغطية عليه بألف ادّعاء وادّعاء، أمّا في الحالة الثانية فسيتحقق للامام عليه السلام استثمار مصرعه لتحقيق جميع أهدافه المنشودة من وراء قيامه المقدّس. [2] .


من هنا كان الامويون يحرصون أشدّ الحرص علي قتل الامام عليه السلام في مكّة لاخارجاً عنها، بواسطة الاغتيال في ظروف وملابسات غامضة، وهذا هو السرُّ في قول عمرو بن سعيد الاشدق لرجاله لمّا بلغه خروج الحسين عليه السلام من مكّة: (اركبوا كلَّ بعير بين السماء والارض فاطلبوه!)، وفي محاولته إغراء الامام عليه السلام ببذل (الامان الامويّ!) [3] والصلة والبرّ وحسن الجوار! لارجاع الامام عليه السلام إلي مكّة، ثمّ في المحاولة القمعيّة التي لم تعدُ الاضطراب بالسياط.

فهذه المحاولة القمعية كانت محاولة جادّة لارجاع الامام عليه السلام إلي مكّة بالفعل، لاكما ذهب إليه الشيخ القرشي والدكتور ماجد أنها كانت إجراءً صورياً أُريد منها إبعاد الامام عليه السلام عن مكّة!

3) قال الشيخ القرشي: (وكان ذلك الاجراء صورياً، فقد خرج الامام في وضح النهار من دون أيّة مقاومة تُذكر..)، ولانعلم مصدراً تأريخياً روي أنّ الامام عليه السلام خرج عن مكّة في وضح النهار، [4] فجلُّ المصادر التأريخية المعتبرة التي


تعرّضت لساعة خروجه ذكرت أنّ خروجه عليه السلام عن مكّة كان في السحر أو في أوائل الصباح، [5] لافي وضح النهار.

ولو فرضنا أنّ الامام عليه السلام كان قد خرج فعلاً عن مكّة في وضح النهار، لما تعرّضت له السلطة الاموية داخل مكّة لمنعه من الخروج، لالانّ السلطة الاموية كانت راغبة بخروج الامام عليه السلام، بل لِما في المواجهة معه عليه السلام داخل مكّة من خطورة انتفاضة جموع الحجيج الكثيرة جدّاً ضدّها وقد كانت مكّة تغصُّ بهم آنذاك، وهو أمرٌ كانت تتحاشاه السلطة الاموية وتخشي عواقبه.

4) في قول الدكتور عبدالمنعم ماجد فضلاً عن الاشتباه الاصل هناك اشتباهان آخران وقد وافقه الشيخ القرشيّ علي ذلك! وهذان الاشتباهان هما:

أ- قوله: (ويبدو لنا أنَّ عامل يزيد علي الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الي الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله!).

وهذه دعوي غريبة! لم نعثر علي متنٍ تأريخي معتبر حسب تتبّعنا يؤيّدها أو يمكن أن تُستفاد منه استنتاجاً، ولانعلم من أين جاء بها هذا الكاتب، بل هناك من الدلائل التأريخية ما يشير إلي عكس هذه الدعوي، كما في قول الامام السجّاد عليّ بن الحسين (ع): (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا!)، [6] وقول أبي جعفر الاسكافي في هذا الصدد: (أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون عليّاً قاطبة، وكانت قريش كلّها علي خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه!). [7] .

ولعلّ منشاء هذا الاشتباه عائد إلي الخلط بين أهل مكّة وبين الوافدين إليها من


المعتمرين والحجّاج الذين كانوا قد احتفوا بالامام عليه السلام في مكّة حفاوة عظيمة وكانوا يأتونه ويسمعون كلامه ويأخذون عنه، لكنّ هذا أيضاً لايُستفاد منه أنّ للامام عليه السلام شيعة كثيرين يعملون داخل الجهاز الاموي الحاكم في مكّة.

ب قوله: (أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتّي يخرج!).

والاشتباه في هذا القول هو في عدم التفريق بين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لاخراج الامام عليه السلام، وبين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لاغتيال الامام عليه السلام أو لالقاء القبض عليه في مكّة فاضطرّ الامام عليه السلام الي الخروج، والتأريخ يؤكّد أنّ يزيد كان قد أراد اختطاف الامام عليه السلام أو اغتياله في مكّة فاضطرَّ الامام عليه السلام إلي الخروج، [8] لاكما توهّم الدكتور عبدالمنعم ماجد، ثمَّ إنّ بني هاشم في تقريعهم يزيد علي ما فعله بالامام عليه السلام أكّدوا علي أنّ يزيد دسَّ الرجال لاغتيال الامام عليه السلام لالاخراجه، هذا ابن عباس (رض) مثلاً يقول في رسالة منه إلي يزيد: (وما أنسَ من الاشياء فلستُ بناسٍ إطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول اللّه إلي حرم اللّه، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فاشخصته من حرم اللّه الي الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّواء بها مقاماً واستحلَّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول اللّه، فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليُقاتل في الحرم...). [9] .



پاورقي

[1] حياة الامام الحسين بن عليّ، 3 :54-55.

[2] قد يُلاحظ أنّنا کررنا الحديث في هذه الحقيقة وأکّدنا عليها أکثر من مرّة، ولکنّ ذلک کان منّا عن عمدٍ وقصد! لاننا رأينا أنّ هذه الحقيقة قد خفيت علي کثير من الباحثين، الامر الذي حرف استنتاجاتهم عن جادّة الصواب.

[3] إنّ الامان عند حکّام بني أميّة وولاتهم خدعة من خدع مصائدهم، إذ طالما خان معاوية عهد الامان الذي بذله لمعارضيه کمثل حُجر بن عديّ(رض)، وقد خان ابن زياد الامان الذي بذله ممثله محمد بن الاشعث لمسلم عليه السلام، وقد ذاق الاشدق نفسه في نهاية مطاف حياته مرارة الغدر الاموي نفسه بعدما بذل له عبدالملک بن مروان (الامان الاموي!) حيث قتله بيده ذبحاً! (راجع: قاموس الرجال، 8:103).

[4] ويبدو أنه حتي المصدر الذي استفاد منه الشيخ القرشي هذا المعني، وهو (جواهر المطالب في مناقب الامام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لشمس الدين أبي البرکات (وهو مخطوط، ومن مصوّرات مکتبة أميرالمؤمنين عليه السلام في النجف الاشرف) لم يذکر أنّ الامام عليه السلام خرج في وضح النهار، بل ذکر أنه عليه السلام ودّع البيت الحرام وداعه الاخير وصلّي فيه فريضة الظهر ثمّ خرج مودّعاً له (حياة الامام الحسين بن عليّ، 3:53)، وهذا الخروج خروج عن البيت بعد وداعه، ولايعني خروجه عليه السلام عن مکّة نفسها، فتأمّل!.

[5] راجع مثلاً: اللهوف: 27؛ ومثير الاحزان: 41؛ وکشف الغمّة، 2:241.

[6] الغارات، 2:573؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 4:104.

[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 4:104.

[8] راجع: مثلاً اللهوف: 27؛ وتأريخ اليعقوبي، 2 :248-249؛ وتذکرة الخواص: 248 والخصائص الحسينيّة: 32/طبعة تبريز؛ ومقتل الحسين عليه السلام للمقرّم: 165 والمنتخب للطريحي: 243؛ والارشاد: 201.

[9] تأريخ اليعقوبي، 2: 248-250.