بازگشت

لماذا لم يبق الامام في المدينة المنورة


لماذا عزم الامام الحسين (ع) علي ترك المدينة المنوّرة وآثر الخروج منها؟

ألم يـكـن له فـيـهـا مـأمنٌ مع كثرة من فيها من بني هاشم والصحابة من مهاجرين وأنصار وكثرة من فيها من التابعين!؟

هـل كـان هـناك من يستطيع أن يجسر علي قتال الامام الحسين (ع) في المدينة ومواجهته فيها مواجهة عـسـكـريـّة عـلنـيّة مع ما كان يتمتّع به الامام (ع) من قدسيّة خاصّة ومنزلة سامية وشأن رفيع في قلوب أهل المدينة!؟

هل كان ثَمَّ احتمال لاغتيال الامام (ع) في المدينة!؟

وهـل كـان خـروج الامـام (ع) (خائفا يترقّب) خشية من تحقّق هذا الامر خوفا علي نفسه الشريفة وعلي صفوة أنصاره من أهل بيته وأصحابه!؟

أم أنّ الامام (ع) أراد من وراء كلّ ذلك أمرا آخر؟

لايـخفي علي متأمّل أنّ احتمال وقوع مواجهة عسكريّة في المدينة بين الامام (ع) وأنصاره من جهة وبـيـن قـوّات السلطة الامويّة من جهة أخري كان احتمالاقويّا بسبب رعونة يزيد بن معاوية التي تـجـسـّدت فـي أوامـره المـشـدّدة لوالي المـديـنـة آنـئذٍ الوليـد بـن عـتـبـة بـقـتـل الامـام الحـسين (ع) في حال رفضه البيعة،


خصوصا في رسالته الاخيرة إلي الوليد الذي ذكـر له فـي رسـالة بـعـد لقائه بالامام (ع) وإعلان الامام (ع) رفضه المبايعة: (أنّه ليس يري لنا عليه طاعة ولابيعة)، [1] حيث غضب يزيد لذلك غضبا شديدا، وكان إذا غـضـب انـقلبت عيناه فعاد أحول، وكتب إلي الوليد قائلا: (من عبداللّه يزيد أمير المؤمنين إلي الوليـد بـن عـتـبـة. أمـّا بـعـدُ: فـإذا ورد عـليـك كـتـابـي هـذا، فـخـذ البـيـعـة ثـانـيـا عـلي أهـل المـديـنـة بتوكيد منك عليهم، وذر عبداللّه بن الزبير فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبدا مـادام حـيـّا، وليـكـن مـع جوابك إليَّ رأس الحسين بن عليّ، فإذا فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الاوفر والنعمة واحدة، والسلام). [2] .

وعـلي فـرض أنّ والي المـديـنـة الوليـد بـن عـتـبـة لم يـكـن ليـمـتـثـل لامـر يـزيـد بـقـتـل الامـام (ع)، حـيـث يـروي التـأريخ أنّه لمّا ورد عليه كتاب يزيد قـال: (لاواللّه لايـرانـي اللّه قـاتـل الحـسـيـن بـن عـليّ، وأنـا لاأقتل ابن بنت رسول اللّه (ص) ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها)، [3] فإن يـزيـد لن يـُعـدم أمـويـّيـن آخـريـن يـُسـارعـون إلي تـنـفـيـذ أوامـره بقتل الامام (ع)، من أمثال مروان بن الحكم وأضرابه، وحادثة المواجهة المسلّحة التي كادت أن تـقـع بـيـن الامـويـّيـن بقيادة مروان بن الحكم وبين بني هاشم في يوم دفن الامام الحسن (ع) خير شاهد علي ذلك.

لكـنّ المـتـأمـّل يـجـد أنّ الامـويـّيـن أنـفـسـهـم لايـرون هـذا الاخـتـيـار أفـضـل من اختيار اغتيال الامام الحسين (ع) في صورة غامضة يمكنهم فيها الظهور بمظهر البُرَآء مـن دمـه، بـل ويـمـكـنـهـم فـيـهـا تـمـثـيل دور المطالب بدمه، فيتقرّبون بذلك إلي قلوب الامّة


ويفوزون بميلها إليهم.

إنّ مـن الامـويـّيـن نـخبة من أهل الدهاء والتخطيط والتدبير، كما إنّ فيهم جماعة من الحمقي وذوي الخـرق والاعتساف، ولاشك أنّ أهل الدهاء ـ علي منهج معاوية في التخلّص من أعدائه ـ يرجّحون أسلوب الاغتيال علي أسلوب المواجهة المسلّحة المكشوفة.

لقـد كـان احـتـمـال الاغـتـيـال هـو الاحتمال الاكبر، وقد حسب له الامام الحسين (ع) حسابه الواقعي فاستبق الاحداث زمنيا تحسّبا من تحقّقه وخرج من المدينة.

وكـفـي بـرسـائل يـزيـد إلي الوليـد بـن عـتـبـة دليـلاعـلي عـزم يـزيـد وتـصـمـيـمـه عـلي اغـتـيـال الامـام (ع) بـشـكـل غـامـض أو صـريـح، غـيـر أنّ مـن الدلائل التـأريـخـيـّة الاخري علي ذلك ما ورد في رسالة ابن عبّاس إلي يزيد حيث خاطبه فيها قـائلا: (... ومـا أنـسَ مـن الاشـيـاء، فـلسـتُ بـنـاس اطـّرادك الحـسـيـن بـن عـلي مـن حـرم رسـول اللّه إلي حـرم اللّه، ودسـّك عـليـه الرجـال تـغـتـاله، فـأشـخـصته من حرم اللّه إلي الكـوفـة، فـخـرج مـنـهـا خـائفـا يـتـرقـّب، وقـد كـان أعـزّ أهـل البـطـحـاء بـالبـطـحـاء قـديـمـا، وأعـزّ أهـلهـا بـهـا حـديـثـا، وأطـوع أهـل الحـرمين بالحرمين لوتبوّاء بها مقاما واستحلّ بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حـرمـة البـيـت وحـرمـة رسـول اللّه، فـأكـبـر مـن ذلك مـا لم تـكـبـر حـيـث دسـسـت عـليـه الرجـال فيها ليقاتل في الحرم...)، [4] فهذا المقطع من رسالة ابن عبّاس كاشف عن أنّ يزيد سعي إلي اغتيال الامام (ع) في المدينة كما سعي إلي ذلك في مكّة المكرّمة.

واسـتـبـاقـا لمـا هـو مـتـوقـّع الحـدوث، فـقد خرج الامام (ع) بركبه من المدينة، إذ


لم تعد مدينة رسول اللّه (ص) مأمنا لابن بنت رسول اللّه (ص)!!

وصـحـيـح أنـّه (ع) كـان قـد خـرج مـن المـديـنـة خـشـيـة الاغـتـيـال خـوفـا عـلي نـفـسـه الشـريـفـة، وخـوفـا مـن أن تـهـتـك حـرمـة حـرم رسول اللّه (ص) بقتله غيلة أو في مواجهة مسلّحة، لكنّ الصحيح في العمق أيضا أنّ هذا الخوف كـان يـقـع ضـمـن إطـار خـوفٍ أكـبـر، وهـو خـوفـه (ع) مـن أن تـخـنـق ثـورتـه المـقـدّسـة قـبـل اشـتـعـالها بقتله غيلة في المدينة في ظروف زمانيّة ومكانيّة وملابسات مفتعلة يقوم بإعدادها وإخـراجـهـا الامويّون أنفسهم، يستطيعون من خلالها الاستفادة حتّي من حادثة قتله لصالحهم إعلاميا فتبقي مأساة الاسلام علي ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!!

كـان الامـام (ع) حـريـصـا عـلي أن يـتحقّق مصرعه ـ الذي كان لابدّ منه ما لم يبايع ـ في ظروف زمـانـيـّة ومـكـانـيـّة يـخـتارها هو (ع)، لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتمّ علي مصرعه، أو أن يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتختنق الاهداف المنشودة من وراء هذا المصرع الذي أراد منه (ع) أن تهتزّ أعماق وجدان الامّة لتتحرّك بالاتّجاه الصحيح الذي أراده (ع) لها.

فـكـان خـروجـه (ع) مـن المـديـنـة ـ وكـذلك مـن مـكـّة ـ فـي الاصـل انـفـلاتـا بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الامويّ، إضافة إلي خوفه (ع) من أن تهتك حرمة أحد الحرمين الشريفين بقتله.


پاورقي

[1] الفتوح، 5: 18.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق.

[4] تأريخ اليعقوبي، 2: 248 ـ 249.