بازگشت

هل وصلت إلي الامام رسائل قبيل رحيله عن المدينة؟


مـن الطـبـيـعي أن تكون للامام الحسين (ع) في زمن معاوية مراسلات بينه وبين شيعته في العراق والحجاز وباقي مناطق العالم الاسلامي آنئذٍ.

لكـنّ سـؤالنـا التـحـقـيـقـي فـي هـذا المـجـال حـول مـا إذا كـانـت هـنـاك رسـائل قـد وصـلت إلي الامـام (ع) فـي غـضـون اليـومـيـن أو الثـلاثـة قـبيل سفره عن المدينة، أي منذ أن جاء نباء موت معاوية، وطلب منه أن يبايع يزيد، وإلي أن ارتحل (ع) عن المدينة المنوّرة.

هناك ثلاث روايات يوحي ظاهرها بحصول هذا الامر:

الاولي: وهـي الروايـة التـي مـرّت بـنـا ـ عـن ابـن عـسـاكـر ـ فـي قـصـّة اللقـاء الاول لعـبـدالله بـن مـطـيـع مـع الامـام (ع)، حـيث ورد فيها بعد أن أجاب الامام (ع) ابن مطيع أنّه يريد مكّة قول الراوي إنّ الامام (ع) (ذكر له أنّه كتب إليه شيعته بها).

والمـتـبـادر مـن ظـاهرها أنّ للامام الحسين (ع) شيعة في مكّة قد كتبوا إليه! وهذا ممكن إذا كانت هذه الرسـائل قـد كـتبت وأرسلت قبل يوم وصول نباء موت معاوية إلي المدينة بأيّام، فوصلت إليـه (ع) فـي غـضـون اليـومـيـن أو الثـلاثة أيّام قبيل سفره عن المدينة، لانّ المسافة بين مكّة والمـديـنـة فـي السـفـر العـاجـل تـقـتـضـي زمـانـيـّا ثـلاثـة أيـّام عـلي الاقـلّ. وأمـّا إذا كـانـت هذه الرسـائل قـد كـتـبـت وأُرسـلت إليـه (ع) بـعـد خـبـر مـوت مـعـاويـة، فـلاشـك أنـّهـا لاتـصـل إليـه فـي غـضـون مـا قـبـيـل سـفـره، بـلي، قـد تصل إليه


وهو في الطريق إلي مكّة وقد فصل بعيدا عن المدينة، هذا في أحسن الفروض.

لكـنّ المـتـأمـّل فـي بـقـيـّة الروايـة يـجـد ابـن مـطـيـع بـعـد ذلك مـبـاشـرة يقول للامام (ع): (أين فداك أبي وأمّي؟ متعنّا بنفس ولاتسر إليهم!).

ولاشـك أنّ ابـن مـطـيـع لم يـنـه الامـام (ع) عـن مـكـّة، بل نهاه عن الكوفة! ممّا يدلّ علي أنّ هذه الرسائل المذكورة كانت من الكوفة وليست من مكّة! وهنا يـظـهـر لنـا الخـلط فـي مـتـن هـذه الروايـة بـيـن لقـاء ابـن مـطـيـع الاوّل ولقـائه الثـانـي مـع الامام (ع)، حيث كان الامام (ع) في اللقاء الثاني قد حدّث ابن مطيع عن رسـائل أهـل الكـوفـة، ولم يـحـدّثـه عـنـهـا فـي اللقـاء الاوّل، لانـهـا لم تـصـل إليـه إلاّ فـي مـكـّة، ولانـه لم يـكـن قـد وصل إلي مكّة بعدُ.

الثـانـيـة: وهـي أوضـح فـي الخـلط بـين وقائع اللقائين من رواية ابن عساكر، وقد رواها صاحب العـقـد الفـريـد، وجـاء فـيها: (... ومرَّ حسين حتّي أتي علي عبداللّه بن مطيع وهو علي بئر له، فـنـزل عـليـه، فـقـال للحـسـيـن:يـا أبـاعـبداللّه، لاسقانا اللّه بعدك ماءً طيّبا، أين تريد؟ قـال: العـراق!. قـال: سـبـحـان اللّه! لِمَ؟ قـال: مـات مـعـاويـة، وجـاءنـي أكـثـر مـن حمل صحف. قال: لاتفعل أباعبداللّه، فواللّه ما حفظوا أباك، وكان خيرا منك، فكيف يحفظونك؟ وواللّه لئن قـتـلت لابـقـيـت حـرمـة بـعـدك إلاّ اسـتـحـلّت! فـخـرج حـسـيـن حـتـّي قـدم مـكـّة...). [1] .

وهـذه الروايـة مـغـايـرة للرّوايـات الكـثـيـرة التـي تـحـدّثـت عـن وقـائع اللقـاء الاوّل، لقـاء مـا بـعـد المـديـنـة، حـيث حكت هذه الروايات أنّ الامام (ع) لم يصرّح لابن مطيع فيه إلاّ أنّه يريد مكّة، ولم يحدّثه أنّه يريد العراق!


ثمّ كيف يُتصوّر أنّ حملامن الرسائل يـصـل إلي الامـام وهـو فـي المـديـنـة مـن أهـل الكـوفـة بـعد انتشار نباء موت معاوية!؟ والثابت تـأريـخـيـّا أنّ أهـل الكـوفـة عـلمـوا بـمـوت مـعـاويـة بـعـد وصول الامام (ع) إلي مكّة بفترة، ثمّ كتبوا إليه يدعونه إليهم.

فـالرّاوي لهذه الرواية ـ علي فرض صحّتها ـ يكون قد خلط بين مجريات اللقائين خلطا ظاهرا مـن حـيـث يـعـلم أو لايـعـلم! والمـقـطـوع بـه تـأريـخـيـّا أن رسـائل دعـوة أهـل الكـوفـة للامـام (ع) لم تـصـل إليـه فـي المـديـنـة، بل في مكّة.

الثالثة: وهي الرواية التي حكاها صاحب (أسرار الشهادة) عن بعض (الثقات الادباء الشعراء مـن تـلامـذتـي مـن العـرب) حـسـب قـوله، وأنّ هـذا الثقة قد ظفر بها في مجموعة كانت تنسب إلي (الفاضل الاديب المقري) فنقلها عنها، وهذه الرواية أنّه: (قد روي عبداللّه بن سنان الكوفي، عن أبيه، عن جدّه، أنّه قال: خرجت بكتاب من أهل الكوفة إلي الحسين (ع) وهو يومئذٍ بالمدينة، فـأتـيـتـه فـقـراءه وعـرف معناه، فقال: أنظرني إلي ثلاثة أيّام. فبقيت في المدينة، ثمّ تـبـعـتـه إلي أن صـار عـزمه بالتوجّه إلي العراق، فقلت في نفسي أمضي وأنظر إلي ملك الحـجـاز كـيـف يـركـب وكـيـف جـلالتـه وشأنه...)، [2] ثمّ يصف الراوي كيف أركب الهـاشـمـيـّون مـحـارمـهـم مـن عـيـالات الامـام الحـسـيـن (ع) عـلي محامل الابل، ثمّ كيف ركب بنوهاشم والامام (ع).

وهـذه الروايـة ـ عـلي ‍ فـرض صـحـّتـها (وهي ليست كذلك) [3] ـ هي الرواية الوحيدة التـي تـخـبـر عـن وصول رسالة من أهل الكوفة إلي الامام (ع) وهو في المدينة في أيّام ما بعد رفضه البيعة ليزيد بعد موت معاوية، أو قبل ذلك بيوم!

ولاشك أن هذه الرسالة تعتبر من رسائل أهـل الكـوفـة إلي الامـام (ع) فـي فـتـرة


مـا قـبـل عـلم أهـل الكـوفـة بـمـوت مـعـاويـة، لانّ نـبـاء مـوت مـعـاويـة ـ مـن قـرائن تـأريـخـيـّة عـديـدة ـ لم يصل إلي أهل الكوفة إلاّ بعد وصول الامام (ع) إلي مكّة المكرّمة، أو وهو في الطريق إليها.

من كلّ ما قدّمناه في هذه القضيّة نستنتج:

أنـّه لم تصل إلي الامام (ع) وهو في المدينة ـ في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلي حـيـن خـروجه عنها ـ أيّة رسالة من أهل الكوفة تُنبي عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الامام (ع) إليهم، ولامن مكّة أيضا، ولامن سواهما.


پاورقي

[1] العـقـد الفـريـد، 4: 352، دار إحـيـاء التـراث العـربي ـ لبنان / ط 1/ 1417 هـ.ق.

[2] أسرار الشهادة: 367.

[3] لانّ صـاحـب أسـرار الشـهـادة يـرويـهـا عـن مجهول، وهذا ينسبها إلي مجهول أيضا!!.