بازگشت

تأمل و ملاحظات


مضت في الجزء الثاني من هذه الدراسة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلي المدينة)، ترجمة موسّعة لشخصية عبداللّه بن جعفر الطيّار (رض)، ودراسة مفصّلة لموقفه من النهضة الحسينيّة، وقد استوفت تلك الدراسة الاجابة عن جميع الاسئلة التي يمكن أن تُثار حول هذه الشخصية الهاشميّة.

ومع هذا، فإنّ دخول جزء من تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) في إطار متابعتنا هذه يلزمنا أن نذكّر هنا علي سبيل الاختصار ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتحرّك عبداللّه بن جعفر (رض):

1) كان عبداللّه بن جعفر (رض) بعد أن علم بعزم الامام عليه السلام علي التوجّه إلي العراق قد كتب رسالة إليه يناشده فيها عدم التوجّه الي العراق، وقد روي ابن أعثم الكوفي [1] أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) قد كتب هذه الرسالة من المدينة إلي الامام عليه السلام في مكّة، أمّا الطبري فإنه قد روي أنه بعث بها الي الامام عليه السلام بعد خروجه عن مكّة، مع ولديه محمد وعون، ونصّ الرسالة علي ما في رواية الطبري: (أما بعدُ، فإنّي أسالك باللّه لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكت اليوم طُفيء نور الارض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، [2] فلاتعجل بالسير


فإنّي في أثر الكتاب، والسلام). [3] .

ويُلاحظ أنّ متن هذه الرسالة كاشف عن أمور، منها:

أ- الادب الجمّ الذي يتمتع به عبداللّه بن جعفر (رض) في مخاطبة الامام عليه السلام، الكاشف عن اعتقاده بإمامة الامام عليه السلام، خصوصاً في قوله علي ما في رواية الطبري: إنْ هلكت اليومَ طُفيء نور الارض، فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين. أو علي ما في رواية الفتوح: فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفاء نور الارض، وأنت روح الهدي، وأميرالمؤمنين.

ومن هنا، فإنّ الرسالة التي بعث بها والي مكّة عمرو بن سعيد الاشدق إلي الامام عليه السلام بعد خروجه لايمكن أن تكون من إنشاء عبداللّه بن جعفر (رض) كما روي الطبري! ذلك لان هذه الرسالة حوت شيئاً إدّاً من مضامين الجسارة والجهل بمقام الامام عليه السلام، وسوء الادب في مخاطبته عليه السلام، كما في قوله: (أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك... وإنّي أُعيذك باللّه من الشقاق!)، وهذا مستبعد جدّاً صدوره من إنسان مؤمن بإمامة الامام الحسين عليه السلام، ويراه (نور الارض) و (أميرالمؤمنين) و (روح الهدي).

بل رسالة الاشدق من إنشائه هو، وذلك: أوّلاً لانها انعكاس تام لنظرة هذا الطاغية الامويّ المتجبّر، وحاكية عن لسان الاعلام الامويّ ومفرداته الضالة المضلّة، فالخروج علي النظام الظالم فيها من الموبقات! ومن الشقاق! وسعي في تفريق كلمة الامّة والجماعة! وما إلي ذلك من أسلحة إعلاميّة لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والاصلاح.

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي ذكر أنّ عمرو بن سعيد هو الذي كتب هذه الرسالة وليس عبداللّه بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها إلي


الامام عليه السلام كان يحيي بن سعيد وحده، أي لم يكن عبداللّه بن جعفر (رض) معه! [4] .

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روي نفس قصة هذه الرسالة كما رواها الطبري لكنّه لم يذكر أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) هو الذي كتبها، [5] بل قال: (فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً...)، [6] فتأمّل!

ب ويستفاد أيضاً من محتوي رسالة عبداللّه بن جعفر (رض) إلي الامام عليه السلام أنّه (يشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفيّة (رض) وغيرهم في النظرة الي قيام الامام عليه السلام من زاوية النصر أو الانكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الامام عليه السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الامام عليه السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك علي أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأي فيها جدّه (ص)، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرّك امتثالاً لامر رسول اللّه (ص).). [7] .

وجدير بالذكر هنا أنّ الامام عليه السلام كان قد كتب جواباً إلي عبداللّه بن جعفر (رض) قال فيه: (أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأتهُ وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول اللّه (ص) في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، واللّه يا ابن عمّي لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه ليعدينّ عليّ كما عدت اليهود علي السبت، والسلام.). [8] .


2) يظهر من أخبار تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) ومن رسالته [9] التي بعث بها الي الامام عليه السلام (أنه كان يعتقد أو يأمل من خلال الوساطة أن تتحقّق المتاركة بين السلطة الاموية وبين الامام عليه السلام إذا انثني عن القيام والخروج وإنْ لم يبايع!

ولذا فقد ردَّ الامام عليه السلام علي هذا الوهم بأنه ما لمْ يُبايعْ يُقتلْ لامحالة! ولانه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لامحالة هي: (لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجوني حتي يقتلوني!..)، وفي هذا ردُّ أيضاً علي تصوّر عبداللّه بن جعفر علي فرض صحة رواية الفتوح بأنّه يستطيع أخذ الامان من الامويين للامام عليه السلام ولماله وأولاده وأهله!). [10] .

إذن، يتضّح لنا ممّا مرَّ أنّ دور عبداللّه بن جعفر (رض) في المحاولة السلمية لم يكن انضواءً منه تحت الراية الامويّة، أو أنّه (رض) كان موالياً للسلطة الامويّة وممثلاً أو مندوباً عنها، بل كلُّ ما حصل هو أنّ سعيه لتحقيق المتاركة بين السلطة الاموية وبين الامام عليه السلام كان قد توافق مع رغبة السلطة الاموية في ثني الامام عليه السلام عن مواصلة التوجّه الي العراق، وإرجاعه مرّة أخري إلي مكّة المكرّمة، من خلال بذل الامان والبرّ والصلة وحسن الجوار، فكان سعي عبداللّه بن جعفر (رض) وسعي السلطة الاموية في هذا الاطار في طول واحد لاشيئاً واحداً.

ولذا نجد أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) لمّا رأي إصرار الامام عليه السلام علي مواصلة القيام والتوجّه الي العراق، أنهي سعيه لتحقيق المتاركة، وأظهر ولاءه التام للامام عليه السلام حين أمر ولديه محمّداً وعوناً بالالتحاق به عليه السلام، إذ كان هو معذوراً


لاصابته بالعمي علي ما في بعض الاثار. [11] .

ويحسنُ هنا في ختام بحثنا الموجز عن دور عبداللّه بن جعفر (رض) أن نذكر هذه الرواية التي رواها الشيخ المفيد (ره)، والكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الامام عليه السلام، تقول هذه الرواية: (ودخل بعض موالي عبداللّه بن جعفر بن أ بي طالب (ع) فنعي إليه إبنيه، فاسترجع، فقال أبوالسلاسل مولي عبداللّه: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!.

فحذفه عبداللّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء! أللحسين عليه السلام تقول هذا!؟ واللّه لو شهدته لاحببت أن لاأفارقه حتّي أُقتل معه! واللّه إنّه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل علي جلسائه فقال: الحمدُللّه، عزّ عليَّ مصرع الحسين، إنْ لاأكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.). [12] .


پاورقي

[1] الفتوح، 5:115.

[2] وفي نص الفتوح، فإنّک إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفاء نور الارض، وأنت روح الهدي، وأميرالمؤمنين.

[3] تاريخ الطبري، 3:297؛ والکامل في التاريخ، 2:548؛ والارشاد: 202.

[4] راجع: مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي، 1:312.

[5] وهکذا أيضاً في الکامل في التأريخ، 2:548؛ وفي البداية والنهاية، 8:169.

[6] راجع: الارشاد: 202.

[7] راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 270، الملاحظة رقم 2.

[8] الفتوح، 5 :115-116.

[9] لقد ورد في رواية الفتوح، 5 :115-116 أن ابن جعفر(رض) قال في آخر رسالته: (.. فلاتعجل بالمسير الي العراق، فإنّي آخذٌ لک الامان من يزيد وجميع بني أميّة، علي نفسک ومالک وولدک وأهل بيتک، والسلام.).

[10] الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 270، الملاحظة رقم 3.

[11] راجع: کتاب (زينب الکبري): 87.

[12] الارشاد: 232؛ والکامل في التاريخ، 2:576؛ والطبري، 3:342.