بازگشت

شخصية الوليد بن عتبة


وقد يلاحظ أيضا في ظاهر حوار الاستشارة بين الوليد بن عتبة وبـيـن مـروان ابـن الحـكـم قـبـل الاجـتـمـاع مع الامام (ع)، وفي حوار الوليد مع الامام (ع) أثناء اللقـاء، أنّ الوليـد بـن عـتـبـة شـخـصـيـّة أمويّة متميّزة تُكنُّ الحبَّ للامام الحسين (ع) خاصّة ولاهل البيت (ع) عامّة!!

فـقـوله يـخـاطـب نـفـسـه بـعـد ما قراء كتاب يزيد الاوّل الذي أمره فيه بأخذ الامام (ع) أخذا شـديـدا لارخـصـة فـيه بالبيعة: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يا ويح الوليد ابن عتبة، من أدخـله فـي هـذه الامـارة!؟ مالي وللحسين بن فاطمة!؟) وقوله أمام مروان: (يا ليت الوليد لم يـولد ولويـكـن شـيـئا مـذكـورا!) وقـوله لمـروان: (فـليـس


مـثـل الحـسـيـن يـغـدر، ولايـقـول شـيـئا ثـمّ لايـفـعـل). وقـوله له أيـضـا: (ويـحك، أشرت عليّ بـقتل الحسين، وفي قتله ذهاب ديني ودنياي، واللّه ماأحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وأنّي قتلتُ الحـسـيـن بـن عـلي، إبـن فـاطـمـة الزهـراء، واللّه مـاأظـنّ أحـدا يـلقـي اللّه بـقـتـل الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان عنداللّه يوم القيامة لاينظر إليه ولايزكّيه وله عذاب أليم). وقـوله لمّا ورد عليه كتاب يزيد الثاني الذي أمره فيه أن يبعث إليه برأس ‍ الامام (ع) مـع الجـواب: (لاواللّه، لايـرانـي اللّه قـاتـل الحـسـيـن بـن عـليّ، وأنـا لاأقـتـل ابـن بـنـت رسـول اللّه (ص) ولو أعـطاني يزيد الدنيا بحذافيرها). [1] وقـوله لمـّا ظـنّ أنّ الامام (ع) خرج من المدينة: (الحمدللّه الذي لم يطالبني اللّه عزّ وجلّ بدمه). [2] .

كـلّ هـذه الاقـوال وأخـري نـظـائرهـا تدلّ في ظاهرها علي أنّ عند الوليد بن عتبة معرفة بالامام الحـسـيـن (ع) ومـحـبـّة له، وتوحي أنّ ثمّة مسحة من التديّن في قلبه، كانت السبب في الصراع البـاطـنـي فـي أعـمـاقـه بـيـن خـوفـه مـن اللّه وحـبـّه لاهـل البـيـت (ع) وبـيـن أن يمتثل لاوامر يزيد التي فيها ذهاب دينه ودنياه علي حدّ قوله.

لكـنّ هـنـاك نـصوصا أخري تدلّ دلالة مغايرة، وتؤكّد علي أنّ الوليد بن عتبة يخدم الحكم الامـويّ بـتـمـام الاخـلاص له، حـتـّي لو فـرضـت عـليـه هـذه الخـدمـة أن يـُغـلظ فـي القـول للامـام الحسين (ع) ويُسي إليه (وقد كان الوليد أغلظ للحسين...). [3] أو فـرضـت عـليـه هـذه الخـدمـة أن يـهـدّد الامـام الحـسـيـن (ع) بـالقـتـل، كما حصل بالفعل حين منع الوليد أهل العراق عن لقاء الامام (ع) فوبَّخه الامام (ع) قـائلا: (يـا ظـالمـا لنفسه، عاصيا لربّه، علامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما


جهلته أنـت وعـمُّك!؟). فـقـال الوليـد: (ليـت حـلمـنـا عـنـك لايـدعـو جـهـل غـيـرنـا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك، فلاتخطر بها فتخطر بك، ولو علمت ما يكون بعدنا لاحببتنا كما أبغضتنا). [4] .

ومـن كـلّ مـا تـقـدّم، ومن مجموع سيرة الوليد في منصب ولاية المدينة، يمكن أن نخلص إلي نتيجة عـامـّة هـي: أنّ الوليـد بـن عـتـبـة أمـويُّ مـخـلصٌ كلَّ الاخلاص للحكم الامويّ عن وعيّ تام لانتمائه القـبـلي وحـرص بـالغ عـلي تـقـديـم بـنـي أمـيـّة عـلي مـن سـواهـم، وهـذا لايـنـافي أنّه يري لاهـل البـيت (ع) منزلة خاصّة عند اللّه تعالي، ففي الامويّين أفراد من هذه الشاكلة، ممّن يحرص عـلي تـقـديـم آل امـيّة ويخدم مصلحة هذا الانتماء، وفي نفس الوقت يتمنّي ألاّ يصطدم مع بني هاشم عامّة وأهل البيت (ع) خاصّة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها، والوليد من هذا النوع.

لكـنّ هـذه الشـاكلة من الرجال تبقي غير مأمونة في لحظات الحرج الشديد، فقد تقدم علي تنفيذ أبـشـع الجـرائم امـتـثالالاوامر الحاكم الطاغية في حالة من حالات الضعف النفسي وطغيان حالة الازدواجية.

ولذا نـجـد الامـام (ع) يـصف الوليد بن عتبة بأنّه (غير مأمون) لرجاله الذين أوقفهم عند باب الوليـد ليـتـدخـّلوا إذا اقتضي الامر قائلا: (إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلّفني فيه أمرا لاأجيب إليه، وهو غير مأمون...). [5] .

هذا ويمكن القول أيضا: إنّ الوليد لم يعانِ من مشكلة عمليّة تذكر في منصب الولاية أيّام معاوية، لانّ مـعـاويـة كـمـا الوليـد كـان يحبّذ معالجة الامور المستعصية


بالمرونة واللين والدهاء أوّلاوبـالصبر عليها إذا اقتضي العلاج الصبر، لكنّ الوليد بعد موت معاوية مباشرة أصبح أمام مـشـكـلة أسـاسـيـّة كـبـيـرة فـي إدارة الامور، وهي أنّ أوامر يزيد وطريقة معالجته الامور، تتّسم بـالعجلة والاعتساف والشدّة وعدم التروّي خلافا لسنن النجاح في الادارة والحكم، الامر الذي أحـرج الوليد إحراجا شديدا في تنفيذ الاوامر المتشدّدة الصادرة إليه، وخصوصا في أصعب القضايا وهي أخذ البيعة من الامام الحسين (ع).

والظاهر من المتون التأريخيّة أن الوليد عالج المشكلة علي طريقته التي يراها بلون من الرفق والمـرونـة والدهـاء ـ لاكـمـا أراد يـزيـد ـ فـلم يـشـدّد عـلي الامـام (ع)، كـمـا احـتـال لاخـفـاء خـبـر مـوت مـعـاويـة عـن عـمـوم أهـل المـديـنـة حـتـّي خـروج الامام (ع) منها في خطوة لعـزل الامـّة عـن الامـام (ع)، إذ لم يـحـدّثـنا التأريخ المعتبر أنّه عقد اجتماعا عامّا للبيعة في المـديـنـة قـبـل خـروج الامـام (ع) مـنـهـا كـمـا بـيـنـّا ذلك مـن قبل، وهذه الطريقة التي سلكها الوليد خلافا للاوامر المحدّدة الشديدة التي أمره بها يزيد هي التـي أثـارت حنق يزيد عليه إذ سرعان ما عزله عن ولاية المدينة بعد خروج الامام الحسين (ع) منها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الاشدق بدلامنه.

وهنا لابدّ من تسجيل هذه الملاحظة التأريخيّة المهمّة وهي:

أنّ طـابع المرونة والرفق في تعامل الوليد مع الامام الحسين (ع) وتباعده عن إحراجه والتشدّد مـعـه كـان مـن الاسـبـاب التـي سـاعـدت الامـام (ع) عـلي الخـروج مـن المـديـنـة فـي ركـب مـن عـياله وأهـل بـيته وبعض أصحابه دونما أيّة ممانعة أو مضايقة أو خطورة تذكر، فلو كان الوالي هـو مـروان بـن الحـكـم مـثـلالكـان مـن المـحـتـمـل والمـتـوقـّع بـدرجـة كـبـيـرة أن يـُقـتل الامام (ع) غيلة أو لاأقلَّ من أن تفرض عليه إقامة جبريّة في المدينة ويمنع من مغادرتها، حيث تأخذ السلطة لذلك كلّ الاحتياطات


والاستعدادات اللاّزمة، فلايتسنّي للامام (ع) الانفلات مـن طـوق الحصار، ولاتسنح له فرصة الخروج بالثورة إلي رحاب أوسع، فتختنق في مهدها، ويُلقي عليها ألف حجاب وحجاب من أباطيل الاعلام الامويّ ودعاياته الكاذبة!

لقـد كـان وجـود الوليـد بـن عـتـبـة واليـا علي المدينة آنذاك من الفرص السانحة التي ساعدت الثـورة الحـسـيـنـيّة علي الانفلات من طوق الرصد الامويّ الذي كان يتوقّعها منذ موت الحسن (ع) ليخنقها في مهد انبعاثها.


پاورقي

[1] الفتوح، 5: 18.

[2] نفس المصدر، 5: 18.

[3] تاريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) تحقيق المحمودي: 200، حديث 255.

[4] أنساب الاشراف، 3: 156، حديث 15.

[5] الارشاد: 221.