بازگشت

لماذا لم يثر الامام الحسين علي معاوية


كـان رأي أهـل بـيـت العـصـمـة (ع) هـو رفض أن يكون معاوية حاكما ولو لمدّة سواد ليلة واحدة رفـضـا تـامـّا، ولم يـسـاوم أمير المؤمنين عليّ (ع) علي هذا المبدأ قيد أنملة، ورفض كلّ نصيحة تـدعـو إلي المداهنة في ذلك، وخاض حرب صفّين الطاحنة لتحقيق هذا الرفض، ثمّ لم يتزعزع عن هذا الرأي حتّي قتل (ع).

وواصـل الامـام الحـسـن (ع) الاصـرار عـلي هـذا الرأي، ولم يـأل جـهـدا فـي الاعـداد لتـحـقـيـق ذلك، لكـنّ نكد الدهر وانقلاب الامور اضطرّه في الختام إلي القبول بأَمَرِّ اختيار، وحسبك من أمرين أحلاهما مُرّ!، فسلّم الامر إلي معاوية مؤجّلاالحرب ضدّه إلي يـوم آخـر قد يأتي به مستقبل الايّام (فرأيت دفع هذه الحروب إلي يوم ما، فإنّ اللّه كلّ يوم هو في شأنٍ) [1] ، وانطوي علي ذلك حتّي مضي شهيدا (ع).

فـمـسـوّغـات الثـورة عـلي مـعـاويـة ودواعـيـهـا كـانـت قـائمـة ومـوجـودة مـنـذ أوّل يـومٍ من أيّام ولايته علي الشام، لكنّ دواعي الثورة عليه ودوافعها تكاثرت وتعاظمت بعد شـهـادة الامـام الحـسـن (ع)، وكـان الامـام الحـسـين (ع) يعلم ذلك ويشخّص أبعاده، ويصرّح به لثـقـاتـه، بـل وقـد صـرّح بـه لمعاوية نفسه في الكتب والمحاورات التي كانت بينهما، ومن هذه التصريحات علي سبيل المثال:

(وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السُّرُج، ولقد فـضـّلتَ حـتـّي أفـرطـتَ، واسـتـأثـرتَ حـتّي أجحفتَ، ومنعتَ حتّي بخلتَ، وجُرتَ حتّي جاوزتَ، وما بـذلت لذي حـقّ مـن أتـمّ


حـقـّه بـنـصـيـب، حـتـّي أخـذ الشـيـطـان حـظـّه الاوفـر، ونـصـيـبـه الاكمل...). [2] .

وممّا خاطبه به في رسالةٍ أخري:

(...وقـلتَ فـيـمـا قـلتَ: لاتـردَّ هـذه الامـّة فـي فـتـنـة، وإنـّي لاأعـلم لهـا فتنة أعظم من إمارتك عـليـهـا،وقـلتَ فـيـمـا قـلتَ: انـظـر لنـفـسـك ولديـنـك ولامـّة مـحـمـّد، وإنـّي واللّه مـا أعـرف أفـضـل مـن جـهـادك، فـإن أفعل فإنّه قربة إلي ربّي وإن لم أفعله فأستغفراللّه لديني وأسأله التوفيق لما يحبّ ويرضي...). [3] .

وهـنـا يـفـرض هـذا السـؤال نفسه علي مجري البحث وهو: لماذا لم يثر ولم يقم الامام الحسين (ع) علي معاوية أيّام إمامته مع توافر جميع الدواعي والدوافع للقيام بالثورة!؟

وفـي الاجـابة عن هذا السؤال لابدّ في البدء من تحديد الهدف المنشود من الثورة، فما هو هدف الامام الحسين (ع) من الثورة علي معاوية؟

لاشـك أنّ هدفه (ع) هوذات الهدف الذي أعلن عنه في قيامه ضدّ يزيد بن معاوية، وهو طلب الاصلاح في أمّة جدّه (ص) بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتضمّن ذلك من إزالة الحكومة الفاسدة وإقامة الحكومة الحقّة، من خلال قيام الامّة مع الامام (ع) لتحقيق نصر حاسم يتوفّر في ظلِّه هذا الهدف.

اوتـعـريـض الامـّة لصـدمـة مـروّعـة فـي الوجـدان وصـعـقـة كـبـري فـي الضـمـيـر مـن خـلال مـلحـمـة بـطـوليـّة وفـاجـعـة مـأسـاويـة تـنـتـهـي بـمـقـتـله (ع) ومـقـتـل أنـصـاره مـن أهـل بـيـتـه وصـحـبـه الابـرار الذيـن هـم صـفوة أخيار هذه الامّة، في إطار عـمـل إعـلامي


وتبليغي كبير ناجح يتكشّف نتيجة له كلّ الزيف الذي تستّر به معاوية، وتتراجع كلّ خـطـط وآثـار حـركة النفاق الحاكمة منذ يوم السقيفة إلي نقطة الصفر، ويعود الاسلام المحمّدي الخـالص خـالصـا مـن كـلّ شـائبـة، وتـتـحـرّر الامـّة روحـيـّا ونـفـسـيـّا مـن كـلّ آثـار التـضـليـل والافـسـاد الذي تـعـرّضت له بعد غياب النبيّ الاكرم محمّد (ص) وتتمزّق الغشاوة عن بصيرتها فتعرف الحقّ وأهله وتنهج علي هدي نوره.

فهل كان بإمكان الامام الحسين (ع) أن يحقّق أحد هذين الاختيارين في زمن معاوية؟

أمـّا الاخـتـيـار الاوّل، وهـو طـريـق الانـتصار العسكريّ الحاسم علي معاوية، فكان لابدّ فيه من تـعـبـئة شـطـر مـن الامـّة كـافٍ عـلي الاقـلّ لتـحـمـّل تـبـعـات ومقتضيات حرب طاحنة حتّي النصر، فهل كانت الامّة آنئذٍ تنطوي علي مثل هذا الاستعداد الكبير نفسيّا وعمليّا!؟

لنـقـراء هـذا المـقطع الذي يصوّر فيه صاحب كتاب (ثورة الحسين ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الانـسـانـيـّة) حـال الامـّة آنـئذٍ، يـقـول: (لقـد كـانـت حـروب الجـمـل وصـفـّيـن والنـهـروان، والحـروب الخـاطفة التي نشبت بين القطع السوريّة وبين مراكز الحـدود فـي العـراق والحـجاز واليمن بعد التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الامام (ع) حنينا إلي السـلم والمـوادعـة، فـقـد مـرّت عـليهم خمس سنين وهم لايضعون سلاحهم من حرب إلاّ ليشهروه في حرب أخري، وكانوا لايحاربون جماعات غريبة عنهم، وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالامـس، ومن عرفهم وعرفوه... وما نشك في أنّ هذا الشعور الذي بداء يظهر بوضوح في آخر عهد عـليّ (ع) إثـر إحـسـاسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم أفاد خصوم الامام من زعـمـاء القـبـائل ومـن إليـهم ممّن إكتشفوا أنّ سياسته لايمكن أن تلبّي مطامحهم التي تؤججها سـيـاسـة معاوية في المال والولايات، فحاولوا إذكاء


هذا الشعور والتأكيد عليه، وقد ساعد عـلي تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبليّة التي استفحلت في عهد عـثـمـان بـعـد أن أطـلقـت من عقالها بعد وفاة النبيّ (ص)، فإنّ الانسان ذا الروح القبليّة عالمه قبيلته، فهو ينفعل بانفعالاتها، ويطمح إلي ما تطمح إليه، ويعادي من تعادي، وينظر إلي الامور من الزاوية التي تنظر منها القبيلة، وذلك لانّه يخضع للقيم التي تخضع لها. وتتركّز مـشـاعـر القـبيلة كلّها في رئيسها، فالرئيس في المجتمع القبلي هوالمهيمن والموجّه للقبيلة كلّها... وقـد عـبـّر النـاس عـن رغـبـتـهـم فـي الدعـة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السوريّة التي كانت تغير علي الحجاز واليمن وحدود العراق، وتثاقلهم عن الاستجابة للامام (ع)حين دعاهم للخروج ثانية إلي صفّين.

فـلمـّا اسـتـشـهـد الامـام عـليّ (ع) وبـويع الحسن (ع) بالخلافة برزت هذه الظاهرة علي أشدّها، وبـخـاصـّة حـيـن دعـاهـم الحـسـن (ع) للتـجـهـز لحـرب الشـام، حيث كانت الاستجابة بطيئة جدّا. وبـالرغـم من أنّ الامام الحسن (ع) قد استطاع بعد ذلك أن يجهّز لحرب معاوية جيشا ضخما إلاّ أنـّه كـان جـيـشـا كـتـبـت عـليـه الهـزيـمة قبل أن يلاقي العدوّ بسبب التيارات المتعدّدة التي كانت تـتـجـاذبـه، فـقـد: (خـفّ معه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولابيه، وبعضهم محكّمة أي خـوارج يـؤثـرون قـتـال معاوية بكلّ حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شـكـّاك، وأصـحـاب عـصـبـيـّة اتـبـعـوا رؤسـاء قـبـائلهـم). وقـد كـان رؤسـاء القـبائل هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية الذي كتب إلي كثير منهم يغريهم بالتخلّي عن الحسن (ع) والالتـحـاق بـه، وأكـثـر أصـحـاب الحسن (ع) لم يستطيعوا مقاومة هذا الاغراء، فكاتبوا مـعـاوية واعدين بأن يسلّموا الحسن (ع) حيّا أو ميّتا. وحين خطبهم الامام الحسن (ع) ليختبر مدي إخـلاصـهـم وثـباتهم هتفوا به من كلّ جانب: البقية، البقية، بينما هاجمته طائفة منهم تريد قتله، هـذا فـي الوقـت الذي أخـذ الزعـمـاء يـتـسـلّلون


تـحـت جـنـح الليل إلي معاوية بعشائرهم!

ولمـّا رأي الامـام الحـسـن (ع) ـ أمـام هـذا الوقـع السـّيء ـ أنّ الظروف النفسيّة والاجتماعيّة في مـجـتـمـع العـراق جـعـلت هـذا المـجـتـمـع عـاجـزا عـن النـهـوض بـتـبـعـات القـتـال وانـتـزاع النـصـر، ورأي أنّ الحـرب سـتـكـلّفـه اسـتـئصـال المـخـلصـيـن مـن أتـبـاعـه بينما يتمتّع معاوية بنصر حاسم، حينئذٍ جنح إلي الصلح بـشـروط مـنـها ألاّيعهد معاوية لاحد من بعده، وأن يكون الامر للحسن (ع)، وأن يُترك الناس ويـؤمـنوا... ولقد كان هذا هوالطريق الوحيد الذي يستطيع الحسن (ع) أن يسلكه باعتباره صاحب رسالة قد اكتنفته هذه الظروف الموئسة...). [4] .

تـُري هـل بـقـيت الامّة ـ في العراق خاصّة ـ علي هذه الحال بعد ذلك، أم أنّها قد تغيّرت نحو الاحسن إلي درجة أن صار بالامكان أن يعتمد عليها الامام الحسن (ع) في حياته أو الامام الحسين (ع) بعده في تعبئة عامّة لحرب طاحنة حتّي النصر الحاسم علي معاوية!؟

صـحـيـح أنّ النـاس الذيـن كـرهـوا الحـرب لطول معاناتهم منها، ورغبة منهم في الدنيا والسلامة والدعـة، وطـاعـة لرغـبات زعماء قبائلهم، كانوا قد اكتشفوا بعد مدّة مدي الخطاء الذي وقعوا فيه بضعفهم عن القيام بتبعات القتال وخذلان الامام (ع)، بعد ما عرفوا طبيعة حكم معاوية وذاقوا طعم واقعيّته، وما يقوم به من اضطهاد وإرهاب، وتجويع وحرمان، ومطاردة مستمرّة، وخنق للحرّيات واسـتـهـزاء بـالشـريـعـة واسـتـخـفـاف بـالقـيـم، وإنـقـاص مـن أعـطـياتهم ليُزاد في أعطيات أهـل الشـام، وحـمـل مـعـاويـة إيـّاهـم عـلي محاربة الخوارج، الامر الذي لم يُتح لهم أن ينعموا بـالسـلم الذي كـانـوا يـحـنـّون إليـه والدعـة التـي يـتـمـنّونها... فندموا علي ما فرّطوا في


جنب أهل البيت (ع)، (وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيّام عليّ فيحزنون عليها، ويندمون علي مـا كـان مـن تـفـريـطـهـم فـي جـنـب خـليـفـتـهـم ويـنـدمـون كـذلك علي ما كان من الصلح بينهم وبين أهـل الشام، وجعلوا كلّما لقي بعضهم بعضا تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يـكـون، ولم تـكـد تـمضي أعوام قليلة حتّي جعلت وفودهم تفدُ إلي المدينة للقاء الحسن (ع)، والقول له والاستماع منه...). [5] .

وصـحـيح أنّ كثيرا من الناس، وعامّة أهل العراق بنوع خاصّ، صاروا يرون بغض ‍ بني أميّة وحبّ أهل البيت (ع) دينا لهم، نتيجة ظلم معاوية وجوره وبُعده عن الاسلام، لكنّ هذه العاطفة لم تستطع أن تـخـتـرق حـاجـز الازدواجـيـّة فـي الشـخـصـيـّة عـنـد أكـثـر هـؤلاء، بـل ظـلّت تـعـشـعـش فـي إطـارهـا فـي بـاطـن الشـخـصـيـّة الرافـض لال أمـيـّة ولحـكـمـهـم خـلافـا لظـاهـر الشـخـصـيـّة المـطـيـع لكل أوامرهم، فهم في إزدواج الشخصيّة كما وصفهم أمير المؤمنين عليّ (ع) في ظلّ ظلم بني أميّة حيث قال:

(واللّه لايـزالون حتّي لايدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه، ولاعقدا إلاّ حلّوه... وحتّي يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه، وحتّي تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه...). [6] .

فـالوصـف العـام للامـّة آنـئذٍ هو أنّ جُلَّها خاضع لارادة الحكم الامويّ طائع لامره، سواء الذين عـُمِّي عـلي بـصـيـرتـهـم تـحـت تـأثـيـر التـضـليـل الامـويّ، فـتـوهـّمـوا أنّ


الاسـلام مـتـمـثّل بحكم معاوية، أو ضعاف النفوس الذين قادهم حبّ الدنيا فباعوا دينهم بدنيا غيرهم، أو الذين عرفوا الحقّ وأهله فأحبّوهم في الباطن وتنكّروا لهم في الظاهر خوفا من الارهاب الامويّ، وفي القليل المتبقّي كثير ممّن يمنعه الشلل النفسي عن نصرة الحقّ والالتحاق بركبه مع معرفته بأهل الحقّ (ع)!

هـذا الوصـف العـام ظـلّ مـنـطـبـقـا عـلي هـذه الامـّة حـتـّي بـعـد مـوت مـعـاويـة!! إذن فـالامـّة لم تـتـأهـّل لكـي يـعـتـمـد عـليـهـا الامـام الحـسـيـن (ع) فـي التـخـطـيـط لحـرب طـاحـنـة تـقصر أو تطول حتّي النصر الحاسم علي معاوية، وشواهد هذه الحقيقة في الوصف العام للامّة كثيرة جدّا مرّ بنا بعضها في المدخل.

بـقـي الاخـتيار الثاني المتاح أمام الامام الحسين (ع) في الثورة علي معاوية، وهو تعريض الامّة لصـدمـة مـروّعـة فـي وجـدانـهـا وصـعـقـة كـبـري يـهـتـزّ لهـا ضـمـيـرهـا، مـن خـلال مـلحـمـة بـطـوليـّة مـأسـاويـّة تـنـتـهـي بـمـصـرعـه ومـصـرع أنـصـاره، مـقـرونـة بعمل إعلامي وتبليغي كبير ينجح في كشف الزيف الامويّ، وينهي الاثار العمليّة الناشئة عنه.

وهـذا الاخـتـيـار الذي كـُتـب له النـجـاح التـام أيـّام حـكـم يـزيـد، كـان مـحـكـومـا عـليـه بـالفـشـل التـام فـي حـيـاة معاوية، وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية، وأسلوبه الخاص في معالجة الامور، فإنّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بالمثابة التي يُتيح فيها للحسين (ع) أن يـقـوم بـثـورة مـدويـة، بـل الراحـج أنـّه كـان من الحصافة بحيث يُدرك أن جهر الحسين (ع) بـالثـورة عـليـه وتـحـريضه الناس علي ذلك كفيل بزجّه في حروب تعكّر عليه بهاء النصر الذي حازه بعد صلح الحسن (ع)، إن لم يكن كافيا لتفويت ثمرة هذا النصر عليه، لانّه عارف ـ ولاريب ـ بما للحسين (ع) من منزلة في قلوب المسلمين.


وأقرب الظنون في الاسلوب الذي يتبعه معاوية في القضاء علي ثورة الحسين (ع) ـ لوثار في عـهـده ـ هـو أنـّه كـان يـتـخـلّص مـنـه بـالسـمّ قـبـل أن يـتـمـكـّن الحـسـيـن (ع) مـن الثـورة، وقـبـل أن يـكون لها ذلك الدويّ الذي يموّج الحياة الاسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها هادئة ساكنة.

والذي يجعل هذا الظنّ قريبا ما نعرفه من أسلوب معاوية في القضاء علي من يخشي منافستهم له في السلطان، أوتعكير صفو السلطان عليه، فإنّ الطريقة المثاليّة عنده في التخلّص منهم هي القـضـاء عـليـهـم بـأقـلّ ما يمكن من الضجيج. ولقد مارس معاوية هذا الاسلوب في القضاء علي الحـسـن بـن عـليّ (ع)، وسـعـد بن أبي وقّاص، ومارسه في القضاء علي الاشتر لمّا توجّه إلي مـصـر، ومـارسـه فـي القـضـاء عـلي عـبـدالرحـمـن بـن خـالد بـن الوليـد لمـّا رأي افـتـتـان أهـل الشـام بـه. وقـد أوجـز هـو أسـلوبـه هـذا فـي كـلمـتـه المـأثـورة (إنّ للّه جـنـودا مـن العسل).

والذي يـرتـفـع بـهـذا الظنّ إلي مرتبة الاطمئنان ما نعلمه من أنّ معاوية كان قد وضع الارصاد والعيون علي الحسين (ع) وعلي غيره ممّن يخشاهم علي سلطانه، وأنّهم كانوا يكتبون إليه بما يـفـعـل هـؤلاء، ولايـغـفـلون عـن إعـلامـه بـأيـسـر الامـور وأبـعـدهـا عـن إثـارة الشـك والريـبـة)، [7] كـمـثـل مـا كـتـبـوا إليـه فـي أمـر جـاريـة كـان الحـسـيـن (ع) قـد أعـتقها ثمّ تزوّجها. [8] .

(فـلو تـحـفـّز الحـسـيـن (ع) للثّورة في عهد معاوية، ثمّ قضي عليه بهذه الميتة التي يفضّلها مـعـاويـة لاعـدائه، فـمـاذا كـانت تكون جدوي فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلي أن يكون واقعا يحياه الناس بدمائهم وأعصابهم، وما كان


يعود علي المجتمع الاسلامي من موته وقد قـضـي كـما يقضي سائر الناس بهدوء وبلاضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوي علويّ مات حتف أنـفـه، يـثـيـر مـوته الاسي في قلوب أهله ومحبّيه وشيعة أبيه إلي حين ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات). [9] .

وقـد صـرّح مـعـاويـة للامـام (ع) بـهذا التهديد بقوله: (...فإنّك متي تنكرني أنكرك، ومتي تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الامّة...). [10] .

ولو قـُدّر للامـام (ع) أن يخترق حصار جواسيس وعيون معاوية، ويقوم بالثورة عمليّا، فيخرج مـع صـفـوة أنـصـاره فـي جـيـش قـليـل العـدّة والعـدد، ويـتـّجـه إلي العـراق مـثـلا، فـهـل كـان سـيـنـجـح فـي صـنـع مـلحـمـة بـطوليّة مأساويّة يهتزّلها ضمير الامّة كما صنع ذلك بالفعل أيّام يزيد؟

وهـل كـان العـمل الاعلاميّ والتبليغي المطلوب في مثل هكذا نهضة أن ينجح في عهد معاوية كما نجح بالفعل في زمن يزيد؟

لاشـك أنّ مـعاوية في مثل هذا الفرض سيواجه مأزقا عمليّا صعبا، لكنّ معاوية من الدهاء والخبرة فـي معالجة المآزق بما يمكّنه من استيعاب هذا المأزق المحرج، والمتوقّع أنّه سيحاصر جيش الامـام الصـغـيـر، وسـيـحرص علي سلامة الامام (ع) وسلامة بني هاشم خاصّة، ويعفو عنهم بطريقة فنيّة مقرونة بعملٍ إعلاميّ كبير، تكون نتيجته سقوط الامام (ع) في عين الامّة وتجريده من قداسته الديـنـيـّة، وقـد يحجزه ومن معه بعد ذلك في الشام في إقامةٍ جبريّة لاتنتهي إلاّ بموته الذي قد يـكـون بـالسـمّ أيـضا... ويخرج معاوية من هذا المأزق في النهاية بمظهر من


عفا بعد المقدرة، وقـابـل الاسـأة بالاحسان، والقطيعة بالصلة، فيكسب قلوب الناس ‍ ويزدادون حبّا له ويزداد هـو شـأنـا وعـظـمـةً، وعـندها لايتحقّق للامام الحسين (ع) ما كان يؤمِّله في هذا التحرّك من أثرٍ إيجابيٍّ فضلاعن ما سيلحقه من آثار سلبيّة بسبب دهاء معاوية.

ولقـد صـرّح مـعـاويـة للامـام (ع) بـهـذا النـهـج حـيـن كـتـب إليـه عـلي أثـر قـضـيـّة الاموال المحمولة إليه التي أخذها الامام (ع) قائلا: (ولكنّني قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نـزوة، وبـودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنّني واللّه أتخوّف أن تبلي بمن لاينظرك فواق ناقة). [11] .

ولايـبـعـد أنّ مـعـاويـة يـتـمـنـّي لو يـوفّق لمثل موقف العفو هذا، فيطلق أساري بني هاشم في منّة يـقـابـل بها منّة الرسول (ص) علي الطلقاء في مكّة، فيكونون سواء في حلبة المفاخرة، وهذا ما كـان يـحـذره الامـام الحـسـن (ع) كـمـا مـرّ بـنـا، ولاشـك أنّ هـذا الامـر لم يـكـن ليـغـيـب عـن بال الامام الحسين (ع) أيضا.

وعـلي فـرض أنّ مـعـاويـة ـ لوثـار عـليـه الامـام (ع) ـ قـد يـضـطـرّ إلي قـتل الامام (ع) ومن معه من أنصاره، فإنّ في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص علي إسباغها علي سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة وفي صفة الشرعيّة التي أفلح في أن يسبغها علي مـنصبه لدي جانب كبير من الرأي العام الاسلامي ما يمكّنه من إطفاء وهج مصارع هؤلاء الثوّار، وإثـارة النـاس عـليـهـم لالهم، ذلك (لانّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه للناس حين يتسألون عمّا حمل الحسين (ع) علي الثورة، أو يجيب به الناس أنفسهم، هو أنّ الحسين طالب مـلك! ولو قـُتـل الحسين في سبيل ما توهّمه الناس هدفا من ثورته لما أثار قتله استنكارا، ولما عـاد قـتـله


بـشـي عـلي مـبـادئه ودوافـعـه الحـقـيـقـيـّة للثـورة، بـل ربـّمـا عـدّه فـريـق مـن النـاس مـسـتحقّا للقتل! ولن يُجدي الحسين (ع) وأنصاره أن يُعلنوا للنـاس أنّ ثـورتـهـم لحـمـايـة الديـن مـن تـحـريـف وتـزييف معاوية وإنقاذ الامّة من ظلمه، فلن يـصـدّقـهـم النـاس لانـّهـم لايـرون علي الدين من بأس، ولم يُحدِث معاوية في الدين حدثا ولم يجاهر بمنكر، بل سيري الناس أنّ مقالتهم هذه ستار يخفي مقاصدهم الحقيقيّة). [12] .

وعـلي كـلّ الفـروض، فـإنّ مـعـاويـة كـان سـيـسـتـثـمـر فـي سبيل تشويه ثورة الحسين (ع) لو ثار في عهده قضيّة الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسن (ع) مـع مـعـاويـة، فـلقد عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسين (ع) قد سلّما الامر إلي معاوية وعاهداه عـلي السـكـوت عـنـه، فـلوثـار الامـام (ع) لامـكـن مـعـاوية أن يصوّره بصورة الخائن الناقض لبيعته وميثاقه الذي أعطاه!

ولايـضـرّ مـعاوية هنا أنّه كان قد نقض العهد قبل ذلك ولم يف بشرط من شروطه، ولم يعرف له حرمة ولم يحمل نفسه مؤونة الوفاء به...

كـمـا لايـغـيـّر فـي النـتـيجة شيئا هنا أيضا سواء أكان الحسن والحسين (ع) بايعا أو لم يبايعا معاوية بل سلّما له الامر تسليما مشروطاً. [13] .

ذلك لانّ وسـائل معاوية الاعلاميّة المهيمنة علي أذهان عامّة الناس هي الغالبة والمؤثّرة في ميدان التبليغ والدعاية، وباستطاعتها التضليل تماما علي الرأي العام فيما تطرحه من إدانة دينيّة لقـيـام الامـام (ع). ثمّ إنّ نفس المجتمع الذي لم يكن أهلاللقيام بالثورة، والذي كان يؤثر السلامة والعافية، كان يري أنّ الامام (ع) قد بايع وعاهد، سواء كما هوالواقع أو كما أشاع الاعلام الامويّ فيه، فهو يري أنّ علي


الامام (ع) أن يفي بالعهد وألاّ ينقض البيعة.

إذن فـشـخـصـيـّة مـعـاويـة بـمـا انـطـوت عـليـه مـن دهـاء وحـيـلة ومـكـر وغـدر وطـول مـمـارسـة وتـجـربـة فـي العـمـل السـيـاسـي الاجـتـمـاعـي كـانـت العامل الاهمّ إن لم تكن العامل الوحيد الذي اضطرّ الامام (ع) إلي عدم القيام ضدّه.

ومـن هـنـا نـفـهـم سـرّ حصر السبب بوجود معاوية في الاجوبة التي أفاد بها الامام (ع) ردّا علي مـطـالب بـعـض شـيـعـتـه بـالنـهـضـة والقـيـام، كـمـثـل: (ليـكـن كـلّ رجـل مـنـكـم حـلسـا مـن أحـلاس بـيـتـه مـادام مـعـاويـة حـيـّا... فـإن هـلك مـعـاويـة نـظـرنا ونظرتم...) [14] أو (...فـالصـقوا بالارض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوي...مادام ابن هند حيّا) [15] أو (...مادام هذا الانسان حيّا). [16] .



پاورقي

[1] الاخبار الطوال: 220.

[2] الامامة والسياسة، 1: 187.

[3] نفس المصدر، 1: 182.

[4] ثورة الحسين (ع) ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الانسانيّة: 138 ـ 143.

[5] الفتنة الکبري، 2: 188.

[6] نهج البلاغة: 143 ـ 144، حديث 98.

[7] ثورة الحسين (ع) ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الانسانيّة: 153 ـ 155.

[8] زهر الاداب، 1: 101.

[9] ثورة الحسين (ع) ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الانسانيّة: 153 ـ 155.

[10] إختيار معرفة الرجال، 1: 252، حديث 99.

[11] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 18: 327.

[12] ثورة الحسين (ع) ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية: 158.

[13] کما ذهب إلي ذلک الشيخ راضي آل ياسين في کتابه القيّم صلح الحسن (ع).

[14] الامامة والسياسة، 1: 167.

[15] أنـسـاب الاشـراف، 3: 151، حـديـث 13.

[16] الاخـبـار الطوال: 221.