بازگشت

الليلة أو الليلتان الاخيرتان في المدينة


لنعد إلي مجري أحداث القصّة في المدينة المنوّرة بعد لقاء الامام الحسين (ع) بوالي المدينة الوليـد بـن عتبة، ذلك اللقاء الذي أعلن (ع) فيه رفضه للبيعة، كما أعلن فيه أنّه أحقّ الناس بالخلافة.


وقـد يـتـسـأل المـتـابـع قـائلا: كـم بقي الامام الحسين (ع) في المدينة المنوّرة بعد ذلك اللقاء الساخن المشحون بالتوتّر؟

ولايـقع المتابع في هذه المسألة علي جواب تأريخيّ واحد، لانّ المصادر التأريخيّة قد اختلفت فـي الاجـابـة عـن هـذا السـؤال، فـالسـيـّد بـن طـاووس (ر) فـي كـتـابـه اللهـوف، يقول: (قال رواة حديث الحسين (ع) مع الوليد بن عتبة ومروان: فلمّا كان الغداة توجّه الحسين (ع)إلي مـكـّة لثـلاث مـضين من شعبان سنة ستّين...). [1] وهذا يعني أنّ الامام (ع) لم يـبـق بـعـد ذلك اللقـاء إلاّ سـواد تـلك الليـلة نـفـسـهـا حـيـث خـرج أوّل صـبـحها من المدينة!! وهذا لاينسجم ـ من حيث سعة الوقت ـ مع الاخبار التي تتحدّث عن ذهابه إلي زيـارة قبر جدّه (ص) مرّتين، وذهابه إلي زيارة قبر أمّه وأخيه (ع)، ولقائه مع كلٍّ من أمّ سلمّة رضي اللّه عنها ومحمّد بن الحنفيّة (ر)، وعمر الاطرف، ونساء بني هاشم، ومروان بن الحكم وغـيـرهـم... فـسـواد تـلك الليـلة لايـتـّسـع لكـلّ ذلك، فـضـلاعـن الوقـت الذي يستلزمه الاعداد للرّحيل، فضلاعن أنّ لقاءه (ع) مع الوليد بن عتبة كان في ساعة متأخّرة من تلكم الليلة.

وتقول بـعـض المـصـادر الاخـري: (وخرج الحسين في الليلة الاتية بأهله وفتيانه، وقد اشتغلوا عنه بابن الزبير، فلحق بمكّة). [2] .


وهـذا يـعـنـي أنّ الامـام (ع) قـد خـرج فـي الليـلة التـي تـلت ليـلة اللقـاء مع الوالي، لكنّ هذا المـصـدر التـأريـخـي نـفـسـه (تـذكـرة الخـواصّ) يـنـقـل بـعـد ذلك مـبـاشـرة هـذا الخـبـر: (وقـال أبـوسـعـيـد المـقـري: سـمـعـت الحـسـيـن (ع) يـتـمـثـّل تـلك الليـلة وهـو خارج من المسجد بقول ابن مفرغ: [3] .



لاذعرت السوام في غسق الصبح

مغيرا ولادعوت يزيدا



يوم أُعطي من المهانة ضيما

والمنايا يرصدنني أن أَحيدا



قـال: فـقـلت فـي نـفـسـي ما تمثّل بهذين البيتين إلاّ لشيٍ يريده، فخرج بعد ليلتين إلي مكّة). [4] .

ويستفاد من هذا الخبر أنّ الامام (ع) قد خرج بعد ليلتين من ليلة اللقاء بالوليد بن عتبة، كما يـسـتـفـاد مـنـه أيـضـا أنـّه (ع) زار قـبـر جـدّه (ص) زيـارتـه الاولي فـي نـفـس ليـلة اللقاء [5] في الساعات الاخيرة منها.

وهـذا عموما يوافق المستفاد أيضا من سرد ابن أعثم الكوفي لمجريات أحداث القصّة في كتابه الفتوح. [6] .

يقول التأريخ:

(وخـرج حـسـيـن بـن عـليّ من منزله ذات ليلة (وهي ذات ليلة اللقاء بالوليد بن


عتبة كما بيّنّا)، وأتي إلي قبر جدّه (ص) فقال:

السـلام عـليـك يـا رسـول اللّه، أنـا الحـسين بن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلف الذي خلّفت علي أمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ اللّه أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذه شكواي اليك حتّي ألقاك صلّي الله عليك وسلّم.

ثمّ وثب قائما وصفّ قدميه، ولم يزل راكعا وساجدا...

قـال: وأرسـل الوليـد بـن عـتـبـة إلي مـنـزل الحـسـيـن ليـنـظـر هـل خـرج مـن المـدينة أم لا، فلم يصبه في منزله فقال: الحمدللّه الذي لم يطالبني اللّه عزّ وجلّ بدمه، وظنّ أنّه خرج من المدينة.

قال: ورجع الحسين إلي منزله مع الصبح!) [7] .

(قـال: وأصـبـح الحسين من الغد، خرج من منزله ليستمع الاخبار، فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه...). [8] .

لنتابع ما حدث في الليلة الثانية...

يـقـول صـاحب الفتوح: (... فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلي القبر أيضا فصلّي ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول:

أللّهـمّ، هذا قـبـر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الامر ما قد علمت، أللّهمّ وإنّي أحـبّ المـعـروف وأكـره المـنـكـر، وأنـا أسـألك يـا ذا الجلال


والاكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلاّ ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضي.

قـال: ثـمّ جـعـل الحـسـيـن (ع) يـبـكـي، حتّي إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه علي القبر فـأغـفـي سـاعـة، فرأي النبيّ (ص) قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّي ضمّ الحسين إلي صدره وقبّل بين عينيه.

وقـال: يـا بنيّ يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولامذبوحا بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمـّتي، وأنت في ذلك عطشان لاتُسقي، وظمآن لاتروي، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم!، لاأنـالهـم اللّه شـفاعتي يوم القيامة! فما لهم عنداللّه من خلاق. حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليّ، وهم إليك مشتاقون. وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة.

قال: فجعل الحسين ينظر في منامه إلي جدّه (ص) ويسمع كلامه..

وهو يقول: يا جدّاه، لاحاجة لي في الرجوع إلي الدنيا أبدا، فخذني إليك، واجعلني معك إلي منزلك.

قال: فقال له النبيّ (ص): يا حسين، إنّه لابدّ لك من الرجوع إلي الدنيا حتّي ترزق الشهادة وما كـتـب اللّه لك فـيـهـا مـن الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّي تدخلوا الجنّة). [9] .

... وانتبه الامام (ع) وقصّ رؤياه علي أهل بيته وبني عبدالمطلّب (فلم يكن ذلك اليوم


في شرق ولاغرب أشدّ غمّا من أهل بيت الرسول (ص) ولاأكثر منه باكيا ولاباكية.) [10] .

ويـقـول صـاحـب الفـتوح: (وتهيّاء الحسين بن علي (ع) وعزم علي الخروج من المدينة ومضي في جـوف الليـل إلي قـبـر أمـّه فـصـلّي عـنـد قبرها وودّعها ثمّ قام عن قبرها وصار إلي قبر أخيه الحـسـن (ع) فـفـعـل مـثـل ذلك، ثـمّ رجـع إلي مـنـزله. وفـي وقـت الصـبـح أقبل أخوه محمّد بن الحنفية). [11] .

ومـع أنّ ابن أعثم لم يحدّد أيّة ليلة كانت تلك الليلة التي زار فيها الامام (ع) قبر أمّه وقبر أخـيـه (ع)، إلاّ أنّ القـريـنـة فـي قـوله: (وفـي وقـت الصـبـح أقـبل إليه أخوه محمّد) كاشفة عن أنّ تلك الليلة هي الليلة التي سبقت ليلة السفر إلي مكّة، لانّ لقـاء أخـيـه مـحـمّد معه (ع) كان في آخر نهار له (ع) في المدينة (علي ما في الفتوح) كما سيأتي.


پاورقي

[1] اللهوف: 13.

[2] تـذکـرة الخـواصّ: 214؛ وهـذا يـوافـق مـا فـي إرشـاد المـفـيـد4: 222 حـيـث يـقـول: (فـأقـام الحسين (ع) في منزله تلک الليلة (يعني ليلة لقاء الوالي) وهي ليلة السبت لثـلاثٍ بـقـيـن مـن رجـب سنة ستّين من الهجرة... فکفّوا تلک الليلة عنه ولم يلّحوا عليه، فخرج الحسين (ع) من تحت ليلته وهي ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب متوجّها نحو مکّة...).

[3] هو يزيد بن مفرغ الشاعر المشهور، وقد روي البيت في مصادر أخري بتفاوت يسير.

[4] تذکرة الخواصّ: 214.

[5] کـمـا رجـّح ذلک السـيـّد المـقـرّم فـي کـتـابـه المـقـتـل: 131؛ حـيـث يـقـول: (وفـي هـذه الليـلة زار الحـسـيـن قـبـر جـدّه (ص) فسطع له نور من القبر...).

[6] راجع الفتوح، 5: 16 ـ 22.

[7] الفتوح، 5: 18؛ وفي بحار الانوار، 44: 327 ـ 328 بتفاوت يسير.

[8] الفتوح، 5: 16 ـ 17 وقد ذکرنا تفصيل هذه اللقاء بين الامام (ع) وبين مروان في

الفصل الثالث تحت عنوان: (مروان... والغرض المزدوج)، فراجع.

[9] الفـتـوح، 5: 18 ـ 19: و ورد فـي الهـامـش: (قـال الحـدّادي: فـرفـع النـبـي (ص) يـده ورأسـه إلي السـمـاء فـقـال: أللّهـمّ أفـرغ عـلي حـبـيـبـي الصـبـر وأعـظـم له الاجـر. (عـن هـامـش المقتل).

[10] الفـتـوح، 5: 18 ـ 19 ومـمـّا يـؤسف له أنّ ابن أعثم الکوفي في هذا الخبر يقع في الغـفـلة أو الجـهـل (وأخـذ عـنـه ذلک مـؤرّخـون آخـرون) حـيـث يـقـول: (فـانـتـبـه الحـسـيـن مـن نـومـه فـزعـا مـذعـورا فـقـصّ رؤيـاه...)!! تـُري هـل يـمـکـن أن يـفـزع سـيـّد الشهداء(ع) ويذعر من بشري الشهادة والدرجة الرفيعة!؟ أم يزداد سرورا وأنسا؟ وهو الذي کان يترقّب هذه الشهادة ويخبر الناس عنها منذ طفولته!!.

[11] الفتوح، 5: 19 ـ 20.